تفيد الأخبار الصحفية بأن الصحافة الورقية تُحتضر، وأن إعلان موتها مسألة وقت. وإذا كنتم ستقولون إنه "كلام جرايد"، فربما توجب عليكم أن تكونوا منصفين وتتذكروا أن الجرائد تصدق أحيانًا، وخاصةً وهي تتحدث عن موتها الوشيك.
ويكابر الكثير من صحفيي الورق، ومن عشاق الورق عامةً، ولهم الحق في أن يكابروا طبعًا. يقولون: إن هذا لا يمكن أن يحدث. غير أننا نعلم أن الأشياء تحدث بغض النظر عن رغبتنا أو عدمها، ودون أن تخيفها هذه الـ"لا يمكن" مهما كانت قوية وحاسمة.
ويقولون: إن الصحافة الورقية هي من أعظم "الاختراعات" البشرية. صحيح، وهذا كان حال النول اليدوي والمحراث الخشبي والمنجنيق والعربة التي يجرها حصان. مخترعات عظيمة لم تعصمها عظمتها من أن تتحول إلى مجرد مقتنيات متحفية، أو صور في كتب التاريخ.
ويقولون: بغض النظر عن كل ما يحدث، فإن معرفة الأخبار والوقائع ووجهات النظر فيها. هي جزء من ميل بشري، فطرة إنسانية، ولا يمكن للناس أن يتخلوا عن فضولهم إزاء العالم. وبالتالي فالصحافة الورقية سوف تبقى حية وإلى الأبد. وماذا عن الماء؟ إنه ضروري ليس لفضول البشر بل لحياتهم، والناس لا يمكنهم أن يتخلوا عن شربه. لكن هذا لا يعني الخلود لمهنة السقا. السقا، وكما يقول المصريون، مات.. "السقا مات" فعلًا.
حسنٌ، إذا كانت الصحافة الورقية تعيش اليوم حالة "الميئوس منه"، فهذا يجب ألا يحجب سيرتها الطويلة الفذة، وتاريخها المترع بالإنجازات الكبيرة (والأخطاء الكبيرة أيضًا وللأسف). على العكس، فهذا هو الوقت الذي يلح علينا أن نستذكر هذه السيرة ونقلب صفحات هذا التاريخ.
بدايات ورواد
في كتابه "تاريخ الصحافة العربية"، يقول فيليب دي طرازي إن أول صحيفة عرفها العالم بعد اختراع الطباعة كانت "غزتة" (غازيتا في لفظ آخر) الإيطالية، وظهرت في مدينة البندقية سنة 1566. و"غازيتا" هي عملة إيطالية متداولة في ذلك الوقت، وكانت هي ثمن المطبوعة فمنحتها اسمها. وقد شاع هذا الاسم في مختلف أنحاء العالم، لينافس أسماء أخرى أُطلقت على الصحف لعل أشهرها "الجورنال". وفي العالم العربي، في مصر خاصةً، أُطلق على الجريدة اسم "القزيطة"، وهو على الأرجح تحريف لـ"غازيتا".
غير أن مؤرخين كُثر لا يوافقون على هذا التحديد، فيتحدثون عن بدايات في أمكنة أخرى، مؤكدين أن المطبوعة الدورية الأولى في العالم ظهرت في ألمانيا على يد يوهان كارولوس، بين عامي 1605 و1609.

وكذلك، ففيما يرى البعض أن أول جريدة يومية كانت ألمانية وصدرت في لايبزيغ عام 1650، يؤكد دي طرازي أنها كانت "ديلي كوران" البريطانية، وصدرت سنة 1702.
المؤرخ الفرنسي إميل بوافان يتحدث في كتابه "تاريخ الصحافة" عن "ما قبل البدايات الفعلية"، حيث انتشرت في أماكن عديدة من أوروبا، بدءًا من القرن الرابع عشر، منشورات غير دورية تحمل الأخبار المتنوعة، وبعضها كان مليئًا بالنميمة وحكايات الفضائح، وكانت هذه النشرات تُكتب بخط اليد قبل أن تظهر المطبعة وتمنحها فرصة أكبر للانتشار. وما الـ"غازيتا" إلا واحد من هذه المنشورات، فكان أهل البندقية يدفعون "غازيتا" واحدة ليحصلوا على موجز أنباء حربهم مع الأتراك.
أما البداية الفعلية للصحافة، بمعناها الحديث، فقد تأخرت، حتى مطلع القرن السابع عشر، حيث "نشأت الجريدة في وقت واحد تقريبًا في فرنسا وإنجلترا وبولندا". ويتحدث بوافان عن تيوفراست رينودو بوصفه أول صحفي فرنسي، وعن جريدته "لا غازيتا" (1631) كأول جريدة في فرنسا، ومن أوائل الجرائد الحقيقية في العالم.
