لم يكن هناك فريق مرشح لنيل اللقب في تاريخ كأس العالم كما كانت المجر قبل مونديال 1954. فريقٌ قهر الجميع، وأنزل الويلات بكل من تجرأ على مواجهته. أطاح بكبرياء الإنجليز واكتسح المنافسين واحدًا تلو الآخر، إلا أن تفاصيل صغيرة حالت دون أن يتوج أقوى فريق في تاريخ كرة القدم باللقب المونديالي.
تمر العديد من المنتخبات، والأندية، بفترات تراجع طبيعية. لكن مع مرور الزمن، يظهر جيل جديد يعيد المنتخب إلى ألقه السابق. فالأرجنتين، على سبيل المثال، انتظرت 36 عامًا لتذوق طعم الذهب المونديالي مرةً أخرى. ورغم فشل هولندا المستمر في تحقيق حلمها بالظفر بكأس العالم، لكنها لا تزال تقدّم أجيالًا جديدة تصارع من أجل هذا الحلم.
لكن الغريب أن البلاد التي كانت تملك سابقًا أقوى منتخب في تاريخ كرم القدم، وصال لاعبوها وجالوا في الملاعب العالمية، لم تعد ولّادة نجوم كما كانت سابقًا. بل إنها ابتعدت عن طاولة كبار المنتخبات على الصعيدين العالمي والأوروبي. وأكثر من ذلك، قد لا يدرك كثيرون من أبناء الجيل الحالي أن هذا البلد كان يملك فريقًا أسطوريًا غيّر معالم هذه اللعبة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف انتهت أسطورة المجر الكروية؟
كثيرًا ما نسمع عبارات مثل "الفريق الذهبي" أو "الجيل الذهبي" أو حتى "الفريق الأسطوري"، عندما يتحدث أحدهم عن منتخبات أو أندية حققت إنجازات كبيرة، مثل نادي "برشلونة" في حقبة بيب غوارديولا، ومنتخب هولندا في سبعينيات القرن الفائت مع يوهان كرويف، وبقيادة رينوس ميتشيلز.
يتفق الجميع على أن الفوز بالألقاب يعد عاملًا مهمًا للدخول ضمن تصنيفات الأفضل والأقوى. ومع ذلك، فإن الألقاب وحدها قد لا تكون كافية في هذا السياق، إذ عرف تاريخ كرة القدم فرقًا قوية فشلت في التتويج بالألقاب بسبب تفاصيل بسيطة، وأخرى أضعف منها بدرجات نجحت في حصد البطولات بطريقة أو بأخرى.
قدّمت البرازيل مثالًا واضحًا على هذه المفارقة، حيث فاز منتخبها ببطولة كأس العالم في أعوام 1958، و1962، و1970، و1994، و2002؛ لكن أكثر التشكيلات الفائزة باللقب، إن لم يكن جميعها، لم تُمنح لقب "الفريق الأقوى" في تاريخ الكرة البرازيلية. بل يتفق كثيرون على أن أقوى تشكيلة برازيلية كانت في ثمانينيات القرن الفائت. وللمفارقة، لم تُتوّج باللقب المونديالي.
فتحت هذه النقطة أبوابًا عديدة من الإشكالات والخلافات. فربما من الممكن أن نجمع بين عوامل عديدة أبرزها الألقاب والمستوى المميز للفرق، كي نستخلص التشكيلة الأقوى. لكن ذلك ينضوي تحت سقف زمني محدد. ورغم اتساع الحيز المكاني الخاص بهذه المحددات، بسبب تزايد البطولات القارية أو الدولية على صعيد الأندية والمنتخبات، إلا أنه يصعب الخروج بنتيجة صحيحة تدل على هوية الفريق الأقوى في بحث يشمل زمنين متباعدين.
