"الشاعر ابن بيئته". هذه هي العبارة الأشهر في تفسير رؤية ووعي ولغة ومسالِك شاعرٍ ما، بل ونبوءاته أيضًا. وهي كذلك القاعدة الأبرز فيما يُفترض أن يُحدِّد ولاءاته ودوائر انخراطه. لكنها، مع هذا، لا تتنافى وتطوير أدواته وصبغ شخصيته بما يقتضيه حلوله في بيئات مغايرة وآفاق أرحب.
لا يمكن النظر إلى تجربة عبد الرحمن الأبنودي (1938 – 2015) إلا كواحد من أصحاب الفهم الشامل لهذه العلاقات المركَّبة بين البيئة الأم/الحاضنة وبين دنيا الله الشاسعة التي سيذرعها جيئةً وذهابًا، الأمر الذي مكّنه من احتلال موقع الصدراة في الشعرية العربية في العصر الحديث، رفقة آخرين، رغم الفجوة المظنونة أو المحتملة بين شعره - بالعامية المصرية - وبين الشارع العربي في عمومه خارج القطر المصري.
بحثًا عن مكان تحت الشمس
ولد الأبنودي في قرية أبنود جنوب محافظة قنا، وتشرّب روح القرية الصعيدية، ثم غادر الصعيد بأكمله رفقة صديق العمر ورفيق التجربة الشاعر أمل دنقل (1940 – 1983) ليدرسا في جامعة القاهرة، أواخر خمسينيات القرن الماضي، وسرعان ما غادرا الجامعة - ربما ضجّت حداثة سنّهما بالمدينة الموّارة بالأحداث - وعادا أدراجهما جنوبًا ليلتحقا بوظيفتين إداريتين في محكمة قنا، وما يلبث فجر الستينيات أن يطلع حتى يعودا إلى القاهرة مرةً أخرى، لكن بتصميم الغزاة وإباء الفاتحين هذه المرَّة.
واحدٌ من الأعراض الجانبية - الحميدة غالبًا لثورة تموز/يوليو 1952 على يد جمال عبد الناصر ورفاقه - حدوثُ طفرة في أعداد النازحين من بطون القرى المصرية المُظلِمَة إلى العاصمة بحثًا عن مساحة تحقُّق تحت الشمس. اقتحم أبناء الأقاليم العاصمة، بتركيبتهم الشخصية الأصيلة في كل ما تحمله سلبًا وإيجابًا، وكان عليهم خلْق المساحات لأنفسهم بالتكيُّف أو التنازل أو التقوقع أو بقوة الذرع وعنفوان الروح.
والمتأمل لشخصية (كاركتر) الصعيدي، وفق ذهنية المدينة وكيف تراه، لا يعدو أن يرى نمطًا من اثنين: إما النمط الحادّ اللاذع الذي يتورَّع الناس عن التبسُّط معه تهيُّبًا له أو اتقاءً لصَوْلَتِه عليهم وحِدَّة مواقفِه وخشونة طباعِه، وإما النمط الأضحوكة الغرائبي الذي هو فاكهة المجالس وأداة التسلية الغرائبية.
الحقّ أقول، إن الدراما والسينما ساهمتا بشكل ما في قولبة "الصعايدة" في هذين النمطين، سيّما النمط الثاني الذي لوهلةٍ يبلغ من البلاهة مبلغ الظن أن بمقدوره شراء "العتبة الخضرا" كما في الفيلم الشهير لأيقونة الكوميديا المصرية إسماعيل ياسين! فيما تكفَّل بعض الأدباء بترسيخ النمط الأول، ولهم حيثياتهم الجمالية والمعرفية في هذا، ويأتي على رأس هذا الفيلق الشاعر أمل دنقل، الذي تصفه الكاتبة صافي ناز كاظم في أحد مقالاتها الشرسة في مجلة "الهلال" عام 2000: "وكان الشاعر أمل دنقل في ذلك الوقت أكثر المخالب تجريحًا، ينشط بشهية لإسالة الدماء، ينغرس في كل اسمٍ ويُدميه، ومسرحه اليومي مقهى ريش".