من الطبيعي أن يسود بعض التضارب في تحديد البدايات الأولى، إذ إن التأريخ للصحافة قد تأخر، وقد ولدت صحف كثيرة، وماتت أخرى أكثر، قبل أن يبدأ اهتمام فعلي وعلمي بهذا التأريخ. كتب سانت بيف في مقال له بمجلة "العالمين"، في 21 ديسمبر/كانون الأول سنة 1839، يقول: "ينبغي أن يُكتب تاريخ الصحف؛ فقد حان الوقت لتدوين هذا التاريخ، بل لقد أصبح الوقت متأخرًا ويُخشى ألا يمكن إنجازه فيما بعد".
أما عربيًا، فقد أورد دي طرازي تواريخ ومعلومات يمكن الاطمئنان لها إلى حد بعيد:
- أول جريدة تظهر في العالم العربي كانت "الحوادث اليومية"، سنة 1799، التي أسسها الفرنسيون في مصر إثر حملة نابليون. لكن هذه الجريدة لم تعمر كثيرًا، إذ سرعان ما ذهبت بذهاب الحملة. لذلك يعتبر البعض أن أول جريدة بالفعل هي "الوقائع المصرية" التي أنشأها محمد علي، واستمرت لعقود بعده.
- "مرآة الأحوال" للحلبي السوري رزق الله حسون، هي أول جريدة عربية يؤسسها ويحررها عربي، وقد ظهرت في الأستانة عام 1854.
- "النحلة" وهي أول مجلة عربية مصورة، و"أبو نظارة" وهي أول جريدة عربية مرسومة بالألوان.
- أول من كتب عن الصحافة العربية، سنة 1884، هو هنري غلياردو القنصل الفرنسي في القاهرة.
- أول عربي يحضر مؤتمرًا بوصفه صحفيًا هو اللبناني أمين أرسلان، سنة 1897، في استوكهولم بالسويد.
- أول مدرسة للصحافة تأسست في باريس سنة 1899.
- أول متحف للصحافة تأسس في بروكسل عام 1907، وفي بروكسل أيضًا أقيم أول معرض للجرائد سنة 1893.
وفي الأسماء والمصطلحات، فإن خليل الخوري عندما أصدر "حديقة الأخبار" فقد استعار لها اللفظ الفرنسي "جورنال"، فيما سمى رشيد الدحداح مطبوعته "برجيس باريس" بـ "الصحيفة"، وأطلق أحمد فارس الشدياق على "الجوائب" وصف "جريدة". أما أول من أطلق مصطلح الصحافة، فكان نجيب الحداد حفيد ناصيف اليازجي. ولا تزال المفردات الأربعة (جورنال، صحيفة، جريدة، صحافة) تحتكر التعريف بالمهنة ومنتجاتها.
تمزيق بطيء لعباءة الأدب
في كتابه "عمالقة الأدب الغربي"، يفرد برتون راسكو فصلًا طويلًا للكاتب البريطاني دانييل ديفو (1660 ـ 1730) تحت عنوان "ديفو الصحافي"، ويقول المؤلف إن ديفو كان "الجد الأعلى لكتّاب المقالات الرئيسية ومثالهم المحتذى". وإذا كانت الصحف اليوم معتادة على إرسال مراسليها ومخبريها إلى أماكن الأحداث الكبرى والاستثنائية، فإن ديفو كان أول من فعل ذلك. ففي العام 1706، سافر بنفسه إلى كانتربري عندما شاع خبر ظهور شبح مفزع هناك "وقد بحث المسألة بحثًا دقيقًا.. تمامًا كما يبحثها اليوم نجم من نجوم المخبرين الصحفيين المدربين الأكفاء، وإن زاد موهبة على معظمهم".
وحسب راسكو، فإن ديفو كان أول من فعل كل شيء في الصحافة تقريبًا: أول من خصص ركنًا لأخبار الأسواق وأسعار السلع، وأول من عُني بأخبار الحوادث والجرائم، وأول من خصص بابًا للتسلية والمرح، وأول من اعتمد المقالات والمواد الساخرة "بل لقد كان يكتب في النقد الأدبي والنقد المسرحي وفي الألعاب الرياضية".
وإضافةً إلى ذلك، كان ديفو هو من دشن تلك الصلة العميقة بين الصحافة والأدب، إذ إن رائد الصحافة هذا هو من كتب أيضًا رائعة "روبنسون كروز" التي ما تزال واحدة من أشهر أيقونات الأدب. ويبدو أنه لم يكن يتعامل مع المجالين كمن يعيش بين غرفتين منفصلتين، بل كان يمزج الاثنين معًا ويسخّر أحدهما لخدمة الآخر. كان صحفيًا في الأدب، وأديبًا في الصحافة..
