السياسات الاستعمارية التعليمية في الجزائر

التعليم الاستعماري في الجزائر.. حرب على العربية

23 أكتوبر 2024

استحوذت مسألة التعليم في الجزائر أثناء الفترة الاستعمارية على النصيب الأكبر من النقاشات المرتبطة بالوظيفة الحضارية المزعومة لفرنسا في البلاد، حيث كان التعليم من القضايا الحساسة التي خلفت آثارًا عميقة، سواء تعلق الأمر بتشكل هوية الجزائريين الثقافية واللغوية بعد 132 عامًا من الاحتلال، أو بما يتعلق بالسياسة اللغوية للبلاد ونظام التعليم بعد الاستقلال.

ووجد المدافعون عن الإدارة الاستعمارية في ادعاء فرنسا حول مهمة "تهذيب الجزائريين وإلحاقهم بقاطرة الحضارة"، عبر فرض رؤية تعليمية فرنسية تتسق تمامًا مع المجتمع الفرنسي وليس الجزائري، مبررًا قويًا لما اقترفه الاستعمار بحق المؤسسات التعليمية الجزائرية الموجودة آنذاك، والذي انعكس على التشكيل الثقافي والنسيج الاجتماعي والانتماء الديني للجزائريين.

وارتبط تاريخ فرنسا الاستعماري في الجزائر بسياسات سعت، منذ البداية، إلى عملية تهجين للمجتمع أرادت من خلالها تفكيك الذاكرة وطمس هوية أصحاب الأرض. ولمّا كان هدف فرنسا المزعوم من غزوها للجزائر هو تحقيق "مهمة حضارية"، فقد تطلب منها ذلك عملًا دؤوبًا واستراتيجيات محكمة تمنحها تفوقًا ثقافيًا وعلميًا، تقوض به الإرث الثقافي والحضاري والعلمي الموجود في البلاد منذ قرون.

أرادت الآلة الاستعمارية منذ البداية، أي منذ سنة 1830، أن تجعل من الجزائر أرضًا فرنسية، وإن كلفها ذلك تدمير كل ما له صلة بالجزائريين، بدءًا من استنزاف خيراتها واستغلال سكانها خدمةً لمشاريعها الاقتصادية والاستيطانية، ثم فرض سياسة ثقافية وتعليمية تجعل من الهدم المعرفي والثقافي حتمية تسقط فيها كل الجزائر بشعبها وبمعالمها التاريخية والثقافية والدينية دون استثناء.

وكانت فرنسا تدرك جيدًا أن بوابة السيطرة على شعب ما تبدأ من السيطرة على عقله، ما يسمح لها بإحداث هزات عنيفة على مستوى طبقات تكوين المجتمع الجزائري في جل أبعاده، مسخِّرةً لتحقيق ذلك إمكانيات مادية واستراتيجيات سياسية تمكنها من اقتلاع هذا المجتمع من انتمائه الديني واللغوي، وعزله عن حاضنته الاجتماعية والثقافية، ومن ثم إعادة رسكلته بما يتوافق مع أهدافها الاستعمارية.

وبابتكار خطط تفضي لتحويل التعليم إلى شأن عصي على غالبية الجزائريين، بغاية صناعة أجيال غارقة في الجهل، أو هجينة ثقافيًا تُدين بالولاء أولًا لفرنسا؛ أرادت السلطات الاستعمارية قطع كل رابط من شأنه أن يضع هذه الأجيال في إطار يمكّنها من التواصل المستمر مع مكونات هويتها.

وعكس ما روّجت له قبل غزوها للجزائر، فضّلت فرنسا في المقام الأول تدمير التعليم وإهماله، إلى درجة بلغ معها الجهل داخل المجتمع الجزائري مبلغًا كبيرًا، ذلك أنها كانت تريد قطعانًا من البشر ممزقي الهوية وغارقين في الجهل تنمّي في دواخل أفرادها مشاعر المهانة والذل. ولم تنتبه إلى ضرورة إقرار إصلاحات في سياستها التعليمية إلا حين أتى الإنذار من رجالها الموزعين في المدن بتقارير تصف حالات متقدمة من سوء أوضاع التعليم.

قاومت فرنسا كل محاولات تصدي الجزائريين لتغريبهم بسيطرتها على المؤسسات التعليمية، واتباع سياسة الفصل العنصري بين مكونات الشعب الواحد. وللوقوف عند هذا الواقع الاستعماري، لا بد من الرجوع بالتاريخ إلى ما قبل ذلك لمقارنة ما كان عليه التعليم في الجزائر ما قبل الاستعمار، وكيف أصبح بعده.

