قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بخمسة أشهر، وتحديدًا في الثامن عشر من نيسان/أبريل 1939، كان صعيد مصر الجوَّاني على موعد مع معجزة استثنائية ستقلب موازين الغناء الشعبي على أصعدته الثلاثة: الكلمة، والصوت، والإيقاع. ففي ذلك اليوم، ولِدَ الفنان الشامل الشيخ أحمد برين في منطقة غرب سهيل بأسوان، جنوبي مصر، ولَحِقَت به العاهات الثلاث: اليُتم في سنّ عام ونصف، والفقر، وفقدان البصر في سنّ الثانية، فلم تلبث والدته أن رحلت به شمالًا إلى حيث أخواله في قرية الحلة من أعمال مركز إسنا بمحافظة الأقصر.
لم يسْلَم أحمد الكفيف (كريم العين، كما يُطلق عليه في صعيد مصر) من تنمُّر الصبيان. ومع قلة النصير بوفاة الأب ورحيل الأخ الأكبر إلى السودان، يتنقّل بين "كتاتيب" تحفيظ القرآن لعدم ملاءمة السياق لروحه الشفيفة، ما يضطر والدته أن تقطع به الطريق سيرًا على الأقدام – 12 كيلومترًا – مطلع كل أسبوع إلى مكتب تحفيظ قرآن في قرية نائية قَبِلهُ صاحبه وتبنّاه، ليمكث عنده الأسبوع حتى تأتي والدته لتصطحبه آخر الأسبوع ويقضي معها يومي الإجازة، ثم تعود به للكُتّاب ومعه زاد الأسبوع المقبل إلى القرية النائية.
سيدة ريفية، غاية في البساطة، في أربعينيات القرن العشرين، في قرية مُوغِلة في البدائية في أقصى صعيد مصر، آمنت بقيمة المعرفة وبأنها سبيل الترقي الاجتماعي، فراحت تغذُّ السير بابنها كريم العين، مسترشدةً بقضبان السكك الحديدية حتى لا تضل الطريق إلى القرية المقصودة، وابنها لا يملك من أدوات تحصيل المعرفة غير أذنٍ جبَّارةٍ مُشْرَعَةٍ على الملكوت.
في إحدى مرات ذهاب الشيخ في طفولته إلى الكُتَّاب، رفقة والدته، يسمع صوتًا له دويٌّ في السماء، ووقْعٌ جديدٌ على أذنه، وهو المهجوس بالأصوات، فيسأل والدته عنه، فتقول: "دي طيّارة يا أحمد.. وأنت بتروح الكُتّاب علشان تقرا وتتعلم وتستحق ركوبها". يَعْلَقُ الصوتُ في ذاكرة الشيخ، والذكرى في بصيرته. يحدثني ابنه علي برين: "بعد أكثر من ثلاثين سنة، في مطلع الثمانينيات، والشيخ في أولى رحلاته إلى باريس، ينفجر في البكاء على سُلَّم الطائرة، وقد عاودته الذكرى، كأنه يريد أن يقول: ها أنذا أذوق الثمرة يا أمي.. أركب الطائرة".
يشبّ الفتى أحمد برين عن الطوق، ويخرج من بين أخواله، ويواصل الرحيل شمالًا إلى قرية "الدير"، ليلتقي بأرباب فن الموّال والإنشاد الديني، بعدما حصَّل ما يمكن تحصيله من شيوخ قريته، وعلى رأسهم شيخه المؤسس الذي فتح له الباب: الشيخ سليمان حسين.
الرجل الذي كُتِبَ عليه الترحال منذ نعومة أظفاره بين القرى والنجوع، فِرارًا ويُتمًا ونهمًا للمعرفة وولعًا بالفن، استقر به المقام في قرية الدير حيث تزوَّج وأنجب وأسس مدرسةً للفن.