وفي كتاب بعنوان "الصحافة والرواية"، يتناول دوج أندروود هذا الالتحام بين النوعين المولودين في القرن السابع عشر، الرواية والصحافة، بدءًا من ديفو وصولًا إلى توم وولف في أواسط القرن العشرين، مرورًا بأسماء كثيرة لامعة مثل: جورج إليوت، مارك توين، تيودور درايزر، رديادرد كيبلنغ. كما يعرض اندروود للعلاقة المثمرة بين الفنين، وكذلك للالتباس وسوء الفهم المتبادل أحيانًا.
لكن العلاقة لم تقتصر على الرواية فحسب، إذ إن الصحافة، ومنذ نعومة أظفارها، كانت على تماس مع أنواع أدبية شتى، حتى إنها، في أمكنة عديدة من العالم، ولدت وترعرعت في أحضان الأدب، ولكثرة ما تبادلت الصحف خدمات، (أعارت واستعارت)، مع كل من المقال الأدبي، القصة القصيرة، الخاطرة، التأملات، المقال التربوي.
لكن الصحافة سوف تشق طريقًا خاصًا بها. سوف تخرج من عباءة الأدب، إذ إنها وعت سمتها الجماهيرية مبكرًا، وعرفت أنها لم تولد لتنحصر في دوائر النخبة الأدبية، بل لتخاطب الشرائح الأوسع من الجمهور. وكذلك فقد كان كل من الاقتصاد والسياسة بالمرصاد، إذ ثابرا على جعل الصحافة من بين أدواتهما في صياغة الرأي العام.
وفي المقابل، فقد وقعت الصحف في إغواء أن تكون قوة تأثير، أن تكون سلطة رابعة، إمبراطورية مردوخ لم تكن نموذجًا غير مسبوق في هذا المضمار، فقد سبق لسلسلة الصحف المملوكة من اللورد نورثكليف (1865 ـ 1922)، أن امتلكت القدرة على إسقاط وزارات وزعزعة برلمانات.
كل هذا تضافر لجعل الصحافة تعمل على صياغة شخصية مستقلة، فن خاص ومتفرد، صناعة قائمة بذاتها؛ لغة صحفية، وفنون كتابة صحفية، بل ورؤية صحفية للعالم.
غير أن الصلة بالأدب لن تنقطع تمامًا، فكثير من الأعمدة الصحفية ظلت تستعير صور الأدب ومجازاته، وكثير من الريبورتاجات بقيت قريبة من أن تكون قصصًا أدبية.
كما أن الحنين لإعادة الدمج بين المجالين ظل قائمًا، ففي الستينيات ظهرت في الولايات المتحدة مدرسة صحفية تسمى "الصحافة الجديدة"، وهي شبيهة بمدرسة "الصحافة الأدبية" التي شاعت في أميركا اللاتينية، وكلاهما يقوم على كتابة بعض الأنواع الصحفية، وخاصة الريبورتاج، بأسلوب وتقنيات الأدب. ومن بين الأسماء اللامعة في هذا النهج الكتابي: توم وولف وترومان كابوتي في الولايات المتحدة، وغابرييل غارسيا ماركيز في القارة اللاتينية.
عمالقة وأقزام
استثمرت الصحافة الورقية المنتجات الصناعية التقنية المتلاحقة وتطورت معها، واكبت التطور في صناعة المطابع والورق والآلات الكاتبة وأدوات المونتاج والتصوير، وانتقلت من صحف صغيرة الحجم بأربع أو ثمان صفحات إلى صحف كبيرة بعشرات الصفحات، التي تغطي كافة مجالات الحياة من سياسة واقتصاد وبيئة وثقافة ومجتمع وتسلية وموضة.
وكذلك تضاعفت أرقام توزيع الصحف من مئات وآلاف النسخ في زمن النشأة ومراحل التطور الأولى، إلى مئات الآلاف، بل والملايين، في القرن العشرين.
يورد إبراهيم عبده في كتابه "دراسات في الصحافة الأوروبية" هذه الإحصائية حول الصحف البريطانية مطلع الخمسينيات من القرن الماضي: توزع جرائد الصباح أكثر من 15 مليون نسخة، منها 268 ألف لجريدة "التايمز"، أكثر من مليون لجريدة "الديلي تلغراف"، نحو 4 ملايين لـ"ديلي إكسبريس"، 2 مليون "ديلي هيرالد"، 2 مليون "ديلي ميل".
أما جرائد يوم الأحد فتوزع نحو 25 مليون نسخة، وأبرزها صحف "أوبزرفر"، و"نيوز أف ذا ورلد"، و"صنداي تايمز".