مجتمع أمي وجاهل.. ذريعة فرنسا لمحو الهوية الجزائرية

تفند الشواهد التاريخية العمرانية المنتشرة في مختلف مدن الجزائر وأريافها، كما المخطوطات القديمة عن البلاد والإسهامات العلمية لأهلها، المزاعم الفرنسية حول "الجهل والأمية والتخلف" في النظام التعليمي الجزائري، وتؤكد زيف "مهمتها الحضارية النبيلة" التي ادعت أنها كانت تسعى لتحقيقها من خلال حملتها الاستعمارية على الجزائر، ذلك أن انتشار المساجد والكتاتيب والزوايا التي تُعنى بالتعليم في المناطق الريفية، والمدارس القرآنية في المدن، يؤكد جودة الوضع التعليمي في الجزائر قبيل الاحتلال الفرنسي، وكانت هذه المؤسسات مفتوحة للراغبين في بلوغ مراتب علمية أعلى، ما اعترف به الفرنسيون أنفسهم. 

وقد جاء على لسان ديشي (Duchu)، المسؤول عن التعليم العمومي في الجزائر، ما يلي: "المدارس في الجزائر والمدن الداخلية وحتى أواسط القبائل كثيرة، ومجهزة بشكل جيد، وزاخرة بالمخطوطات. ففي الجزائر هناك مدرسة بكل مسجد يجري فيها التعليم المجاني، وكان بينها أساتذة لامعون تنجذب إلى دروسهم عرب القبائل".

والواقع أن التعليم في الجزائر خلال عهد السلطنة العثمانية كان سلسًا، ويجد فيه كل التواقين إلى العالم والتعلم ضالتهم، حسب ما يذكر مكي بوعلام في دراسة بعنوان "النظام التربوي في الجزائر" مُرجِعًا ذلك إلى أنه لم يكن للعثمانيين وزارة لهذا القطاع، كما لم يكن القطاع في مجمله خاضعًا للحكم في الأستانة. 

وتركت الدولة العثمانية للجزائريين حرية التصرف في شأن تعليمهم، حتى بلغ عدد المساجد في مدينة الجزائر والمدن الداخلية، وحتى القبائل، عددًا كبيرًا. وقد كانت كلها مجهزة بشكل جيد، ويتم التدريس فيها مجانًا، في حين يتقاضى أساتذتها أجورهم من واردات المساجد التي تصان عبرها أيضًا المراكز التعليمية وتعاد تهيئتها من مداخيل الأوقاف.

أما الوضع المادي للأستاذ، فقد كان ممتازًا بفضل الأجر الذي يتقاضاه، إضافةً إلى الهدايا التي يغدق بها أهالي الأطفال عليه في كل مناسبة. بل كانت هناك عائلات، خاصةً تلك التي تقطن المناطق البعيدة عن تمركز السكان، تستجلب معلمين خصيصًا من أجل تدريس أبنائها، وتدفع مقابل ذلك بحسب المادة التي يعلّمها. ويوضح ذلك ديشي، في تقرير رفعه لسلطات بلاده: "المواد التي يدرسها أساتذة المدارس هي: القواعد والمنطق والميتافيزيقيا والحقوق، ثم تأتي الهندسة وعلم الفلك". 

ويُعتبر انتشار دور العلم وكثرة المكتبات دليلًا قطعيًا على أن الجزائري في ذلك الوقت كان شغوفًا بالمعرفة ومقبلًا عليها، على عكس ما تدعيه الرواية الفرنسية، فقد كانت مدارس مدينة الجزائر وقسنطينة ذات صيت طيب في هذا المجال. ولم يقتصر التعليم على أبناء المدن وحسب، بل كان دارجًا حتى في أوساط القبائل، في الزوايا التي عادت شؤون إدارتها إلى السكان، والتي كانت مأوى للمقبلين على العلم، وتكون في الغالب محاطة بالأراضي الزراعية التي تخصص بعض محاصيلها لتمويل المجهود العلمي وتوفير تعليم مجاني لطلبة، وكان هذا عاملًا قويًا دفع وشجع على طلب العلم.

