ليست المكتبات في السجون مجرد عناوين أو أرفف مكدسة بالكتب، بل يمكنها أن تلعب أدوارًا متناقضة ومتضاربة، إذ تحمل احتمالات الإصلاح و العقاب، وتوفر وسائل والتواصل والتعليم، وتعد مصدرًا للدخل والتعويض النفسي.
تواجد المكتبات في السجون ليس أمرًا جديدًا، بل تعود جذوره إلى أكثر من ثلاثة قرون، إذ بدأت فكرة المكتبات في السجون عام 1790 في الولايات المتحدة، ومن ثم انتشرت في أوروبا. لكن، لوقت طويل، كانت المكتبات في السجون تُدار من قبل رجال الدين، وتقتصر على الكتب الدينية، مثل الإنجيل والعهد القديم وبعض كتب الصلوات، بهدف التوبة الدينية وإصلاح السلوك.
في بداية القرن العشرين، ومع ظهور علم العقاب وتحليلات علماء الجريمة، بدأ يُعتقد أن السلوك الإجرامي يمكن إصلاحه بوسائل علمية، من بينها القراءة. وبالتالي، تحولت المكتبة من أداة للتوبة إلى أداة للتأهيل، بهدف إعادة تأهيل السجناء للاندماج في المجتمع.
شهدت المكتبات في السجون تطورًا ملموسًا في منتصف القرن العشرين، حيث فُرضت في العديد من الدول، مثل الولايات المتحدة واليابان والصين، قوانين تلزم السجون بتوفير مكتبة متاحة للسجناء والزوار، وتُلزم سلطات السجن بتعيين طاقم عمل متخصص بإدارة المكتبات، يتلقى راتبه من ميزانية السجن.
وفي عام 1992، نشر الاتحاد الدولي للمكتبات والمعاهد (IFLA)، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو"، الدليل الإرشادي الأول للخدمات المكتبية للسجناء، وجاء فيه "تهدف هذه الوثيقة إلى توفير أداة لتخطيط الخدمات المكتبية للسجناء وتنفيذها وتقييمها، وذلك بغية أن تكون دليلًا نموذجيًا لتطوير الإرشادات الوطنية لمكتبات السجون، ويمكن تطبيق هذه الإرشادات على جميع أماكن الحبس، وتطبق على سجون البالغين والأحداث ومراكز الاحتجاز والحبس".
في عام 2015، نشرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قواعدها النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، والتي أُطلق عليها "قواعد نيلسون مانديلا" تكريمًا له، وتضمنت مادة تعطي الحق للسجناء "في الوصول إلى المعلومات و القراءة والتعلم في السجون"، وأصبحت غالبية السجون المدنية في غالبية دول العالم تحتوي على مكتبات رسمية. لكن بعض سلطات تلك السجون، وخصوصًا في الأنظمة الشمولية، تتعامل بشكل مختلف وتوظف المكتبات بأشكال عدة بعيدة عن الهدف التي حددته الأمم المتحدة والاتفاقيات الحقوقية للسجناء والمعتقلين.
المكتبة في السجون السورية
لا يوجد تاريخ رسمي متاح، أو قرار حكومي يمكن الاطلاع عليه، بشأن دخول المكتبة بشكل رسمي، وبوصفه مرفقًا دائمًا يقدم خدماته إلى السجناء والمعتقلين. لكن، بحسب الشهادات التي أدلى بها معتقلون سابقون، فإن المكتبة الرسمية في سجن حلب المركزي (المسيلمة سابقًا) وُجدت على الأقل منذ بداية عام 1981، بينما وُجدت مكتبة في سجن عدرا المركزي افتتاحه في عام 1987.
أما بالنسبة إلى السجون العسكرية ومعتقلات فروع الأمن السورية، فلا تذكر غالبية شهادات المعتقلين السابقين، والدراسات التي تناولت المعتقلات، وجود أي نوع من المكتبات فيها. وحتى لو وجدت، فهي غالبًا صورية فقط، وفي كثير من الأحيان تكون ممنوعة بشكل كامل ومحرمة على أي معتقل في تلك السجون سيئة السمعة والواقع.