ماذا عنك يا عبد الرحمن؟
انتقل الأبنودي من الصعيد إلى القاهرة، وانخرط في الساحة الأدبية شاعرًا، وسرعان ما اتصل بالدائرة الفنية، حيث نجوم الطرب والسينما والإذاعة. لم يكن الأبنودي - ثقافةً وموهبةً - بخِفَّة وضآلة أن يرتدي النمط الأضحوكة. كان أذكى وأكرم على نفسه، وشعرُه أكرم عليه من أن يكون مادةً للتندُّر. كما لم تكن حدّة الصعيدي المفرِطة، المنفِّرة في بعض الأحيان، لتناسب شخصًا تُعِدُّه الأقدار ليكتب أغنيات مطرب مصر الأول عبد الحليم حافظ، أو السيدة شادية شخصيًا، وغيرهما الكثير.
قراءة السياق آنذاك تقضي بأن الأبنودي لو اكتفى بكونه شاعرًا لما كانت الحِدَّة في الطبع لتمثِّل مثلبةً يتوجب التخلص منها في شخصه، فالدائرة الأدبية تغفر لبعضِها بعضًا، أو على الأقل تتفهَّم مسالك بعضها. لكن الرجل صار كاتبًا لأغاني المشاهير، وضيفًا دائمًا على الإذاعة، ويُعِدُّ نفسه ليكون شاعر الأمة عبر الاضطلاع بالصياغة الإبداعية لمشروعات قومية - كبرى بحق - كجمع السيرة الهلالية أو توثيق ملحمة بناء السد العالي فنيًا عبر ديوانه الاستثنائي "جوابات حراجي القط"، فما العمل؟!
إن هذه المشروعات الإبداعية، ومن سيتعاون معهم من شخوص، وما سيحتكّ به من جهات، كلها عناصر تستدعي أكبر قدر من ضبط السمات النفسية، دون أن يذهب في الصراحة حدَّ الجلافة أو في المرونة حدَّ الهلامية. لقد كان امتحانًا داخليًا عسيرًا على الأبنودي، عُسْرُه في أنه لا يفهمه أحدٌ سواه، إلا رجلٌ خرج من رحم التجربة نفسه، وعُسرُه أيضًا في وجودك في وسط يضعك محل الريبة إذا حزتَ مغنمًا أو لاحت عليك بوادر الرغد، لتتفجَّر الخصومات، وتطرق بابك المعارك، وتسيطر على ذهنك تكتيكات الرد واستراتيجيات الوجود. وهذه الخصومات وطريقتك في إدارتها هي التي ستحدد مصير مشروعك الإبداعي، ومدى استقرارك على القمة أو الإطاحة بك!
نجح الأبنودي في ضبط التوازن وحلّ المعادلة التي ستصبح أقنوم كل موهوبي "الصعايدة" المتحققين من بعده، حتى وإن لم يدركوا أنه أوَّل من اختطّ الخط الوسط بين حِدَّة الطبع وجفافه وبين ابتذال النفس وضعَتِها، في سبيل تحقيق ما يريد لمشروعه الإبداعي، بأكبر قدر من الفطنة واللباقة والذكاء الاجتماعي في إدارة خصوماته.
على مدار نصف قرن من الانغماس في السياق الإبداعي العربي، لطالما انفتحت على الأبنودي النيران العدوَّة والصديقة. جبهات متعددة بأسلحة أكثر تعددًا، نجا الأبنودي من محاولاتها اغتياله، تارةً بالحيلة، وتارةً بالتجاهل، وتارات بفطنة الشاعر الشعبي المتوارثة عبر القرون، والتي يمكن استبطانها في شخصية عبد الرحمن، ونكتفي هنا باستعراض خصومتين شديدتي الدلالة في مسيرة عبد الرحمن الأبنودي.
الناقد ضد الشاعر!
كان الأبنودي وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وجابر عصفور ونفرٌ آخرون يمثلون، معًا، عصبة ثقافية متنقلة. وبرحيل يحيى الطاهر المباغت، ثم حلول صاعقة رحيل أمل - قطب رحى الدائرة - تفرّق الشمل، ولا أدري في أية ظروف غامضة استعرت الحرب الباردة بين الناقد البارز جابر عصفور من جانب، والأبنودي من جانب آخر. وكان أحَدّ الأسلِحَة التي أشهرها الناقد في وجه الشاعر سلاح التأويل لنصوص الأصدقاء المشتركين!