لم يكن المشهد الذي كان عليه وضع التعليم في الجزائر، بكل جماله وتنوعه، خفيًا على السلطات الاستعمارية. فقد أكد الجنرال فاليزي، بحسب ما جاء في كتاب "المسلمون الجزائريون وفرنسا" لشارل ر. أرجيرون، أن وضعية التعليم في الجزائر قبل الاحتلال كانت جيدة، فكل الجزائريين تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة. فما الذي دفع فرنسا إذًا إلى ادعاء العكس؟

كانت فرنسا تسعى من خلال التدمير الممنهج للتعليم إلى خلق جزائريين دون معرفة، مغيبين عن حقوقهم مشتتين بين هويتين ستكون الغلبة بينهما للأقوى. وبمعنى آخر، لقد أرادت فرنسا إنهاء تواجد الجزائري بكل حمولته الثقافية والاجتماعية وإرثه التاريخي ورموز هويته، لتختصره في عبد ذميم جاهل وخادم لسيده. 

ومن أجل الانتصار في حربها المعلنة ضد التعليم في الجزائر، شرعت السلطات الاستعمارية في محاربة لغته، فماذا تعني الهوية والانتماء إلى الوطن دون لغة، وما الأمة دونها؟

كانت فرنسا تعي أن وحدة أي أمة تكمن في وحدة لسانها شعبها وأرضها، وكلما "تبلبل" اللسان بغير لغة أهل الأرض، ولهجوا بلسان غازيهم، سرعوا من عملية دمجهم في قالب لغوي وثقافي دخيل عليهم، وأصبح تواجدهم بوصفهم أمة واحدة مستعصيًا. 

في المقابل، كانت الجزائر ما قبل الاحتلال، وبفضل موقعها المتميز وسط البحر الأبيض، أرضًا تتسع للعديد من اللغات التي حُملت إليها بفضل القادمين من مختلف بلدان المتوسط، وقد تعايش فيها المسيحيون والمسلمون واليهود، ناهيك عن أمم كثيرة أخرى مثل الإسبان والأتراك والبرتغاليون والمغاربة. كما وجد الجزائري لنفسه لغة توحده مع المختلفين في ألسنتهم معه، لغة اقترض كلماتها من احتكاكه بتلك اللغات.

الحديث عن كل هذه الظواهر الثقافية واللغوية في ظل الوضع الاستعماري ليس حميدًا، ذلك أن عملية التثاقف، باعتبارها لقاءً ثقافيًا وتبادليًا ونفعيًا، يجب أن تحدث في ظروف أقل تأزمًا وعنفًا مما فرضه الاستعمار، إذ لا يمكن لأي عملية تثاقف أن تحدث في الوقت الذي يجبرك فيه المستعمر على تعلّم لغته ونبذ لغتك، مُشهِرًا بندقيته في وجهك ليجردك من أرضك ويدفعك نحو اغتراب مرير. وهنا يتساءل ديشي معاتبًا سلطات بلاده عن مآل المراكز التعليمية: "لكن كيف أصبحت هذه المؤسسات التي كانت مصدر حياة المتفوقين فكريًا؟".

استولت فرنسا في البدء على دور التعليم فاختفت على إثر ذلك المساجد، وحوِّلت إلى ثكنات ومقرات إدارية، وهُدمت الزوايا وصودرت عائداتها وعائدات المساجد. وبسبب ذلك، لم يعد هناك مدخول ثابت للمعلّم، ما خلّف تذبذبًا في مواعيد الدروس، خاصةً في المدن الداخلية والكبرى. وقد أشار ديشي إلى وضع الزوايا بقوله: "أما بالنسبة للزوايا في أوساط القبائل، فلم يعد لها وجود بهذا الاسم، ذلك أن حملاتنا العسكرية قد شتت جموع الطلبة وزادت بذلك في عدد أعدائنا، في حين أن المخطوطات التي كانت تشكل قاعدة للتعليم، فقد قضي على جانب منها". 

تقلص عدد الأماكن المخصصة للعلم، حيث أغلقت فرنسا نحو ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كما أنهت نشاط المدارس القرآنية والمساجد، وبدأ تعليم اللغة العربية يتراجع، وبدأ الطلبة الذين كانوا يقصدون المساجد والزوايا لتعلم اللغة وقواعدها والدراسات الدينية بالتخلي عن شغفهم، بسبب الإهمال المتعمد والحملات العسكرية ضد هذه الأماكن ومحاربة اللغة. 