وكمثال على ما سبق، لا يمكن مقارنة فريق "مانشستر يونايتد" الفائز بالثلاثية التاريخية عام 1999 بفريق "مانشستر سيتي" المتوّج بالثلاثية عام 2023، إذ لا توجد ظروف طبيعية تسمح بعقد هذه المقارنة بين الفريقين. وكذلك الأمر بالنسبة للبطلين غير المتوجين منتخب هولندا 1974 والبرازيل 1982 من جهة، وبرشلونة 2011 وبايرن ميونيخ 2020 من جهة أخرى. والأمثلة كثيرة، والجدل بشأن الفريق الأقوى يتجاوز عدد هذه الأمثلة.
تم حل هذا الإشكال مؤخرًا فيما يخص المنتخبات الوطنية فقط، عن طريق نظام تصنيف إيلو "Elo" الذي طوّره عالم الرياضيات الأميركي أرباد إيلو، وكان يستخدمه الاتحاد الدولي للشطرنج من أجل تقييم اللاعبين. وفي عام 1997، طوّره عالم آخر اسمه بوب رونيان، كي يناسب كرة القدم الدولية قبل أن يعتمده "الفيفا" في تصنيفه للمنتخبات بدايةً من عام 2018.
يأخذ "إيلو" في تصنيفه للمنتخبات بعين الاعتبار عوامل عدة يمنح النقاط بناء عليها. وبعمليات حسابية معقدة، يتم احتساب عوامل مختلفة كاللعب في الديار، أو قوة الخصم، وأهمية المباراة، وفارق الأهداف في المباريات، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة.
وتبعًا لهذا النظام، تم احتساب كل النتائج الدولية المسجلة للمنتخبات منذ عام 1900 حتى الآن. ونتج عن ذلك أن المنتخب المجري حصل في عام 1954 على أكبر عدد من النقاط في تاريخ التصنيف، حيث نال 2232 نقطة، ليكون بذلك أقوى منتخب وطني في تاريخ كرة القدم.
الحكاية بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما أصبحت المجر دولة شيوعية يهيمن عليها الاتحاد السوفيتي، حيث حكم البلاد بقبضة من حديد الزعيم ماتياس راكوشي، الذي اعتمد نظامًا ستالينيًا قلّد فيه بشكل شبه مطابق سياسات ستالين في الاتحاد السوفيتي.
اعتمدت إدارة ماتياس راكوشي رؤية محددة بشأن الرياضة بشكل عام، مشابهة لتلك التي كانت قائمة في الاتحاد السوفيتي، حيث الرياضة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأندية العسكرية التي منحت أهمية خاصة، على أمل أن تثبت للغربيين في يوم ما نجاح الدولة الاشتراكية.
في تلك الفترة، كان في المجر نادٍ اسمه "كيسباتش" يضم أمهر لاعبي البلاد، لكن تم ضمه في نهاية أربعينيات القرن الماضي إلى منظومة الرياضات العسكرية في المجر، وتغيّر اسمه إلى "بودابست هونفيد"، و"هونفيد" تعني بالمجرية "حامي العرين"، ليصبح بذلك ناديًا عسكريًا بالدرجة الأولى.
ضم "بودابست هونفيد" أفضل لاعبي المجر، مثل فرينتز بوشكاش، وساندرو كوسيتش، وزولتان تشيبور، وجوزيف بوزيك، الذين أوكلت مهمة قيادتهم، وآخرين غيرهم، إلى مدرب اسمه غوستاف سيبيس. والأخير كان ناشطًا حزبيًا قبل الحرب العالمية الثانية، وبالتالي كان تعيينه مدربًا للفريق العسكري وللمنتخب الوطني مثاليًا من الناحية السياسية.
حظي منتخب المجر، الذي كان معظم لاعبيه من "بودابست هونفيد"، بامتيازات خاصة قد تبدو بديهية لأي لاعب في الوقت الحالي، لكنها لم تكن كذلك في بلد يعاني شعبه من الجوع والحرمان. فقد قام المدرب المدرب غوستاف سيبيس بتجهيز فريقه بنظام غذائي خاص، وأولى اهتمامًا كبيرًا بتطبيق أنظمة اللياقة البدنية للاعبيه، مع زيادة تكثيف التدريبات المكثفة للمنتخب.