في مقال له نُشر في "مجلة العربي" عام 2008، يتناول الدكتور جابر عصفور قصيدة "الجنوبي"، القصيدة الأشهر لأمل دنقل المكوَّنة من خمسة وجوه، ويوضِّح أن وجوه الأصدقاء الثلاثة أوَّلها "كان يسكن قلبي وأسكن غرفته" يمثل صديقًا غير مشهور لأمل اسمه سيد شرنوبي من السويس، والوجه الثالث الشهير "ليتَ أسماءَ تعرف" يمثل القاصّ يحيى الطاهر، فيما يُخَمِّن عصفور أن الوجه الثاني "من أقاصي الجنوب أتى عاملًا للبناء": "دلالته رمزية، وتشير إلى جنوبي، جاء مع أمل إلى القاهرة، حاملًا الأحلام نفسها، لكنه سرعان ما تخلى عنها بفعل الذهب المتلألئ في كل عين، فمات رمزيًا في عيني أمل، كأنه أحد عمال البناء الذي سقط من سقالة عالية، تاركًا أمل وحده في طريق الحلم نفسه».
هذا نص كلام الدكتور جابر دون أدنى تصرف، ويشير فيه بأصابع الاتهام المُقنَّع - لا يخفى الاتهام رغم القناع - إلى أنه عبد الرحمن الأبنودي، حتى ولو لم يذكر اسمه، لكنه سيلمزه في جانب آخر من مقالته نفسها بأنه: "عرف طريق الشهرة بالكتابة لعبد الحليم حافظ، وفيما كان أمل يكتب (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) كان عبد الرحمن يكتب لعبد الحليم أغنية (عدّى النهار)"، ومن العجب أن الدكتور جابر، وهو من هو، ينعى على الأبنودي الاقتراب من السلطة!
من قراءتي الخاصة لقصيدة الجنوبي، لطالما شعرتُ أن الوجه الذي يبدأ بـ"ليت أسماء تعرف أن أباها"، حديثٌ مبتسر، كجسد بلا رأس. إن هذه الجملة امتداد لحديث، وليست مفتتحًا لحديث. أقرأ القصيدة مرات ومرات فأشعر، مجرد شعور، فليس هناك حديث قطعي في الشعر، أن الوجهين الثاني والثالث كليهما ليحيى الطاهر عبد الله: الوجه الثاني له حيًا والثالث له صاعدًا، الثاني له واقعًا والثالث له مثالًا، الثاني له جسدًا والثالث له طيفًا.
أما مسألة السقوط، فليست بالضرورة تحمل دلالة سلبية، فقد عبَّر يوسف إدريس عن وفاة يحيى بالسقوط في عبارته المدهشة "النجم الذي هوى"، فقد سقط ضحية أحلامه الكبرى. لكن استحضار عصفور للأبنودي بشكل استباقي هو ما جعله يُضفي على السقوط الدلالة السلبية.
"من أقاصي الجنوب أتى، عاملًا للبناء
كان يصعد «سقالةً» ويغني لهذا الفضاء
كنت أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنت أقرأ نصف الصحيفة
والنصف أخفى به وسخَ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.
وانحنيت عليه.. أجسُّ يده
قال آخر: لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
وأنا في العراء".
جاء يحيى من الجنوب ليصعد سقالات الخيال، ويُغَنّي لهذا الفضاء، وأغواه الحلم، حتى: "ذابت في ذهنه الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال"، على حد تعبير إبراهيم أصلان في كتابه "خلوة الغلبان"، فسقط، وأصبح أمل - الذي كان يراقبه من خلف الجريدة - في العراء، وصارت الصحيفة كل الغطاء!
الشخص الذي يشعر بعده أمل - العصامي - بالعراء لا يمكن أن يكون بدناءة أن "يغويه الذهب المتلألئ في كل عين" كما يرى الدكتور عصفور، لا بد وأنه كان يمثل لأمل مظلة حميمة، وحالة من عصمة الصدق في الزمن المزيف.
السؤال الآن: لماذا يفتئت جابر عصفور على نص أمل دنقل ليسدد لكمةً موجِعةً من خلاله للأبنودي؟ لا نعرف، ما نعرفه أن الأبنودي غضَّ الطرف عن هذه اللكمة، بل وفي أتون حملة شرسة ضدّ تولّي جابر عصفور وزارة الثقافة للمرة الثانية عام 2014، دافع عنه الأبنودي وفق جريدة الوطن المصرية قائلًا: «ربما لا يعرف الشباب من هو عصفور، فهو قامة ثقافية لا نستطيع إغفالها، كما أنه من أفضل النقاد في العالم العربي الآن، هو شيخ النقاد، وأي محاولة لربطه بنظام مبارك فيها ظلم شديد له وللحركة الثقافية عامة، يجب على الرافضين للرجل أن يكونوا عادلين في النظر إلى القضايا التي تتعلق ببعض الرموز الفكرية!».