ومن المؤكد أن هذا الوضع يعزز العداء بين الجزائريين والاستعمار، ويدفع إلى ظهور أساليب جديدة لمحاربة سياسة فرنسا التي تعمل بلا استسلام على محو أمة قائمة وبناء بأخرى على أنقاضها. لكنها لم تدرك أن ما كانت تعتقد أنه يعزز من تواجدها ويبسط نفوذها، ويحوّل كل ما في الجزائر إلى ملكية خاصة للمستوطنين الذين قدموا من بلدان بعيدة؛ كان في الحقيقة يساهم في تأجيج غضب الجزائريين، الذي غذّته عقود من الضغائن السياسية.

اللغة وطن ومنفى في آن معًا

ثمة دائمًا رابط بين اللغة والشعور بالانتماء. الانتماء إلى الأرض أو مجموعات من الأفراد، أو الانتماء لمجموعة واحدة، يجعل من الاغتراب متلاشيًا. وكانت فرنسا تدرك أن أول خطواتها نحو انتزاع الجزائري من هويته تكمن في نفيه خارج لغته، أي بتر أقوى رابط يعزز شعوره بالانتماء.

وبالتالي، ما كان يجمع الجزائريين في مواجهة لسان المحتل هو وحدة اللسان، والقضاء على اللغة يبدأ بالقضاء على فضاءات تعليمها، وهو ما يشير إليه الماريشال دوق دومال، أحد قادة جيش الاحتلال الفرنسي، بالقول: "لقد ارتكزنا في الجزائر واستولينا على المعاهد العلمية وحولناها إلى دكاكين وثكنات ومرابط للخيل واستحوذنا على أوقاف المساجد والمعاهد وبذلك قضينا على العربية".

لهذا كان على النظام الاستعماري أن يكون أكثر ابتكارًا في حربه ضد اللغة العربية. وفي البدء، قررت السلطات تعليم العربية والفرنسية بشكل متوازٍ جنبًا إلى جنب، لكن بإقرار سياسة لغوية مجحفة تتحيز للغة الفرنسية على حساب نظيرتها العربية. فاعتبرت القوانين الاستعمارية أن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية، وأن العربية لغة أجنبية، وجعلت من فتح المدارس لتعليم اللغة العربية مخالفة، إذ ليس من الممكن الإقدام على خطوة فتح مدرسة لتعليم اللغة العربية إلا بالحصول على الموافقة، أي عن طريق استصدار تراخيص من الإدارة المدنية أو العسكرية الفرنسية.

والتراخيص في مثل هذه الحالات لم تكن سوى وسيلة لتعجيز من يريد الحصول عليها، أو محاولة لدفع من يرغب في فتح مدرسة إلى التنازل عن هدفه والاكتفاء بترخيص يمكنه من فتح مدرسة يقتصر التعليم فيها على تحفيظ القرآن دون شرح آياته، خاصةً تلك التي تحث على الجهاد. كما مُنع تدريس جغرافيا وتاريخ الجزائر، والأمر ذاته بالنسبة إلى جغرافيا العالم العربي الإسلامي.

ومن شروط الحصول على التصريح أن يكون ولاء صاحب المدرسة  للسلطات الاستعمارية، وخادمًا لها أيضًا. ثم، في مرحلة أخرى، مُنع تدريس اللغة العربية نهائيًا بوصفه تهديدًا لتوطين الأوروبيين. وهكذا أعلنت فرنسا، وبشكل مباشر، عدائها للغة العربية، وتكرر في خطابات قادتها السياسيين أن الجزائر مقاطعة فرنسية، وأن سكانها تابعين، أي مواطنين فرنسيين ولكن مسلوبي الامتيازات، أو "أنديجان" يخدمون الأوروبي. 

وتصدّت عدة فعاليات وطنية، مثل "حزب الشعب" وجمعية العلماء المسلمين، لمحاولات التدجين والدمج وفرنَسة المجتمع الجزائري، وقد عبّر عن ذلك عبد الحميد بن باديس، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بقوله: "لا تنتظم العلاقات ولا ينمو الود إلا إذا تعاملنا بصفاء مع قاعدة أنت أنت، وأنا أنا، أما أن تصبح أنت أنا، أو أنا أنت، فذلك عين المستحيل".

التعامل مع اللغة العربية بوصفها خطرًا يتربص باللغة الفرنسية، والثقافة الفرنسية والمسيحية، دفع بفرنسا إلى التطرف في التعامل مع لغة الجزائريين. فبعد أن حظرت العربية وأصبح تعليمها عسيرًا عليهم، منعتهم بالقدر نفسه من تعلّم الفرنسية التي كانت حكرًا إلا على الأقلية من الجزائريين رغم أنها سنت قانونًا للتعليم الإجباري. 

