يشترك حافظ الأسد في طريقة تعامله مع الصورة، واستخدامه لها، مع عددٍ من الدكتاتوريين ومنهم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الذي أغرق العراق بصوره التي لم تكن متشابهة أو ذات نمط واحد، بدل متبدّلة ومتغيّرة تبعًا للحالة الراهنة، فكانت للأحوال العادية صورها الخاصة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحرب مع إيران، ثم غزو الكويت وما ترتب عليه.
وباستثناء الصور التي عمل نظامه على إنتاجها خلال الحرب مع إيران، بوصفها جزءًا من عملية شخصنة الحرب، تبدو معظم صور صدام الأخرى استعراضية تدور مدار المباهاة بقوّة شخصية فرديّة متخيّلة لا يمكن استعراضها إلا من خلال الصورة.
يُبيِّن نموذج صدام الاستعراضي في استخدام الصورة فرادة استخدام حافظ الأسد لها وغايته منها أيضًا، إذ لم تكن للأسد الأب الصور التي كانت لصدام من حيث تنوّع اللقطات وتعدّدها، كما أنها لم تكن مبهرة كما هي صور خصمه في العراق، إذ يظهر حافظ الأسد في صوره القليلة والمتشابهة ببدلة رسمية وملامح باردة لا تتغيّر. وإذا كانت صور صدام حسين مُلتقطة لأجل الإشارة إلى صفات خارقة، فإن صور حافظ لا تُشير إلى شيء آخر سوى الغموض الذي لا يحقق شروط الاستعراض.
يضعنا ما سبق أمام تساؤلات عديدة ملحة: إذا لم يكن الاستعراض غاية حافظ الأسد من صوره، فما هي غايته منها إذًا؟ أو، بعبارة أخرى: ما الدور الذي لعبته صورته في الحياة السياسية؟ وكيف جرى استخدامها؟
أدت صورة حافظ الأسد في الحياة السياسية السورية وظائف عديدة، ما يعنينا منها، أولًا: إضفاء صفة الغموض وهالة القداسة على شخصه. وثانيًا: الإكراه. فالصور إحدى ركائز القوة الرمزية لنظامه في عصر كان باستطاعته فيه السيطرة على البث والنشر، ما أتاح له نشر الصور التي يُريد وبالطريقة التي يُريد، فقدّم للسوريين عدة صور متطابقة لدرجة أنه يمكن عدّها صورة واحدة، يظهر فيها غامضًا ومثيرًا مثل لغز.
أصبح حافظ الأسد بفعل هذا الغموض، الذي يُعد أبرز سماته في نظر خصومه وحلفائه، أيقونة ضمنت له إلى حدٍ ما الخلود الذي لطالما سعى إليه وابتكر لتحقيقه منظومة متكاملة من الرموز أساسها اللغة والصور والتماثيل. وإذا كان الغموض لا يحقق شروط الاستعراض، فإنه يستطيع تحويل الصورة إلى أيقونة.
ولكونها جزءًا من منظومة رمزية أسستها السلطة، أدّت الصورة دورًا محوريًا في خلق ظاهرة تقديس الحاكم التي لم تكن موجودة قبل استيلائه على السلطة. ولعبت، في الوقت نفسه، دورًا مؤثرًا في شخصنة السلطة وتحديدها في شخص الأسد نفسه الذي أخذت تُقدِّمه في مرحلة لاحقة، بين منتصف الثمانينيات وحتى وفاته في منتصف عام 2000، بوصفه "أبًا" للسوريين وليس مجرد رئيس فقط. وهذه إحدى أهم الخطوات في طريق بلوغ الخلود المأمول والمشتهى.
لم يختلف استخدام نظام الأسد للصورة على هذا النحو عن غيره من الدكتاتوريين إلا في حالة الغموض الذي أحاطته به، إضافةً إلى جعله أيقونة استطاع عبرها احتلال الفضاء العام، وأصبح بفعلها جزءًا من الحياة اليومية للسوريين مؤيدين ومعارضين في آنٍ معًا. أو، بمعنى آخر، اختار الأسد أن يكون حاضرًا بين السوريين عبر صورته بحيث يتفرّغ هو لمتابعة شؤون حكمه بنفسه في مرحلة سمتها الأبرز عدم الاستقرار سواء في الداخل أو الخارج. ولا يجب هنا إغفال الدور الذي لعبته الاحتفالات والمهرجانات والمناسبات الوطنية في إثبات حضوره.