لكن ما ميز المنتخب المجري بقيادة غوستاف سيبيس في ذلك الوقت هو الثورة التكتيكية التي أبدعها الفريق. فالخطة السائدة في ذلك الوقت كانت تعتمد على وجود خمسة لاعبين في الخط الأمامي: قلب هجوم، وجناحين من ورائهم لاعبا خط وسط مهاجمان، ومن خلفهم ثلاثة لاعبين في خط الوسط، وأخيرًا لاعبي دفاع.
عُرفت هذه الخطة باسم "بدبليو دبليو" (ww)، وقد اعتمدها الإيطالي فيكتور بوزو (الذي نال مع منتخب بلاده كأس العالم في نسختي 1934 و1938)، حيث اقتبسها مما يعرف بالمدرسة الدانوبية التي أنتجت خطة لعب اعتمدتها الفرق النمساوية والتشيكوسلوفاكية والمجرية. وكانت تركز بشكل كبير على التمريرات القصيرة والمهارات الفردية. ومن أبرز مؤسسي هذه المدرسة في عشرينيات القرن الماضي كان الإنجليزي جيمي هوجان، الذي زار النمسا في تلك الفترة.
تمثّلت الثورة التكتيكية التي أنجزها المجري غوستاف سيبيس في تنويع أدوار اللاعبين بالدرجة الأولى. فبدلًا من نظام اللعب التقليدي بثلاثة مهاجمين وجناحين في الخط الأمامي، ابتكر سيبيس أسلوبًا جديدًا يعتمد بشكل أساسي على إعادة قلب الهجوم إلى خط الوسط، إضافةً إلى إرجاع الجناحين قليلًا إلى الخلف. وقد نتج عن ذلك تشكيل مرن للغاية، حيث أصبح شكل خطة اللعب خلال المباراة 3-2-3-2، مما أتاح للفريق التبديل بسرعة بين الحالتين الهجومية والدفاعية.
مكّن هذا التكتيك الجديد المدرب المجري من تغيير اللاعبين لمراكزهم بسلاسة وسرعة، حيث يخرج المدافعون من مواقعهم لمساندة المهاجمين، والأجنحة الهجومية ستعود إلى الوراء أيضًا لمساندة الدفاع، مما يعني أن غاية المدرب المجري من كل ذلك هي جعل اللاعبين قادرين على التكيف مع أي مركز باستثناء حراسة المرمى.
يُعتبر هذا الابتكار المذهل نواة لما سيُعرف في كرم القدم فيما بعد بـ"الكرة الشاملة". فالمنتخب المجري هو أول من طبق هذا الأسلوب، حيث يقول فرينتز بوشكاش: "عندما هاجمنا، هاجم الجميع، وفي الدفاع كان الأمر نفسه. لقد كنا النموذج الأولي لكرة القدم الشاملة".
مع التحضير القوي للفريق المجري، والتدريبات المكثفة لعناصر المجموعة التي يتكون عمودها الفقري من نادي "بودابست هونفيد"، كان لا بد للمنتخب المجري من خوض مباريات حقيقية، إذ كانت السلطات في البلاد تكتفي بالسماح بخوض المباريات الودية، لكن المدرب نجح في إقناعها بالسماح له بالمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في هلسنكي عام 1952، بهدف تحسين صورة الاشتراكية وإظهار انفتاحها على العالم الخارجي.
الاختبار الحقيقي الأول للمنتخب المجري كان في دورة الألعاب الأولمبية 1952، التي اكتسح فيها منافسيه واحدًا تلو الآخر، حيث فاز على رومانيا وإيطاليا وتركيا والسويد، وصولًا إلى الظفر بالذهب الأولمبي على حساب يوغوسلافيا القوية بهدفين دون رد.