وللإمعان في عملية المسخ والهدم، عمدت السلطات الاستعمارية إلى استعمال اللغة الفرنسية بوصفها لغة رسمية في كل الشؤون الإدارية، ومضت في عملية ممنهجة لإسقاط أسماء الأحياء العربية واستبدالها بأسماء فرنسية، ومنها تسمية المدن والشوارع.

لقد أرادت فرنسا أن تخلق مجتمعًا فرنسيًا داخل المجتمع الجزائري، أو إيجاد قومية دخيلة تدفع بقومية موجودة إلى الهامش. وكانت مدركة، منذ البداية، أنه لا مكان لقوميتين كما لا مكان لشعبين، إذ امتلكت منذ البداية رؤية وحيدة للوضع الجزائري: مقاطعة فرنسية يسكنها مواطنون يتفاوتون في الميزات والحقوق. 

التعليم وسياسة الفصل العنصري 

لجأت فرنسا إلى سبل كثيرة ومتنوعة لإنهاء علاقة الجزائري بلغته ودينه وثقافته، فأقدمت على التجنيس ومن قبله الإدماج، فلم يتبق أمامها إلا توسيع نطاق العنصرية ونقلها إلى المحيط الجزائري بين الجزائري وأخيه الجزائري بهدف عزلهم عن بعضهم البعض وخلق فوارق اجتماعية وثقافية، ومنح الأفضلية لفئة على حساب أخرى. 

والمتمعن يدرك أن الغاية كانت خلق رجال فرنسيين من الرحم الجزائري، أوفياء لفرنسا وينتمون لثقافتها ويطمحون إلى مستقبل تكون فيه قابضة بيدها على كل ما يخص الجزائريين. وكان منح الامتيازات لجزائريين على حساب آخرين قنبلة موقوتة تغرسها فرنسا بعناية وسط المجتمع المحلي، لأنها تعي أن إشعال فتيلها يعزز من بقاء فرنسا أطول، ويمنحها شرعية تواجه بها الخارج والداخل.

وعمدت الإدارة الاستعمارية، من أجل الوصول بأهدافها المعلنة والخفية إلى مستويات تكون فيها راضية كل الرضى عن أدائها في الجزائر، إلى سياسة فصل عنصري داخل منطقة القبائل (الأمازيغ) شمال الجزائر، تعزلها من خلالها عن بقية الوطن. فأشاعت أن الأمازيغي في مدينة تيزي وزو أو بجاية يتفوق ذكاءً عن باقي الجزائريين، وبذلت قصارى جهدها لتمنح منطقة القبائل وسكانها امتيازات خاصة في كل المجالات، ومنها التعليم، والغاية من ذلك فصل الجزائريين وتمزيق وحدتهم لإيجاد أمتين: عربية وقبائلية تنتمي عرقيًا إلى الأمة الفرنسية، ذلك أنه كلما تمكن الغازي من تفريق الشعب الواحد وتقسيمه، أصبح من السهل التحكم فيه.

وأرادت فرنسا من هذه السياسة جعل سكان منطقة القبائل يدها العليا لتحقيق غايتها الاستعمارية، ولكن كيف تبلغ فرنسا ذلك؟ الواقع أن فرنسا لم تكن بحاجة لمدافع لتشتت بها وحدة الجزائري، فتدجين العقل وشحنه بمغالطات علمية يكفي للوصول إلى نتائج مرضية، وهذا ما كانت تأمله على الأقل.

ورافع السياسي والقاضي الفرنسي كاميل سباستي من أجل منطقة القبائل ناصحًا، ومتوسلًا، سلطات بلاده بضرورة تعليم أطفال منطقة القبائل وجعلهم "أكثر حداثة": "أشرعوا أبواب المدارس لأطفال القبائل اليتامى".

ومن أجل إعدادهم للاندماج مع الفرنسيين، لم يكتف القاضي بذلك، بل طلب أيضًا تحويل أسماء سكان منطقة القبائل إلى أسماء فرنسية، وفرض عليهم لأجل ذلك قانون 1882 مرتكزًا على افتراء عرقي جاء فيه: "ينحدر البربر من سلالة الرومان المسيحيين القدامى، وهو ما يجعل عودتهم للمسيحية أمرًا يسيرًا". وتنبأ وارني أوغست (Warnier August)، وهو طبيب وبرلماني فرنسي، بمستقبل الجزائر قائلًا إنه: "لن يكون فيه مكان للعرب، ولا للذين يدينون بالإسلام، بل للمسيحية والتحالف القبائلي الفرنسي".