إن موقف عبد الرحمن الأبنودي هذا لا يمكن عزوه لأي شيء قبل الحِنكَة، ربما فيه من النزاهة أو الصدق أو حتى ما هو نقيضهما، لكن السمة القاطعة فيه هي الحِنكة التي لم تورِّطه يومًا في شخصية الضبع الجريح الذي ينهش كل ما يقابله في كل موسم.
الشاعر في مواجهة الشاعر!
على مدار عقود مضت، كان يمكنك أن تلتقط بالكاد شذرات من التصريحات الصحفية لأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي تتناول علاقتهما المفخَّخة. وفيما يبدو الفاجومي (لقب نجم) أكثر فجاجةً، تلتزم تصريحات الأبنودي بالخط الذي اختطَّه لنفسه من اللباقة التي تصل حدَّ الدَّهاء.
في خواتيم حياتيهما، يصرِّح نجم: "شنَّ الأبنودي حملة شعواء ضدي والشيخ إمام، وقلَّل من قيمة ما أكتب في الوقت الذي كنت فيه معتقلًا". فيما يكون رأي الأبنودي: "فؤاد نجم بدأ حياته بالهجوم عليَّ، وكل ما أقوله أنني أرجو أن يبقى منه ما سيبقى مني بعد رحيلي".
لا أحد في الوسط الأدبي العربي عمومًا يجهل اندلاع لسان الشاعر الفاجومي، وقد كان الأشرس في صبّ اللعنات على الأبنودي من بين سائر خصومه، ليصرح في إحدى نوبات سخريته في أحد البرامج وقد سألته الإعلامية عن الأبنودي، قائلًا: "هو فيه شاعر عامية مليونير؟!"، تسأله الإعلامية عن علاقة الأبنودي بأسرة الرئيس الراحل مبارك، ثم مباركة الشاعر للثورة المصرية، فيتهمه الفاجومي بأنه عاش بوجهين، أو على حد تعبيره "طالع بدورين"، وأنه غير مخلص لا لمبارك وأبنائه، ولا للثوار وثورتهم.. إذن لمن كان الأبنودي مخلصًا؟!
يبدو أن الأبنودي كان مهجوسًا بالشعر أو قُلْ ملعونًا به، فعلى حدِّ شِعْرِه:
"وقدّ ما استفحلت في دمِّنا الطعْنَةْ
عِرِفنا إنّ الشعر مش مهنةْ
وقدّ ما بيستوجِب التقديس
بيوجِب اللعنة!".
من واقع كلام الفاجومي نفسه نستشف ازدراء الأبنودي لكتابة فؤاد نجم، والذي مع تقدير الجميع لتجربته الإنسانية الفريدة، فإن بينه وبين الأبنودي - كشاعرين - أشواطًا من الموهبة والمنجز دُونَ قطْعِها خرطُ القتاد، ولعل إدراك نجم نفسه لهذا هو ما أجَّج العداوة المُبَطَّنة بينهما، والتي تخلَّقت لها تبريرات هي للعبث أقرب منها للصحة والموثوقية.
لم يكن الأبنودي على عداوة مع السلطة. نعم، هذا صحيح وحاسم. لكنه - بالقدر نفسه من الصِّحة والحسم - لم يكن لسانها الشعري، فهو نفسه من رفض عرض توثيق مشروع توشكى شعريًا على غِرار رصْدِه لملحمة "السد العالي" في ديوانه الخالد "جوابات حراجي القط"، وهو نفسه كاتب قصيدة "عبد العاطي صائد الدبابات" في ظل سطوة نظام مبارك. ومع هذا، لم يجاهر سُلطة مبارك بعداء، ولم يضع تجربته الشعرية قربانًا على مذبح السُّلطة.
تعرف تقول "جود نَايِتْ"؟!
من الواضح أن كل الحملات التي شُنَّت على عبد الرحمن الأبنودي كانت ترفع راية علاقته بالسُّلطَة، مع أن الأبنودي لم يمدح زعيمًا سوى جمال عبد الناصر - الذي اعتقله ضمن آخرين - ولكن بعد رحيله، ما يضع قصائده له تحت بند الرثاء، وإن شئت قُل: الحنين الجارف أو هجاء الزمن!