ومقابل الكثير من الصحف والمجلات الشعبية التي اعتمدت الإثارة لكسب القراء، كان ثمة صحف ومجلات رصينة اهتمت بالتأثير معيارًا بديلًا عن أرقام التوزيع، وقد تطور بعضها لتغدو مؤسسات عملاقة صارت علامات بارزة في عصرنا، مثل: "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، و"التايم"، و"نيوزويك" في الولايات المتحدة.
"الغارديان" و"التايمز" في بريطانيا. و"اللوموند" و"الفيغارو" في فرنسا. و"الباييس" و"الموندو" في إسبانيا. "كوريري ديلا سيرا" و"لا ستامبا" في إيطاليا. "الاسبكتادور" في كولومبيا. "الأهرام" و"روز اليوسف" في مصر. "النهار" التي كانت تقف إلى جانب "الحياة" و"السفير" الراحلتين في لبنان.

وإلى جانب التطورات التقنية، لعبت الأحداث السياسية والحراكات الاجتماعية الكبرى دورًا كبيرًا في إنضاج الصحافة، وربما كانت الثورة الفرنسية (1789) هي المعترك الأول لمهنة المتاعب، المختبر الذي سيصوغ كثيرًا من توجهاتها وأدوارها ورؤيتها لنفسها وللعالم. يومها كتب لويس لوبلان: "حينما تضطرم أفكار الناس وتدق القلوب بشدة وتهتز كل الشفاه فتعبر عن العواطف الثائرة بكلمات من نار، وحينما يحس الذين يتدافعون في سبيل الحياة أن يومهم قد قضى على أمسهم.. عندئذ ينقضي بالنسبة إليهم عهد الكتب ويبدأ عهد الصحف". ولقد شكل جان بول مارا وصحيفته الشهيرة "صديق الشعب" النموذج الأوضح عما يمكن للصحافة أن تفعله، وعن الأدوار الكبيرة التي تقف بانتظارها في المستقبل.
وتتالت الأحداث الجسام: الحروب النابليونية، الوحدة الإيطالية، الوحدة الألمانية، كومونة باريس، العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، ومعها ازداد حجم الصحافة وتعاظم تأثيرها لتصل أوجها في الحرب الباردة، عندما تحولت إلى سلاح فتاك بين أيدي الفريقين، حتى أن البعض يصور تلك الحرب على أنها حرب صحف.. حرب إعلام قبل أي شيء.
وفي هذا المسار الصاعد حققت الصحافة الورقية إنجازات كبرى، فقدمت الآلاف من مراسليها ضحايا لحروب أرادت تغطية مجرياتها ونقلها للرأي العام، وكشفت شبكات فساد، وتصدت لمتنفذين يعادون مصالح الشعوب، حتى أن صحفيين أميركيين (كارل برنستين وبوب وودورد من واشنطن بوست) ساهما في إسقاط رئيس الدولة الأعظم في العالم (فضيحة ووتر غيت).
ولكنها أيضا ارتكبت الكثير من الأخطاء والخطايا. صحف كثيرة زيفت الحقائق وضللت القراء، حرضت ضد الأقليات والشعوب الأخرى، تبنت النظرة العنصرية، وكانت أبواقا لحكام مستبدين طغاة..
ومقابل صحفيين كثر استسهلوا المهنة ومروا في أروقتها بلا أثر، فقد أنتجت الصحافة أسماء لامعة كثيرة، قامات كبيرة وقفت إلى جانب كبار السياسيين ورجال الأعمال ونجوم الفن والأدب: أي اف ستون، ريزارد كابوشينسكي، وليم شيرر، محمد التابعي، مصطفى امين، محمد حسنيين هيكل، نجيب الريس..
كما أن الصحف والمجلات الورقية اعتادت، عبر كل تاريخها، أن تستضيف مشاركين من تخصصات علمية وفكرية عديدة: أدباء، ساسة، مفكرون، فلاسفة، علماء اقتصاد، علماء اجتماع. وفي قائمة هؤلاء نجد: كارل ماركس، جان بول سارتر، البير كامو، ميشيل فوكو، جون ماينارد كينز، آرثر كوستلر، طه حسين، توفيق الحكيم، عباس محمود العقاد..
ويقول إميل بوافان إن نابليون بونابرت اعتاد، عندما كان ضابطًا أن يراسل، وتحت أسماء مستعارة، العديد من الصحف والمجلات، وبعد أن أصبح قنصلًا ثم امبراطورًا أسس الكثير من الصحف، ولم يكتف بأن يكون مالكها، إذ عمل بها مراسلًا ومحررًا ومنقحًا ورقيبًا ورئيس تحرير!