لطالما حاول النظام السوري أن يعكس صورة إيجابية أو مقبولة عن السجون المدنية المركزية. ورغم ما شهدته من انتهاكات حقوقية وإنسانية، لكنها تبقى - مقارنةً مع مراكز الاعتقال السرية والسجون العسكرية وفروع الأمن والتحقيق - أفضل حالًا. وقد أكدت هذا الرأي شهادات عديدة لمعتقلين اختبروا جميع أنواع السجون والمعتقلات، حيث كان من المتداول مثلًا بين المعتقلين تسمية سجن عدرا المركزي بـ"السجن السويسري" لاختلافه الشديد مقارنةً بالسجون والمعتقلات الأخرى.
عملت إدارة السجون المدنية على تأسيس المكتبات وجعلها مرافق دائمة في السجون المدنية، مكتفية بتوفير كتب مختارة بعناية من قبل وزارة الثقافة وإدارة التوجيه السياسي والمعنوي. وفي الوقت نفسه، منعت إدارة السجون، في أغلب الأحيان، دخول الكتب من خارج السجن، وحرمت المعتقلين من الوصول إلى الكتب التي يرغبون بالإطلاع عليها.
لكن اللافت في السجون السورية هو ظهور المكتبات التعاونية أو المشتركة، وهي مكتبات صغيرة أسسها المعتقلون بأنفسهم، وتعتمد على التعاون بينهم لجمع الكتب وتأمينها من الخارج عبر معتقلين سابقين، أو طرق غير رسمية. كان هؤلاء السجناء يعتبرون الكتب نافذة للحياة خارج القضبان، حتى قبل أن تُقرّها الأمم المتحدة كحق للسجناء.
في شهادته لموقع "الذاكرة السورية"، يتحدث المعتقل السابق أحمد طعمة الخضر عن تجربته مع المكتبات التعاونية أثناء فترة اعتقاله في سجن عدرا، حيث قال إن الكتب كانت تدخل إلى السجن بواسطة معتقل آخر يملك علاقات وشبكات مع معتقلين وعناصر شرطة تسمح له بإدخال كتب طلبها معتقلون آخرون.
احتاجت تلك المكتبات إلى وقت طويل وجهد كبير ومفاوضات عديدة لتحقيق إنشائها داخل السجون والمعتقلات. ولولا إصرار المعتقلين الشديد عليها لما أبصرت النور. يذكر ياسين الحاج صالح في كتابه "بالخلاص يا شباب: 16 عامًا في السجون السورية": "كان من أوائل الكتب التي سمح بدخولها إلينا في صيف 1982 مجموعة كتب لهيغل وعنه، وكتب عن البنيوية، و"الاستشراق" لإدوارد سعيد، وبعض كتب عبد الله العروي. لعل المجموع لم يتجاوز 100 كتاب قبل أن يمنع إدخال المزيد". ويقدر ياسين الحاج صالح عدد الكتب الذي وصلت إليه المكتبة الجماعية للسجناء بحوالي 1000 كتاب، كانت تنتقل من يد إلى يد، وتدور مرارًا على كل راغب بالقراءة والمعرفة.
النظام العام للمكتبات في السجون السورية
تختلف المكتبات الرسمية عن المكتبات التعاونية من حيث النظام والاستعارة والمحتوى. تخضع المكتبات الرسمية لإشراف الشرطة وتضم كتبًا مختارة بعناية من قبل وزارة الثقافة السورية. أما المكتبات التعاونية، فتتضمن عناوين متنوعة تشمل الأدب والفلسفة والتاريخ، وقد تحتوي على كتب بلغات أجنبية.
وبينما تفرض المكتبات الرسمية قيودًا على استعارة الكتب، حيث يسمح للمعتقلين باستعارة كتابين فقط كل شهر، تتميز المكتبات التعاونية بالمرونة والسرية، وتنتقل كتبها بين السجناء بطريقة خفية لتجنب التفتيش والمصادرة، وغالبًا ما تلعب دورًا حيويًا في تكوين الصداقات وتبادل المعرفة.