اليُتم والإعاقة تميمَتا الحظّ
في مجتمعٍ بسيط يؤمن بفكرة "العُصْبة"، لم يكن سهلًا قط أن يحظى الشيخ أحمد برين أو سواه بقسط من التقدير ما دام يعاني اليُتْم، فيكون على الفرد تأسيس حضوره بقوة الساعد. لكن برين اختار طريقًا مغايرًا لتأسيس مجده الشخصي، فصاغه عبر قوة الكلمة والحنجرة. أما الإعاقة التي كانت لتصبح خنجرًا في خاصرة تجربته الفنية، فقد استطاع أن يُلقيها ويأخذها، وقد عادت سيرتها الأولى نايًا سحريًّا يشدُّ له الآذان، ويسوقُ به النفوس التوّاقة إلى المعنى المحلِّق.
ورغم تحقيق ما يستعصي على عصبةٍ من الرجال، إلا أنه لم يَسْلَم من ندبةٍ في الروح تركتها عليه تجربته في الحياة، فجاء غناؤه مشحونًا بالشجن في أغلب حفلاته. فرغم ما يبدو عليه من الجَلَد، إلا أنه قد يتفلَّت منه ذات حفلٍ موّالٌ ينشج فيها على حاله، أو يتحدَّث فيه من طرف خفيٍّ عن معاناته الشخصية.
يحكي لي علي برين: "كان والدي يتذكر الماضي فيتألم ويبكي، كان يقول لي: (مرت بي شتاءات وليس لي غير جلابية على اللحم، وممكن أجد عشاء وممكن أنام من غير عشا. أهلي لم يحتووني لا في الحلة ولا الحليلة رغم اليُتم، لذلك رحلت إلى الدير، كان أقاربي يرون أنه من العار أن يسيح ابنهم في الموالد). لكن شاءت الأقدار أنه كان مرهف الحس، فكل هذا نَحَتَ في روحه، فأحبّ أن يحقق إبداعه بكل سبيل تاركًا حتى منزل أمه".
آبار المعنى
أحمد برين واحدٌ من الرواد الذين أرسوا قواعد الموال الشعبي في صعيد مصر، والموّال الشعبي، بإيجاز، جنسٌ من الفنون الأدبية الشفاهية، تدور موضوعاته حول الحِكَم، ورزايا الدهر، ومغبّة العشق على العاشق، وفقدان الأحبّة، وحقوق الصحبة، والتحذير من مخالفة الأصول والأعراف.. إلخ.
ويعتمد الموّال اللغة الدارِجَة المشوبة بنوع فصاحةٍ خاص، والأوزان الخليلية المعروفة، ويقوم بالأساس على استخدام الجناس التام في نهاية شطرات الموّال، حيث تتوقف جودة الموّال على براعة الفنان في تطويع اللغة لاستخلاص القوافي، واحدة اللفظ متباينة الدلالة، على النحو الذي سنرى.
تتعدد المصادر التي استقى منها الشيخ أحمد برين مواويله، التي أنشدها في حفلاته ولياليه على امتداد نصف قرن، سواء في الموالد أو المناسبات الدينية المختلفة، أو مواسم الحج، أو حفلات الزفاف في الصعيد.
يتجلّى "الكُتّاب" كرافدٍ أول استقى منه الشيخ في رحلته، فلم يكن دور "الكُتّاب" ليقتصر على تحفيظ القرآن، بل يتعدى ذلك إلى تعليم أحكام التجويد، وفنون التلاوة، وشيءٍ من علوم اللغة والإنشاء. أما الرافد الثاني، فيتمثل في البؤر مظنَّة التلقّي، مثل مجالس المديح والإنشاد و"القوّالة". ومع عدم قدرته على الكتابة، فقد يسَّر الله له ذاكرةً واعية لا تحتاج كبيرَ جهدٍ في الحفظ، فكان يحفظ القصيدة إذا قيلت أمامه بعد مرتين لا أكثر.
أما الرافد الثالث والأهم فهو "الراديو"، إذ كان الوسيلة الوحيدة التي تربط الناس في أعماق الصعيد بالدنيا من حولهم. ومن خلال برامج الراديو الثقافية، كان برين ينهل من عيون الشعر العربي وحِكَمِه وأمثاله، بالإضافة لاقتناصه عشرات الأغنيات لمطربين معاصرين – أبرزهم أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز – وراح يترنم بها.