كتب الأبنودي ثلاثة أوبريتات للشرطة المصرية، وهي الملاحظة التي بنى عليها المشنِّعون دعوى علاقته النفعية بسُلطة نظام مبارك، غير أنه يدافع عن موقفه في حواراته مع الصحفي محمد القدوسي المجموعة في كتاب "عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الناس"، والمنشور 2006، في ظل حكم الرئيس مبارك، يقول عبد الرحمن: "أما عن أوبريتات الشرطة، فأنا فخور بأنه أتيح لي تقديم تاريخ مصر على مدى ثلاث سنوات كتبت فيها "حراس الوطن" عن معركة الإسماعيلية (...) ثم قدمت حرب 1956 والمقاومة الشعبية في بورسعيد، وقدمت الأبطال الحقيقيين على المسرح، ثم أبطال السويس في معركة الدبابات (...) وهي أعمال لم يكن لها أن تُقدَّم عبر الإعلام لأنها لم تحدث في عهد الرئيس الحالي - يقصد مبارك - وأعتقد أن من يرى في هذه الأعمال تهمة مصاب بنوع من العمى السياسي والوطني!".
إذن، نحن بصدد رجل يهاجم تنكُّر الإعلام لأي ملحمة وطنية لم تحدث في عهد رئيس الدولة الحالي، رجل يرفض طلب سيادي بتوثيق مشروع توشكى لأنه لم يختمر في وجدان المصريين شعوريًا مثلما فعل مشروع السد العالي، فما المطلوب من الشاعر؟!
لم يكن عبد الرحمن صداميًا - على المستوى الشخصي والموقف النضالي - مع السلطة. لكنه لم يكن يقدم خاطر أي سلطة على قناعاته الشعرية، وتجلَّت معارضته في تقديم نصوص عارمة الشعرية جلية الموقف تضرب في قلب مشروعات السلطة، وكانت أشد لحظات التحدي بينه وبين السلطات، عند انفجاره ضد سياسة الرئيس أنور السادات، حين كتب "سوق العصر"، وغيرها من القصائد التي تهاجم خطوات السادات السياسية والاقتصادية:
"من إمتى شُفنا الرأسمال يتفسَّح؟
من إمتى شُفنا الرأسمال إنساني؟
جاي يطمس الأسماء ويمحي الملْمَح
ويحطِّنا في السلسلة من تاني
(...)
هذا زمان الأونطة
والفهلوة والشنطة..
تعرف تقول "جود نايت"؟
وتفتح السامسونايت؟
وتبتسم بالدولار؟!".
متنبي القرن العشرين
من مدخل فنيٍّ يحاول بعض النقاد مهاجمة منجز الأبنودي لارتباطه – المنجز الشعري - بالسياسة والشأن العام. غير أنه في حوار أجراه معه محمد القدوسي، منشور في جريدة "القبس" الكويتية عام 2004، يرى أن الاتهام بالمباشرة أو الحديث السياسي: "لا يمنعَ الشاعرَ الحقيقيَّ من أن يمد يده في أحداث الأمة، ليخرج علينا بجوهر الشعر". وجوهر الشعر هذا الذي يتكلم عنه عبد الرحمن يوضِّحه في حوار أقدم مع "البيان" الكويتية أيضًا يسبق حوار "القبس" بنحو ثلاثين عامًا، حيث يقول: "ليست (للشعر) وظيفة سياسية، فالشعر يتعامل مع الحسّ ومهمّته إعادة بناء وجدان الناس بطرح قِيَم الشاعر المُتقدّمة وإحلالها محل كل القِيَم المُتخلّفة عند الإنسان".
مجمل رؤية عبد الرحمن أن الشاعر شاء أم أبى سيحتَكّ بالسُلطَة السياسية، والسياسة في مجملها، وعليه أن يحدد المساحات التي يتحرك فيها قبل أن تفرضها عليه السُّلطَة، فأي شاعر يريد أن يعزل نفسه عن الشأن العام، ليس له بعد ذلك أن يبحث لشِعره عن صدى في وجدان الجماهير أو يفتِّش عن تأثير كلمته ونفاذيتها لديهم، متهمًا الشعراء الآن بأنهم: "مشغولون بالحديث عن العيون التي تأكل الطحالب، والبحر الذي يعتلي الأرض!".
وهذا يردنا لمفتتح حديثنا عن الشاعر "ابن بيئته"، فلطالما كان الشعر العربي شأنًا عامًا، وكل أغراضه تستلزم وجود آخر مغاير للشاعر، سواء كان ممدوحًا أم مَهْجوًّا أم مرثيًّا، وطنًا أم حبيبة، قبيلة أم دابَّة. وهذا الآخر المغاير له ثقله الذاتي وفاعليته في حركة الحياة اللذان يُكسبان النص قيمةً مضافةً، والشاعر في كل هذا ناسكٌ يتعبّد في محراب القصيدة، مخلصًا للشعر وحده، لا للممدوح ولا للحبيبة ولا المرثيّ.