تختلف المكتبة الرسمية والمكتبة التعاونية في القواعد ونظام الاستعارة والملكية والعناوين والأمناء المشرفين عليها. فالمكتبات الرسمية تخضع لإشراف الشرطة، وتضم كتبًا مختارة بعناية من قبل وزارة الثقافة السورية. أما المكتبات التعاونية، فتتضمن عناوين متنوعة يختارها المعتقلين بأنفسهم، وتضم عناوين أوسع تشمل الأدب والفلسفة والتاريخ، وقد تحتوي على كتب بلغات أجنبية.
يُطلعنا الكاتب والمعتقل السابق راتب شعبو في كتابه "ما وراء هذه الجدران" عن تجربته مع القراءة في داخل السجن، وقد أطلق على الفترة التي قضاها في سجن عدرا المركزي "عصر القراءة". إذ إنه، ومع انتقاله إلى سجن عدرا، سمحت لهم إدارة السجن بالاستفادة من مكتبة السجن. يقول شعبو في كتابه: "ربما لم يشهد مكان في العالم على مر العصور حُمى قراءة كالتي شهدتها فترتنا الأولى من المرحلة العدراوية " (نسبةً إلى سجن عدرا).
تتبدل القواعد في المكتبات الرسمية وفق مزاج سلطات السجون، حيث تشير شهادات المعتقلين إلى أنه لا توجد قواعد ثابتة تطبّق في جميع السجون وعلى جميع المعتقلين، إذ إن المكتبات الرسمية ثابتة مكانها، ويسمح للمعتقلين في العادة باستعارة كتابين في الشهر، وتمنع الاستعارة في أحيان كثيرة من دون أسباب واضحة، ذلك أن الأمور لا تسير وفق نظام معين، وإنما حسب مزاجية سلطات السجن (شهادة أدلى بها أحد المعتقلين لكاتب المقال).
في المقابل، تتميز المكتبات التعاونية بخفة الحركة، فهي تنتقل أحيانًا من جناح إلى آخر بهدف الحماية من حملات التفتيش والعقاب، وأحيانًا بغرض تكوين الصداقات. تنتقل من يد إلى يد، وتحت إضاءة خافتة، تقلب الصفحات مرات ومرات بشكل لا نهائي.
إن مكتبة السجن الرسمية والتعاونية محدودة العدد، ومقارنتها بالمعروض من الكتب خارجه تجعلها قليلة العدد، وثمينة في الوقت نفسه. يلجأ المعتقلون إلى طرق عدة لتوسيع محتوى مكتباتهم، ويزداد عدد المكتبات التعاونية في السجون بطريقة بطيئة وبصبر كبير. يقول ياسين الحاج صالح في كتابه: "من المهم القول إننا لم نحصل على هذه التسهيلات [الكتب والمعاجم والدفاتر] لوجه الله أو تكرمًا من السلطات، لقد حصلنا عليها بالقطارة وبفضل جهود شاقة ومقاومات و(تفاوض) عسير".
يبتكر المعتقلون طرقًا غير تقليدية للحصول على الكتب في معتقلاتهم. يخبرنا الكاتب والسجين السياسي السابق محمد برو، في كتابه "ناج من المقصلة"، الذي وثق فيه شهادته عن فترة اعتقاله؛ عن الطرق المبتكرة التي استخدمها السجناء لإنشاء مكتبة صغيرة في داخل المعتقل. يتم إعداد ألواح أو كراسات من بعض القماش الزائد أو أكياس الخيش، حيث تدوّن عليها نصوص شعرية وأدبية بخط اليد، ثم يتم تداولها بين المعتقلين. يقول "سيكون هذا اللوح لصاحبه بمثابة الدفتر أو الكراس الذي يكتب فيه ما يريد أن يكرره ويحفظه، وتحوي هذه الكراسات ألفية ابن مالك في اللغة العربية، ومتن الرحبية في علم المواريث، والبيقونية في علم مصطلح الحديث، والجزرية في التجويد، وعشرات القصائد الذي سوف يكتبها شعراء بيننا، وأشياء كثيرة يصعب حصرها".
المكتبة كأداة للعقاب، والتمويل، والحرمان
رغم أنها من وجهة نظر النظام وسيلة أساسية للتعلم وإعادة التأهيل والإصلاح داخل السجون، لكنها تُستخدم أحيانًا كأداة للعقاب الفردي والجماعي، حيث يتم حرمان المعتقلين من الاستفادة من المكتبات الرسمية، أو منعهم من قراءة الكتب كعقوبة فردية أو جماعية. وفي بعض الأحيان، يُطلب من السجناء دفع رشاوى لعناصر الشرطة للسماح لهم باستخدام المكتبة أو إدخال كتب جديدة.