كما أطلعه الراديو، محبوبه الأثير، على المستجدات على الساحة السياسية في العاصمة التي تمور بالأحداث، فكتب عن هذه المستجدات في حينها، مثل مواويله عن القدس، وحرب أكتوبر، وعن استرداد طابا، وعن مترو الأنفاق حين إنشائه، وعن حرب الخليج، ومحاولة اغتيال الرئيس مبارك.
الرافد الرابع والأكثر إدهاشًا أنه كان للشيخ ما يُشْبِه الصالون الثقافي، حيث يجتمع حوله مثقفو القرية، المتعلمون فيها، ويتداول الشيخ معهم أحدث ما اطَّلعوا عليه في الجرائد والصحف والكتب من قصائد ومدائح، فينتقي منها ما يناسبه ويُنشده، لكن بلحنٍ يخصُّه هو. وربما أضاف وحذَفَ وشرح وفسَّر وقدَّم وأخَّر في الأبيات وفق ما يقتضيه حال الحفل، فلم تكن سمةٌ أبرزَ في فن الشيخ أحمد برين من سمة التلقائية.
الرافد الداخلي
لا يمكننا بحالٍ أن نُغْفِل أن جُلَّ ما غنّاه الشيخ أحمد برين أو أنشده كانت مواويل من تأليفه هو، سبَكَها من معرفته الخاصة، ومن ثقافته التي حصَّلها، ومن خلال قريحته الشعرية الفائقة، وكل من أتوا بعده من الفنانين الشعبين في تلك البقعة الجغرافية كانوا عالةً عليه، فلهم مثله حظٌ من الطرب، ويتفوق هو عليهم بقدرته على التأليف والتلحين والدراية الموسيقية.
تتبدَّى موهبته الفذة في المعالجة التي يقدمها للقصص الدينية، شأنه شأن كبار الشعراء. فهو لا يقدم النص أو الأسطورة كما وردت، بل ينسجها في مواويل توضِّح وعيَه الخاص بها، إذ إنه يتمتع بجرأة في استخدام الرمز إلى الدرجة القصوى، ما يجعله يمزج الخمريات بالغزل الصريح بالإنشاد الديني في مواويله الخاصة، والتي تحضُّ في سياق آخر على مكارم الأخلاق، كالنجدة والمروءة الكرم وحفظ الجوار. وكل هذا جاء في لغةٍ مغايرةٍ تمامًا، وإن كانت شعبيةً، فهي تنطوي على بلاغة لها جذورها الفصيحة.
يتمثل قلب المشروع الفني للشيخ أحمد برين في أنه قدّم رواية شعبية خالصة للسيرة النبوية والقصص الدينية، لا تُعنَى بصحة الأخبار وثبوتها مطلقًا قدر ما تُعنى بجماليات المرويَّات فنيًا وتوافر الشرط الدرامي فيها، فهو لا يتبنَّى التلقِّي الأوَّلي للنصوص الدينية، بل يُعالجها دون افتئاتٍ على حقائقها، شأنه في هذا شأن كبار الشعراء، ولكن في مواويل شديدة الفرادة والعذوبة والثراء اللغوي والحِجاج الشاعري، مثلما فعل في مرافعته البليغة – في عدة حفلات – دفاعًا عن زوجة عزيز مصر "زليخة" في محبتها لنبي الله يوسف.
استوعب الشيخ الأميّ الكفيف أن منطق الفن منطقٌ جماليٌّ، لا يُعنَى بالصواب والخطأ وإنما بالجميل والقبيح، فالذي يكتب يتسامى عن السائد ويرتفع ليرى الصورة من أعلى فيغفر للجميع، وفق عبارة الروسي ليو تولستوي: "من فَهِمَ كلَّ شيءٍ.. غَفَرَ كلَّ شيء".
وإذ يترافع فنَّانٌ من أقصى الأرض عن امرأةٍ عاشقةٍ عَبَرَتْ على الدنيا قبل آلاف السنين، فإنه شديد الإيمان بالمنطق الجمالي، أو منطق التسامي والغفران؛ المنطق الذي تبنَّتْهُ الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا (1923-2012) الحاصلة على جائزة نوبل للأدب (1996)، في قصيدتها عن "امرأة لوط" حين خالفت الوصيّة والتفتت للوراء، فبرَّرَت لها شيمبورسكا بالمنطق الذي نتحدث عنه، فتحكي على لسانها:
"ربما نظرتُ للوراء في شوق
ولكن عدا الشوق؛
فمن الممكن أن تكون لي أسبابي الأخرى؛
تلَفَّتُ بأسىً لوعاءٍ فِضّيّ
ومن غير انتباهٍ عقدتُ رباط الصندل
لقد فعلتُ كل ذلك
كي لا أنظر أكثر في قفا زوجي.