يُوضّح ما سبق الدور الرمزي الذي لعبته الصورة في الحياة السياسية السورية خلال عهد حافظ الأسد. لكن هذا الدور، رغم أهميته في شخصنة السلطة وحصرها في شخص حافظ، ثم تحويله من رئيس للدولة إلى "أبٍ" لها، إضافةً إلى إضفاء صفة الغموض وهالة القداسة عليه؛ يبقى متواضعًا مقارنةً بدورها في ممارسة القمع والإكراه والمراقبة والهيمنة التي ساهمت في خلق حالة من الاستقرار السياسي، ورغبة جماعية باستمراره، لعبت دورًا محوريًا في توريث الحكم لبشار بعد وفاة حافظ (يذكر المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه "سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن" أن السوريين تغاضوا عن عملية توريث الحكم لبشار رغبةً منهم في الحفاظ على الاستقرار، وعدم جر سوريا إلى حافة الصراعات، أو لتجنّب موجة من القمع الجماعي).
يعود هذا الدور، زمنيًا، إلى ما قبل ثمانينيات القرن الماضي في مرحلته الأولى، حيث كانت الصورة لا تزال جزءًا من طقوس تعظيم الحاكم التي، وللمفارقة، لم يكن السوريون مقتنعون بها لكنهم كانوا يُمارسونها رغمًا عنهم. أو، بمعنىً آخر، يُمارسونها مُكرهين. ما يعني أن وظيفتها تمثّلت آنذاك في الإشارة إلى قوة النظام وقدرته على إكراه السوريين وإجبارهم على ممارسة طقوس تعظيمه.
ولذلك تبدو في هذا السياق، هي وغيرها من الرموز الأخرى، بمثابة تذكير مستمر بهذه القدرة/ القوة من جهة، وأداة لفرض الطاعة والولاء والتظاهر بهما من جهةٍ أخرى. إنها، بمعنىً آخر، رسالة تقول إن حافظ الأسد قوي لأن نظامه: "قادر على إكراه الناس على أن يكرّروا ما يثير السخرية، ويجاهروا بما لا يقبله العقل"، كما تقول ليزا وادين في كتابها "السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة".
في المرحلة الثانية، بين مطلع ثمانينيات القرن الفائت وحتى وفاة حافظ (ويمكن القول إنها استمرت حتى بداية الثورة السورية) اكتسبت صورة الأخير معنىً مختلفًا بفعل الوظيفة التي قامت بأدائها آنذاك، وهي وظيفة مشابهة للوظيفة المذكورة سابقًا، لكنها أشد قوة وأكثر تأثيرًا ونفعًا للنظام كونها تحوّلت من أداة للتذكير بقوته، إلى أخرى تذكّر بالثمن الذي سيدفعه السوريون إن تحدّوا هذه القوة، وبالتالي إلى أداة قمع وترهيب.
ترتبط الوظيفة الجديدة لصورة حافظ بما أفرزه الصراع المسلح بين نظامه والإخوان المسلمين بين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وبالمجزرة التي ارتكبها في مدينة حماة، إضافةً إلى القمع الجماعي الذي مارسه في مدينتي إدلب وحلب. إذ أظهرت هذه الأحداث استعداد حافظ لا لممارسة القمع فقط، بل لتدمير المدن لأجل البقاء على رأس السلطة. ما جعل من الصورة، في هذا السياق، بمثابة تحذير ضمني من تكرار ما حدث تدعمه تجربة استخدمها النظام لترهيب السوريين طوال ثلاثة عقود.