وقال إيميل ماسكيري (Émile Masqueray)، متخصص في العالم الأمازيغي ومدير المدرسة العليا للأدب في الجزائر: "لقد تمت أسلمة سكان منطقة القبائل بشكل سطحي، ولم يخترق القرآن أخلاقهم ولم يتمكن من التسلل إليهم، وحياتهم الأسرية والاجتماعية التي يحكمها القانون الأمازيغي تبنت مما لا شك فيه العقيدة الإسلامية وتعنتها المذهبي". 

والواقع أن القانون الذي كان يحكم منطقة القبائل اجتماعيًا وأسريًا هو قانون استمد مبادئه وقيمه من الإسلام قبل مئات السنين، وهي المعضلة التي عجزت فرنسا عن استيعابها، ذلك أن المستعمر لا يرغب إلا بسماع صمته، ولا يحتكم إلا إلى سياسة العنصرية، ولا يجيد إلا التفريق والحرق والقتل.

وفي العموم، لم يكن هذا الانحياز لمنطقة القبائل خاصًا بالساسة الفرنسيين فقط، بل يقاسمهم في ذلك رجال الدين المسيحيين، فقد كان الكاردينال شارل ليفجيري، مؤسس جمعية الآباء البيض، يقول: "إن منطقة القبائل هي بمثابة منطقة أمل استثنائيٍ بالنسبة لفرنسا، إن فرنسا كانت مقتنعة تمامًا أن دماء الفرنسيين وأمازيغيٌ منطقة القبائل واحد، والأصل الروماني والمسيحي بينهما يخلقان روابط متينة يرعاها الرب". 

وضاعفت فرنسا من إنشاء المدارس في منطقة القبائل تزامنًا مع مضاعفة أكاذيبها حول سكان المنطقة، والحقيقة أن ما دفع فرنسا إلى مراكمة الأكاذيب التي من السهل تفنيدها هو تخوفها بعد أن لاحظت الإقبال الكبير على التعلم من خلق نخب موازية تدفع بفرنسا خارجًا، خاصةً وأن كل محاولاتها لعزل المنطقة وإشاعة أن سكانها من عرق رومانيٍ باءت بالفشل، ذلك أن سكان المنطقة أظهروا تمسكًا شديدًا بالإسلام، وبانتمائهم إلى بقية الجزائريين.

وفي مواجهة التعليمات الفرنسية بإجبارية التعليم، وزيادة عدد المدارس، تقلص عدد الطلبة رفضًا للإصلاحات ونظم التعليم الفرنسية.

لقد عكس تاريخ المدرسة الاستعمارية في الجزائر تعايشًا متأزمًا معقدًا بين نظامين تعليميين استمرا في اختلافهما الحاد إلى غاية الاستقلال، وألقيا بظلالهما على مسار السياسة التعليمية واللغوية في الجزائر حتى بعد الاستقلال، أين نافست اللغة الفرنسية اللغة العربية إلى أن أقرت السلطات في الدولة فتية الاستقلال آنذاك قانون التعريب عام 1974، والذي قوبل بانتقاد ورفض واسعين من الطبقة الفرنكوفونية الموالية للسياسة الفرنسية بالجزائر. 

لكن الواقع أن الفرنسية ظلت، رغم القوانين، لغة رسمية في المعاملات وفي التعليم العالي وتحظى بمكانة متميزة جدًا من دون أن تكون دستوريًا لغة أولى، في حين طفى إلى السطح نقاشات حادة حول اللغة الأمازيغية إلى أن صادق البرلمان بأن تكون لغة وطنية لكامل الجزائريين.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

هديل عطا الله

الحاوي
الحاوي

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

محب جميل

طيف جيم كرو

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

محسن القيشاوي

غزة تحت الإدارة المصرية

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

يستعرض النص أبرز المحطات التاريخية بارزة للعلاقات المصرية الفلسطينية في ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة، التي بدأت بعد نكبة 1948، واستمرت حتى نكسة 1967

عبد الرحمن الطويل

الإسلام المغربي في إفريقيا

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

عبد المومن محو

المزيد من الكاتب

كريمة سماعلي

كاتبة ومترجمة جزائرية

الحايك الجزائري: نسيج التراث والحرية

ارتبط الحايك بسردية تاريخية تخص النضال الجزائري في مواجهة الاستعمار الفرنسي في جميع مراحله، وكان واحدًا من أبرز وجوه التصدي لسياسة فرنسا التغريبية