تلبَّسَني يقينٌ بأنني إن متّ
فلن يتوقف هو عن المسير..!".
وليست شيبمورسكا البولندية وحدها التي اعتمدت طريقة تفكيك وتركيب ومحاورة النصّ الديني أو الميثولوجي؛ فلدينا عربيًا الشاعر المصري أمل دنقل (1940 -1983) الذي كتب عن ابن نوح الغريق، ووضعهُ في موقف المناضل الذي آثر أن يقف في وجه الطوفان الذي يداهم المدينة. لم يعصِ أمرًا سماويًا، لكنَّه أحب البلاد كما لم يحب البلاد أحد – وفق تعبير الصغير أولاد أحمد – وآثرَ أن يموت فيها على أن ينجو خارجها، فيكتب على لسانه:
"جاء طوفان نوح
ها هم الجبناء يفرّون نحو السفينة
بينما كنتُ.. كان شباب المدينة
يُلجمون جوادَ المياه الجَموح
ينقلون المياهَ على الكتفين.. ويسْتَبِقون الزمن
يبتَنون سدودَ الحجارة..
علّهم ينقذون مِهادَ الصِّبا والحضارة
علّهم ينقذون الوطن..".
لم يكن دنقل يعمد إلى تكذيب أو تصديق النصوص الدينية كما يُفتَرى عليه، فالتصديق والتكذيب والصواب والخطأ ليس من عمل الشاعر، فالشاعر أو الفنان صنعَتُهُ الجمال والتأثير والمحاورة والكشف والإشراق!
ما يهمنا هنا أن الشيخ الكفيف الأمِّيّ يقف نِدًّا لهؤلاء، ومتفقًا معهم في كونهم لا يعمدون إلى تكذيب أو تصديق النصوص الدينية كما يفتري عليهم مُحتَكِرو الإيمان. هو رجل من أقصى صعيد مصر، لم يحُزْ ثقافة دنقل ولا معارف شيمبورسكا، ولم يقرأ في النقد ونظرياته، ويقف في حشود البسطاء والأميِّين ويتبنَّى المنطق الفني الجمالي المُغاير ذاتَهُ، مما يؤكد على روحانية الفن وأنه رحِمٌ بين أهله.
الأمر الأشد غرابةً أنه رغم بساطة المستمعين ومحدودية ثقافتهم وما يُشاع عن البيئات الريفية من المحافَظَة؛ إلا أنه لم يُقابَلْ الشيخُ يومًا باعتراضٍ على مواويل "زُليخة ويوسف" بحجَّة التبرير للرذيلة. وإن دلَّ هذا على شيءٍ، فهو على قدراته الفنية المذهلة في التأليف والإنشاد، كما يدل على أن الروح النقية هي التي تستوعب الفن، لا العقل المكتظ بالمعارف ولا الذاكرة المشحونة بالنصوص!
مُتُونٌ وحَوَاشٍ
جاءت مرافعة الشيخ برين في مواويل تنتمي لجنس "المسبوع"، وهو نوعٌ من الموَّال الشعبي يتكون من سبع شطرات، تنتهي الثلاثة الأولى منها بقافيةٍ واحدةٍ تعتمد الجناس التام، والثلاث شطرات الثانية على النسق نفسه، والشطرة السابعة نصفها الأول ينتمي للقافية الأخيرة، ونصفها الثاني ينتمي لقافية الثلاث شطرات الأولى.