أذهل المنتخب المجري الجميع، وصار حديث الأوساط الرياضية في أوروبا بوصفه منتخبًا مرعبًا يرتدي لاعبوه قمصانًا حمراء ويمتلكون لياقة بدنية هائلة، يدافعون جميعًا ويهاجمون جميعًا، ولا يمكن قهرهم. وقد أثار فوزهم بذهبية هلسنكي فرحة كبيرة في المجر، سواء على صعيد القيادة أو المواطنين المجريين الذين أصبح المنتخب بالنسبة لهم مصدرًا للفخر، بل وعزّز أيضًا الهوية القومية في ظل تبعية الحكومة للاتحاد السوفيتي.
لم يعجب الإنجليز ما ناله المنتخب المجري من إعجاب وتقدير كبيرين كانا مستحقين بعد سلسلة طويلة من الانتصارات دون هزيمة. ولذلك، أرادوا وضع حد لأسطورتهم، على اعتبار أنهم يملكون كذلك نجومًا عالميين مثل ستانلي ماتيوس، وآلف رامزي، وغيرهما، فاتفقوا مع المجريين على إجراء لقاء ودي في ويمبلي حشدت له وسائل الإعلام الإنجليزية، بل وأطلقت عليه اسم "مواجهة القرن" وجرى في عام 1953 بحضور قرابة 105 ألف متفرج، جاؤوا جميعًا لمشاهدة نجوم إنجلترا وهم يحطمون أسطورة المنتخب المجري المزعومة.
لكن ما حدث كان صاعقًا للإنجليز، حيث تكبد منتخبهم هزيمة هي الأولى في تاريخه على أرضه بستة أهداف مقابل ثلاثة، وهي أثقل هزيمة لإنجلترا على أرضها حتى الآن، علمًا أن المجريين أضاعوا الكثير من الفرص. وفي المحصلة، كان الأمر بمثابة فضيحة كروية تاريخية للإنجليز، الذين أرادوا تحطيم أسطورة المجر! كما سخر الصحفيون الإنجليز من أداء بعض اللاعبين، حيث قال أحدهم في وصف هدف مجري راوغ به كوسيتش مدافعًا إنجليزيًا وجعله يتزحلق على الجانب الخاطئ: "مثل سيارة إطفاء تتجه في عجلة من أمرها لإطفاء النيران، لكنها تذهب في الاتجاه الخاطئ".
اعتبرت الحكومة المجرية انتصار المنتخب على إنجلترا في عقر دارها إنجازًا وطنيًا، فهو إثبات لتقدم كرة القدم في ظل الشيوعية. ورحّب عشرات الآلاف من المجريين ببوشكاش ورفاقه فور عودتهم من إنجلترا. لكن الأخيرة أعدّت العدّة للنيل بثأرها وبالطريقة نفسها. فقبل بداية كأس العالم بثلاثة أسابيع وبعد ستة أشهر من خسارة ويمبلي التاريخية، وصل المنتخب الإنجليزي إلى بودابست من أجل تحقيق الفوز على المجريين في عقر دارهم.
تقدم أكثر من مليون مجري للحصول على تذكرة في ملعب بودابست، الذي احتشد فيه أكثر من مئة ألف متفرج لمشاهدة المباراة الثأرية لإنجلترا. المشكلة لدى الإنجليز أنهم لم يقتنعوا بأن خسارتهم أمام المجريين في ويمبلي كانت لأن المنتخب المجري أفضل منهم، بل اعتقدوا أن ما حصل معهم في لندن كان مجرد يوم سيئ، فذهبوا إلى بودابست معتقدين أنهم الأقوى، لكنهم تلقّوا إهانة تاريخية لم تُمحى حتى اللحظة، حيث هُزموا بسبعة أهداف مقابل واحد، وهي أثقل هزيمة في تاريخ إنجلترا.
أثبت المنتخب المجري للجميع أنه لا يُقهر، ولم يكن هناك فريق مرشّح لنيل بطولة كأس العالم كما المجر قبل انطلاق مونديال 1954، إذ لم يُهزم الفريق على الإطلاق طوال أربع سنوات متتالية، وألحق هزيمتين تاريخيتين بمن يعتبرون أنفسهم مهد كرة القدم.