تشير العديد من الشهادات إلى أنه من المعتاد أن يتم دفع مبلغ من المال لأحد عناصر الشرطة للسماح باستخدام المكتبة الرسمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكتبة التعاونية، حيث تشير شهادة معتقل سابق إلى أن عناصر الشرطة كانت تطلب في عام 2012 مبلغ 500 ليرة سورية لإدخال كتاب واحد إلى المهاجع والزنزانات (شهادة أدلى بها معتقل سابق، أُجريت من قِبل الكاتب، ولم يرغب المعتقل بذكر اسمه في المقال).
واحدة من الأسباب التي تؤدي إلى انحراف استخدام المكتبة الرسمية كأداة للمعرفة والتعلم، هو عدم تعيين وزارة الداخلية السورية أخصائيين في المكتبات، أو طاقم إداري يدير ويشرف على عمل المكتبات، وإنما كان الاعتماد على عناصر الشرطة غير المؤهلين وبعض المعتقلين الذين يملكون ثقافة ودراسة تتيح لهم التطوع في المكتبة.
المكتبات كوسيلة للنجاة والأمل والتعلم
المكتبة بالنسبة للمعتقل ليست مجرد مكان للقراءة، بل هي رمز للحرية والمعرفة والتواصل، ووسيلة لتمضية الوقت وتحسين الحياة داخل السجن. وتشير شهادات العديد من المعتقلين السابقين إلى أهمية اكتشاف المكتبة وفعل القراءة في السجن، وكيف لعبت كذلك دورًا أساسيًا في إعادة الشعور بإنسانية المعتقل.
يوضح شعبو في كتابه أهمية وجود المكتبة وإتاحة فعل القراءة للمعتقل، التي من شأنها أن تقلب حياته بشكل إيجابي في المعتقل، حيث يقول "القراءة والتحرر من أعباء الحياة اليومية التي يعيشها (أهل الخارج)، تسمح للسجين بتعميق ثقافته وبالتأمل وتطوير تصوره عن العالم، على هذا يمكن أن يحرر السجنُ السجينَ من ضيق الأفق ومن الأوهام".
ومن الفرص التي تمنحها المكتبة والكتب في داخل المعتقل هي الهروب من ضيق السجن وظلم الاعتقال، فتكون المكتبة بمثابة تعويض عن الحرية، إذ إنها تمنح المعتقلين فرصة للهروب من ضيق السجن عبر القراءة. ويصف الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، الذي قضى سنوات طويلة في المعتقل، تجربته قائلًا: "وسعت الكتب إلى درجة لا تقاس المكان الضيق الذي كنت رهينته. هذه التوسعة ما كانت لتتاح خارج السجن على الأغلب".
إضافةً إلى القراءة، يستخدم السجناء المكتبات والكتب لأغراض اجتماعية متعددة. في بعض الأحيان، تكون الكتب وسيلة للتواصل السري مع الخارج، حيث يتم إخفاء الرسائل في صفحات الكتب.
يشير أحد المعتقلين السابقين (رفض ذكر اسمه) إلى أنه وغيره استخدم الكتب كطريقة للتواصل مع الخارج، من خلال الحواشي المتروكة على هوامش الكتب والملاحظات المكتوبة بخط صغير من أحد الأقرباء والأحباء، متيحةً للمعتقلين البقاء على تواصل مع العالم خارج السجن، ما يساعدهم على أن يتغلبوا على شروط الاعتقال الجائر الذي وجدوا أنفسهم فيه.
تظل المكتبات في السجون السورية وسيلة مزدوجة: أداة للنجاة والأمل للمعتقلين، وفي الوقت نفسه أداة للتضييق والعقاب من قبل السلطات. ففي ظل الظروف القاسية التي يعاني منها المعتقلون، تصبح الكتب والمكتبات نافذة على عالم آخر؛ وسيلة للهروب من واقع مظلم، وحتى رمزًا للصمود والكرامة الإنسانية.