هذا هو النسق المثالي للموال المسبوع أو السبعاوي، وكثيرًا ما يخرج المنشدون على هذا النسق متحررين حتى من القواعد التي صكّوها هم بأنفسهم، إيمانًا منهم بحرية وتلقائية الفن في المقام الأول. يقول الشيخ:
(1)
زُليخة قالت معايا النار وهجانة (موهوجة: مشتعلة)
مِن حُبّ يوسف هَفُوتْ البيت وهجانة (أهِجّ منه: أهرب منه)
لُه كَرْم عندي زمانُه طاب وهجانة (واهو جنى: آن أوان الجَني)
ياكُل حلاوة إذا قالّي أحد شوفتُه
ما في النوم شوفتُه.. دعيت الله واهو جانا (أتى يوسف)
(تشكو زليخة من نار الغرام المتقدة في الحشا، ومن شدة حبها ليوسف ضاق بها القصر الذي تسكنه، حتى لتوشك أن تركض في الشوارع، وقد أعدّت له – يوسف – ما طاب من كروم الثمر في انتظار مجيئِهِ، ومن يُبَشّرها بلقيا يوسف له "الحلاوة" المكافأة، إذْ رأتْهُ في النوم فدعت الله أن يعجّل بتحقق الرؤيا، وها قد أتى المحبوب).
(2)
زُليخة قالت أيا خدّام روح جيبُه (روحي جُبُّه)
هاتهولي حالًا وهات العطر روح جيبُه (ريّح الجُبّة: عطّرها)
عايزاه في الدار زيّ كتاب روح جيبُه (راح احجِبُه: اعمله حجاب)
اللي يجيب يوسف أعطيله دهب ما وعيش (مئة عملة ذهبية ليعيش في رغد)
دا نَدْرَك عليّا وتبقى مونَتَك ما وعيش (هذا نَذْر: مؤنته علينا ماءً وخبزًا)
مِن حُبّ يوسف أنا معايا النظر ماوعيش (نظري ضعف فلا أرى)
عِنْدُه ما تبطيش يلّا قوام روح جيبُه (روح هاتُه بسرعة: ائتِ به)
(تحكي زُليخة عن عشقها ليوسف، وكيف أن يوسف قد استقر في روحها فهي الجُبّ الحقيقي الذي استوطنه يوسف، وقد أعدّت له جُبّة العاشقين ليلبسها وأمرت الخادم بتعطيرها، وهي تريد يوسف معها في الدار لتتخذ منه حجابًا كالذي يصنعه المشايخ ويعلّقه العليل في رقبته ليُتَدَاوَى به مما فشل الطب في علاجه. وتَعِدُ من يأتيها بيوسف بالمكافآت السخيّة، ثم تشكو من ضعف بصرها من شدة شوقها ليوسف، وهذا من أعراض السقم عند المحبين. ثم تناشد الخادم ألا يتأخر في المجيء بخبر يوسف وأن يُسرِع في الإتيان به).
(3)
زُليخة قالت يا يوسف.. قالّها: مالك؟!
تعالى شَرِّف وتبقى عندنا مالك (صاحب أملاك)
قَدّتْ قميصُه فقال إني أخاف مالك (الله: الملِك)
حَطّوه في السجن والظلما ولا بيوعَى (لا يرى في الظلام)
فقال: لَلسجن أهوَن من عذاب مالك (مالك خازن النار)
(نادت زُليخة على يوسف بنداء الشوق، فتساءل عن مرادها، فوعدته بالأملاك والقصور إن وافق مرادها، فتمنّع عليها، فقدّت قميصه فقال إنه يخاف الله، فأمرت به أن يُساق للسجن – انتبه: السجن لا القتل – فقال: السجن أهون من عذاب النار!)
(4)
وراودتْهُ وكادت..... تخلع كل ملابسها
من يوم نَظَرْتَكْ جرالي إيه ملابسها (مالي أسهو؟)
لولا البراهين يوسف كان ملابسها (مال باسْها)
قالت زُليخة: ليوسف خيّطوا البدلة
وجابَتْلُه بدلة وحلف يمينين ما لابسها!
(تُراود زُليخةُ يوسفَ عن نفسه، وكادت تخلع كل ملابسها لتفتنه، وتسأله باستعطاف: مالي منذ رأيتك شغلتُ عن كل ما حولي سهوًا! ولولا أن رأى يوسف براهين ربه لمال إليها وقَبّلها! فتأمر الخدم أن يخيطوا له بدلة العشق، فيُقسم يوسف أغلظ الإيمان ألا يلبسها!).