لا يمكن فهم الصورة هنا إلا بوصفها أداة قمعية تُمارس القمع بشكل يومي ودون تدخل مباشر من قِبل السلطة. فما فعلته أحداث حماة، التي استمدت الصورة قوتها وتأثيرها منها، أنها أعادت تشكيل الوعي الشعبي في شأن طبيعة العلاقة بالنظام، وخلق حالة من الخوف الجماعي والرغبة في تجنّب أي صراعات جديدة تؤدي إلى تكرار ما حدث في الماضي، وهي حالة ساهمت في استقرار نظام الأسد.
استُخدمت صورة حافظ الأسد، في الحالتين/المرحلتين، كأداة قمع وإكراه تستمد سلطتها/قوتها من سلسلة ممارسات قمعية وصلت إلى حد قصف المدن وتدميرها، ما مكّنها من لعب دور مؤثر لا يمكن التغاضي عنه عند الحديث عن العوامل التي ساهمت في تعزيز سلطة عائلة الأسد من جهة، وفرض الامتثال والطاعة من جهةٍ أخرى، إضافةً إلى تقليل الحاجة إلى الاعتماد على القمع المباشر. وهي، لذلك، جزء أساسي من آلية إنتاج الطاعة. ذلك أن الانتشار الكبير للصورة في الفضاء العام، ومؤسسات الدولة، وحتى الأسواق التجارية؛ دفع السوريين إلى الاعتقاد بأنهم تحت المراقبة، فأدمجوا في أنفسهم، دون وعي ربما، المراقبة الذاتية.
الصورة في عهد بشار الأسد.. أداة مخاطبة؟!
ورث بشار الأسد الحكم عن والده نتيجة عوامل عديدة سهّلت عملية التوريث، منها الرغبة في الحفاظ على الاستقرار القائم، وتجنّب الصراعات التي قد تؤدي إلى موجة قمع جديدة وشبيهة بما حدث في حماة مطلع الثمانينيات، إضافةً إلى الأمل الشعبوي والنخبوي بأن يقوم الرئيس الجديد، والشاب، بتحديث النظام والدولة، وتنفيذ الإصلاحات التي وعد السوريين بها.
ومع تولّيه الحكم، أخذت الوظيفة التي تؤديها صورة الرئيس بالتشّعب دون التخلي عن وظيفتها الأصلية بوصفها أداة قمع وترهيب وإكراه، وإشارة ضمنية إلى قوة لن يتردد النظام في استخدامها عند الحاجة. ويُمكن تحديد إحدى وظائفها الجديدة في المخاطبة، مخاطبة السوريين في الداخل من جهة، والعالم الخارجي، والغرب تحديدًا، من جهةٍ أخرى. فعلى العكس من والده، حرص الأسد الابن على أن تكون صوره متنوّعة من حيث تعدّد اللقطات، وملائمة كذلك لكونه "رئيسًا شابًا"، وكان هذا ليكون امتيازًا لو أنه وصل إلى الحكم عبر الانتخابات، لا التوريث.
عبّرت صور بشار الأسد عن رغبته في تقديم نفسه بوصفه رئيسًا عصريًا منفتحًا أو "مودرن"، حيث دأب على الظهور بثياب يومية بسيطة، وفي أماكن عامة سواء بمفرده أو مع عائلته، إضافةً إلى تلك الصور التي يظهر فيها وهو يقود سيّارته بنفسه. صورٌ بسيطة يبدو فيها موظفًا أكثر منه رئيسًا، وهي صورة تُخاطب العالم الغربي الذي يتقّبلها بسهولة، ثم السوريين الذين يقدّم لهم نفسه عبرها، مجددًا، بوصفه رئيسًا بسيطًا عصريًا وشابًا.
لم يكن هذا التحوّل الوحيد الذي طرأ على استخدام بشار الأسد للصورة، بل يمكن القول إنه كانت هناك حاجة لتحوّل جديد عقب العزلة الدولية التي واجهها النظام بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وقبل ذلك مماطلته في تنفيذ وعوده الإصلاحية. وشاءت الصدفة أن تتضافر عدّة أحداث أتاحت له فرصة إعادة إنتاج صورته بوصفه رئيسًا مقاومًا هذه المرة (ولا حاجة للتذكير بأن ثنائية المقاومة/الممانعة إحدى أهم الركائز التي بنى عليها حكمه واستند إليها في حربه على شعبه)، وهذه الأحداث هي: الغزو الأميركي للعراق، والخروج السوري من لبنان بعد اغتيال الحريري، وعزل سوريا دوليًا، ثم حرب تموز/يوليو 2006.