هذه، في ظني، هي الفلسفة العربية الخالصة في النظر للشعر، والتي ينحدر منها عبد الرحمن الأبنودي، والتي كرَّس لها شاعر رمز مثل أبي الطيب المتنبي الذي مدح ملوكًا، ورأى نفسه، بشِعره وحده، نِدًّا لهم، وعوتِبَ في مدح ملوك آخرين، فقال قولته الشهيرة: "لم أمدحه، وإنما هجوتُ بمدحِه الزمان!"، فهو يرى ذاته نِدًّا للزمان نفسه، يختصمان على رقعة الشِّعر، كنِدَّين في الحرية والجسارة.
فما الذي يجمع بين المتنبي وعبد الرحمن الأبنودي؟!
أولًا: التركيبة النفسية العربية وأبرز ملامحها الاعتداد بالذات، وثانيًا: رؤية كليهما للشعر كبِناء ومضامين، وثالثًا: اتهامهما بالاقتراب من السُّلطَة.
إبّان أزمته الصحية الخطيرة عام 2008، كتب عبد الرحمن الأبنودي قصيدته "الرحلة"، وهي من أقل قصائده شهرةً، ومن أعلاها جودةً، جاءت القصيدة العامية موزونة على بحر البسيط، تستلهم علاقة الشاعر بالخليفة، الكتابة بالسُلطة، وتقلّبات الشاعر بين موقعيْ النديم والغريم.
"قاصد مقام الخليفة.. بالطمع في العِزّ
ماعرفش كاتْب القصيدة.. ولّا كاتباني!
وفي الديوان حارتجلْها.. تهزِّني.. فأهِزّ
راصص بيوت.. كل بيت مسنود على التاني
الشعر كِذْب الحياة.. واشمعنى أنا اللي حاشِذّ؟
باعيد صياغة حياتي.. ولّا صايغاني؟!".
يُعيد الأبنودي النظر في علاقته بالسلطة ورؤيته للشعر وتقييمه للتجربة البشرية، ويتلفت ليجد نفسه في موقع الحسد من الأقران نفسه الذي حلَّ فيه المتنبي قبل ألف عام:
"وحوْلي شُعرا كتار.. صادق وبرّاني
وأنا المحاصَر بضيّ الحقد والقناديل
وبارتجل واوْحي إنّْ الوحي ربّاني
وأنا ناسج الفتلة جنب الفتلة بكفوفي
أمشي على الشوك واداري فى المديح خوفي".
لقد اقترب المتنبي من سيف الدولة، وللدِّقَّة فهو اقترب من المجد في شخص سيف الدولة. كذلك اقترب الأبنودي على حذر، اقترب من السلطة/الوطن متوحِّدًا مع مشروعاته الكبرى، وما لبث أن طُرِدَ عندما أغواه الصدق في القصيدة:
"كان الخليفة صديقي يسِـــرِّلي بالسِّرّ
قربني ليه ياما.. غدّاني وعشّاني
إبليس غواني بطَعْم الصدق في لساني
فَقلت: «ما عادش حاجة في الزمان ده تلِذّ»
بعد الخليفة ما شرب الدَّنّ والتاني
ومتّكي منشرِح وسط الندامى يمِزّ
غِضب الخليفة وصرخ فيا وقال: «قوم فِزّ»
واتنهدوا الكدابين واحد ورا التاني
وادينى وحداني ماشى يا إخواني
قابض على مِقْود الناقة.. حبالها تحِزّ
باجرجر الناقة.. ولّا الناقة جرّاني؟!".
ينتهي مشوار (المتنبي/الأبنودي) المشترك بعد أن أفسح الطريق لأجيال قادمة درَّبها على كيفية إدارة معاركها، وتقديم نفسها. انتهى به الحال مطرودًا من خيمة السلطان، محاطًا بتشنيع الأقران، ومتهمًا بخطيئة الشعر، وغواية الصدق. ومع هذا، كان كلاهما قد حجز مساحته الخاصة الشاسعة في مدونة الشعر العربي، واستقرّ في الوجدان وعلى اللسان العربي، وذهبت السلاطين والأنظمة ومجالس المنادمة، وبقي الشعر.