(5)
زُليخة قالت: صِيتك عَمّ في وادينا (بلادنا)
يا ابن الأكابر بتهجر ليه وادينا؟! (ودّي أنا لك)
الاتنين في القصر آدي انتا وآدينا (آدي أنا)
ليك جوز عيون سود زي نِبْل العدا صايب (يُصيب الهدف)
ليه لم تَجي الدار في القصر الجميل صايب؟ (صوبنا: نحونا)
ما سبب المصايب دخولك أنت في وادينا!!
(تعاتب زليخةُ يوسفَ، لماذا وقد انتشر صيتك في بلادنا تهجر ودادنا؟! وما بال عيونك السُّود تُفتت كبِد العاشقة؛ فهي تُصيب الهدف كما يُصيبه الرامي بالنبل في الحرب.. فلماذا لا تأتي قَصْرنا، وسببُ مصيبتنا – في الحب – كلها هو قدومك لوادينا!)
(6)
زُليخة قالت ليوسف جُدْ لي بالوصال، وأبيه (أبَى)
نبي ومعصوم عن جدّه الخليل وأبيه (إبراهيم ويعقوب)
لو جُدت بالوصل تبقى للموالي بِيْهْ (البهوية: زعيم)
في القصر حابساه غرضها تبلغ المزجاة (مزاجها المشتَهَى)
كل الفواكه تجيلوا بالقفص مزجاة (موز جاي)
إخواته قالوله جئنا ببضاعةٍ مزجاة
أوْفِي لنا الكيلَ وتصدّق علينا بِيه
(تقول له زُليخة جُدْ لي بوصلك لكنه يأبى، فهو نبيٌ معصومٌ كابرًا عن كابرٍ، وتُمَنّيه بالسلطان ورئاسة الموالي لو جاد بوصله عليها.. تحبسه في القصر لتأخذ مرادها "مزاجها" منه، وتأتيه بفواكه الموز وخلافه، وتتمة الموال متعلقة بقصة مجيء إخوته..).
التحليق خارج القفص
لم يدُرْ بخلد الشيخ أحمد برين يومًا أنه سيحظى بحضور خارج مصر. وإن شئنا الدقة، خارج حدود الموالد ودوائر مستمعي الفن الشعبي البسطاء. وللحق فهو لم يشغل باله يومًا بهذا، ذلك أنه يُغنّي ليطرب نفسه بالأساس، وليطرد عن نفسه ضجر الألم وبؤس المعاناة، وليحتفي بالحياة كما يليق بعاشق لها.
لكن السنين تمر، ويتم التقاطه وهو يُحيي ليلةً في مولد الصوفي العارف بالله أبي الحجاج الأقصري، من قِبَل أحد متعهدي حفلات الفنون في باريس، يُدعى آلان فوبير، فيقرر اصطحابه إلى هناك وإقامة حفلات له في عدة مدن أوروبية انطلاقًا من باريس، ليشق الشيخ طريقه نحو العالمية في مطلع الثمانينيات، وليكون من أوائل الفنانين الشعبيين المصريين الذين أحيوا الحفلات في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا وهولندا والمغرب وغينيا بيساو وغيرها، وكان من المقرر أن يذهب إلى إيران لولا تحذيرات بعض المقربين.
أقام برين قرابة 400 حفل على أعرق مسارح أوروبا لمدة 15 عامًا كانت فترة فنية ذهبية له قبل أن يعتكف في منزله في العام 2013، وقد "أدّى رسالته" وفق ما يروي عنه المقربون منه.
الرحيل
رحل الشيخ أحمد برين عن دنيانا في 30 حزيران/يونيو 2015، تاركًا خلفه تراثًا ضخمًا عبَّر من خلاله عن قضايا وهموم وأفكار وقيم ومبادئ الجماعة الشعبية والمحيط الاجتماعي الخاص به، وأكّد عبره على القدرة الروحية والإرادة الفولاذية المستودعة في شخصه، والتي نجا بها من الوقوع في شرك اليأس والعدمية، وخرّج من عباءة هذا التراث تلاميذ كثيرين مثّلوا مجتمعهم في مختلف المحافل.