غادر المجريون إلى سويسرا من أجل خوض مباريات كأس العالم 1954، واكتسحوا جميع منافسيهم واحدًا تلو الآخر، بدايةً من كوريا الجنوبية التي فازت عليها المجر بتسعة أهداف دون رد، ومن ثم الفوز على ألمانيا الغربية بثمانية أهداف لثلاثة، في لقاء شهد إصابة النجم الأول بوشكاش إثر تدخّل خشن من الألمان.
ورغم إصابة بوشكاش في دور المجموعات، واصل المجريون انتصاراتهم في الأدوار الإقصائية حيث تفوّقوا على البرازيل في ربع النهائي 4 - 2، وعلى الأوروغواي في نصف النهائي بالنتيجة ذاتها، ليضربوا موعدًا في المباراة النهائية مع ألمانيا الغربية، التي هُزمت أمام المجر في مرحلة المجموعات بنتيجة 8 - 3.
أعدّ المجريون العدّة للاحتفال باللقب المحسوم سلفًا في نظرهم، حيث حضّر الوفد المجري بسويسرا حفل استقبال للاعبين والمسؤولين الكبار والصحافيين بعد المباراة النهائية، كما تم إصدار طوابع بريدية خاصة بفوز المجريين بكأس العالم، وبدأ المسؤولون المجريون بالتحضير لتدشين تمثال ضخم للاعبي المنتخب.
كانت الأمور تسير على ما يرام بالنسبة إلى المجر، حيث تقدم المنتخب بهدفين مبكرين على ألمانيا الغربية، وكانت كل المؤشرات تدل على حسم المجريين للقب، لكن الكثير من التفاصيل الصغيرة ساهمت بما يسميه الألمان "معجزة بيرن".
الأمطار الغزيرة أعاقت حركة لاعبي المجر، في وقت صمم فيه أدولف داسلر مؤسس شركة "أديداس"، أحذية خفيفة ببروزات طويلة للاعبين الألمان مخصصة للأمطار، وقد ساعد ذلك ألمانيا في تسجيل هدف تقليص الفارق، ومن ثم تسجيل هدف التعادل، الذي لا يزال المجريون يؤمنون بعدم شرعيته بسبب ضرب المهاجم الألماني للحارس المجري خلال تسجيله.
وبينما أهدر المجريون الكثير من الفرص المحققة، سجلت ألمانيا الغربية هدف الانتصار قبل نهاية المباراة بدقائق قليلة. هدف عادله بوشكاش في الثواني الأخيرة من المباراة، لكنه أُلغي بحجة وجود تسلل، وهو قرار أثبتت التسجيلات التلفزيونية عدم صحته. وكانت هذه الحادثة واحدة من المواقف التي يتحسر عليها المجريون؛ من هدف غير شرعي محسوب للألمان، إلى هدف شرعي غير محتسب للمجريين.
سلبت الأمطار الغزيرة وتحامل بوشكاش على إصابته وتفاصيل أخرى، أقوى جيل كروي في التاريخ بطولة كأس العالم، ومنحتها إلى آخر جعل منها خير مثال على مشروع نهضة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أصر المجريون بعد الهزيمة الأولى لهم أن تكون "معجزة بيرن" بمثابة تعثر عابر، حيث واصلوا سلسلة انتصاراتهم بعد تلك الخسارة، ولم يخسر الجيل الذهبي في تاريخه كله سوى تلك المباراة، لكن الظروف السياسية كتبت نهاية هذا الفريق. فمع اعتبار المنتخب المجري تجسيدًا مثال للنظام الشمولي السوفيتي في الرياضة، تمت دعوته لخوض مباراة تاريخية ضد الاتحاد السوفيتي.