رغم ذلك، لم تستطع صورة بشار الأسد أن تؤدي الوظيفة التي أدّتها صورة والده من قبله إلا لفترة محدودة جدًا، وذلك يعود إلى عدة عوامل ساهمت في اندلاع الثورة التي أحدثت تحوّلًا هائًلا في طبيعة ومفهوم ومجال استخدام الصورة في سوريا. فالثورة في النهاية ليست مجرد تحدٍّ للخوف والترهيب اللذين عمل نظام عائلة الأسد على إشاعتهما في المجتمع عبر وسائل عديدة منها الصورة، بل محاولة صريحة لإسقاط النظام الذي قام بإنتاجهما.
الصورة في بدايات الثورة.. تمزيق وجه الدكتاتورية
والمفارقة أن الصورة التي استخدمها الأسد الأب والابن كأداة قمعية لتعزيز استقرار سلطتيهما، هي الأداة التي استخدمها السوريون لتجاوز حالة الخوف والترهيب مع بداية الثورة، حيث كان التصوير بالهاتف المحمول ونشر الصور في وسائل التواصل الاجتماعي من الأدوات التي جعلت مناطق سوريا الأخرى تعيش الحدث، وتساهم في تنبيه الرأي العام العربي والعالمي.
ولتمزيق صورتي بشار وحافظ، وتحطيم تمثال الأخير، أهمية كبيرة في سياق الحالة السورية. إذ أسقطت، من جهة، هالة القداسة عن شخص حافظ الأسد (الذي تحوّل من القائد الخالد إلى "المقبور"). وقامت، من جهة أخرى، بإلغاء وظيفتها السابقة كأداة ترهيب وقمع. كما قامت باستهداف رمزية رئيس الدولة، وعبّرت بما انطوت عليه من تشفي، عن حالة الاحتقان السياسي لدى السوريين، وغالبًا ما كانت عملية التمزيق تحدث في أجواء احتفالية.
أفقدت الثورة السورية نظام الأسد القدرة على السيطرة على البث والنشر وكسرت احتكاره لهما. ما جعل من الصورة عاملًا أساسيًا في توسع رقعة التظاهرات، ذلك أن القمع الذي كان يُمارسه النظام ضد السوريين كان، بتحوِّله إلى صورة وانتشارها بينهم، يساهم في رفع نطاق المشاركة الشعبية في التظاهرات، مثل صورة الطفل حمزة الخطيب التي جسّدت وحشية النظام وساديته، وظهرت فيها التجليات الأولى لـ "جرائم الكراهية"، بوصفها محاولة للانتقام والتشفي.
في المقابل، أغرق بشار البلاد بصورته سواء خلال المسيرات المؤيدة له، أو عبر تعليقها في الأماكن العامة في المناطق الخاضعة لسيطرته إضافةً إلى الحواجز العسكرية التي تتمثّل وظيفتها، عدا عن الاعتقال، في إهانة وإذلال السوريين على مرأى صورة بشار، الذي راح يُكثر خلال السنوات الأخيرة من صوره البسيطة بوصفه رئيسًا عصريًا وحضاريًا يحارب همجًا وبرابرة.
والمؤكد أن بشار، على عكس والده، خسر حرب الصورة لا بسبب تحوّل صورته إلى مادة دسمة للسخرية فقط، بل لأن هناك اليوم الكثير من الصور الأخرى التي تنافسه وتزاحمه على الفضاء العام. وهي، للمفارقة، صور حلفائه، وفي مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وهكذا يمكن حصر استخدام الأسد الابن للصورة في تحويله البلاد وشعبها إلى صور؛ صور للدمار والخراب، وصور للمعتقلين والمفقودين، وصور ضحايا حربه المستمرة على السوريين منذ أكثر من عقد.