كان المنتخب السوفيتي يعد أحد أقوى فرق العالم، فهو لم يسبق أن هُزم على أرضه طوال تاريخه وكانت أكثر المؤشرات تدل على فوز السوفييت بنتيجة مريحة، على اعتبار أن تربع المنتخب المجري على السيادة العالمية كرويًا لم يحدث إلا بسبب الانغلاق الرياضي وعدم مشاركة السوفييت في البطولات الكروية الكبرى خلال فترة تألق المجريين.
في الحقيقة، كان المجريون أنفسهم يضعون الخسارة أمام السوفييت كخيار متوقع، إذ إن المنتخب السوفيتي كان قويًا على أرضه وبين جماهيره، كما أن السلطات السوفيتية أرادت تقديم فوز المنتخب بوصفه مثالًا على نجاح المبادئ الاشتراكية من جهة، وكبح جماح الشعور الوطني القومي الذي تصاعد لدى المجريين عبر كرة القدم، من جهة أخرى.
في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1956، وبحضور أكثر من 102 ألف متفرّج في "استاد لينين المركزي" بالعاصمة موسكو، صدم المجريون الحاضرين، وحققوا انتصارًا تاريخيًا على السوفييت في عقر دارهم بهدف وحيد.
كانت تلك الخسارة الأولى في تاريخ الاتحاد السوفييتي في معقله، وقد أشعلت التواترات بين علاقة البلدين المتحالفين سياسيًا، لكنه زاد من فاعلية الشعور الوطني، وأدى بشكل غير مباشر إلى اندلاع الثورة المجرية ضد السوفييت. فبعد إلحاق الهزيمة بالسوفييت في عقر دارهم بشهر واحد، وتحديدًا يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر، اندلعت موجة احتجاجات في بودابست ضد الهيمنة الجيوسياسية للاتحاد السوفيتي على المجر من خلال حكومة ماتياس راكوسي ستالينية الهوى. ودفعت هذه الاحتجاجات والاضطرابات التي رافقتها الاتحاد السوفيتي إلى التدخل العسكري، حيث قام بغزو المجر وعيّن حكومة تابعة له.
أثناء الغزو، كان معظم لاعبي المنتخب خارج البلاد، ولم يعودوا خوفًا من تعرضهم لما تعرض له المجريون، حيث قُتل واعتُقل الآلاف منهم، ونزح أكثر من 200 ألف إلى دول الجوار، من بينهم نحو 20 ألف رياضي، منهم 12 ألف لاعب كرة قدم مسجّل لدى الاتحاد المجري.
وقام الاتحاد الكروي المجري بمحاربة لاعبيه خارج البلاد، حيث تواصل مع الفيفا من أجل إيقافهم عن اللعب بسبب مغادرتهم البلاد دون إذن، وكانت النتيجة انتهاء المنتخب المجري الذهبي بشكل رسميّ، خصوصًا حينما حرم الفيفا لاعبي المنتخب المجري من التعاقد مع الأندية طيلة 18 شهرًا.
بعد ذلك، نجح بعض نجوم المجر في العودة إلى لمعترك الكروي خارج المجر، حيث حقق الأسطورة بوشكاش الكثير من الإنجازات مع ريال مدريد، ومثّل منتخب إسبانيا في كأس العالم 1962، ما يؤكد النهاية الحزينة لأقوى فريق كروي بالتاريخ.
بعد 25 عامًا من اجتياح المجر وهجرة لاعبي المنتخب الذهبي، نجح الاتحاد المجري في إعادة لم شمل نجوم منتخب 1954. وفي عام 1981، عاد اللاعبون إلى بلدهم لأول مرة يتقدّمهم النجم بوشكاش، حيث خاضوا مباراة استعراضية للاعبين القدامى امتزج فيها عرق الجهد بدموع الحنين إلى زمن مضى. وذلك أمام عشرات الآلاف من الجماهير التي هتفت بعبارات ذكّرتهم بمجد مفقود، ومزجت بين شعور الفخر ومرارة فقدان فريق لم يتكرر