في هذه المقالة، نميط اللثام عن شبكة دولية معقدة تستغل يأس الشباب اليمني وفقرهم من أجل تجنيدهم للقتال في الحرب الروسية - الأوكرانية. هذه القصة المأساوية تمتد من أزقة المدن اليمنية المدمرة وصولًا إلى شوارع مسقط الهادئة، وانتهاءً بخنادق الموت في دونباس. وهي تعكس الواقع المر الذي يعيشه مئات الشبان اليمنيين اليوم.
إنها قصة تحول حلم الخلاص إلى كابوس، ورحلة البحث عن لقمة العيش إلى رحلة أخرى يلقون فيها حتفهم في عالم أصبحت فيه الحدود مجرد خطوط وهمية على خرائط قديمة. وهي الرحلة التي نحن على وشك الحديث عنها، رحلة تجسد الشبكة المعقدة لاستغلال العمالة.
رحلة حمود: من اليمن إلى عُمان لجبهات القتال
دعونا نبدأ بقصة حمود (اسم مستعار). شاب يمني اضطر إلى ترك أسرته، حاملًا على كتفيه هموم أم مريضة بالسكري وإخوة جائعين. غادر وطنًا مزقته الحرب الأهلية لأكثر من عقد، حرب حولت "اليمن السعيد" إلى ساحة صراع دولي وجحيم مفتوح. يقول حمود وعيناه تحملان ثقل ألف قصة حزينة: "تركت اليمن لأجد الحياة، لكنني وجدت الموت بدلًا من ذلك". هذه الجملة البسيطة تلخص مأساة جيل كامل من الشباب اليمنيين، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين نيران الحرب الأهلية وجحيم الفقر المدقع.
وصل حمود إلى مسقط، عاصمة سلطنة عُمان، على أمل أن يجد عملًا يسد به رمق عائلته. غير أن ما وجده كان أبعد ما يكون عن الأمان الذي سعى إليه. فقد وقع، مثل مئات غيره، في شباك ما أسمّيه "سوق الأحلام السوداء". فبدلًا من العثور على فرصة عمل، وجد نفسه عاطلًا عن العمل مع آخرين مثله يعملون في المقاهي والمطاعم، وغالبًا ما يقضون أيامًا طويلة بدون أي عمل.
تخيلوا معي المشهد التالي في أحد شوارع مسقط: سمسار يتسلل بين الطاولات في مقهى يعج بمئات اليمنيين العاطلين عن العمل، يهمس في آذانهم بوعود عن رواتب خيالية تصل إلى 14 ألف دولار، وأربعة آلاف دولار شهريًا، بل وحتى الجنسية الروسية بعد عام واحد! هنا يُباع الوهم بسعر الحقيقة وتتحول آمال الفقراء إلى سلعة في سوق عالمية للبؤس البشري.
لكن الحقيقة أكثر قتامة، فقد تم إقناع حمود وأكثر من 300 يمني آخرين بالتوقيع على عقود عمل مزيفة، حيث قيل لهم إنهم سيعملون في وظائف مدنية في روسيا، بعيدًا عن أي نزاع. لكن بمجرد وصولهم إلى موسكو، يجد هؤلاء الشبان أنفسهم في قبضة الجيش الروسي الذي يشرف على تسليمهم له وسط يمني يُدعى هاني الزريقي، ومن ثم تقسيمهم إلى مجموعات وتوزيعهم على معسكرات التدريب وجبهات القتال بعد مصادرة جوازات سفرهم.
التدريب، إن صحت التسمية أصلًا، كان سريعًا وقاسيًا. بضعة أيام فقط لتعلم بعض الكلمات الروسية والتدرب على السلاح، ثم يتم وضعهم في عربات مدرعة وإرسالهم إلى الخطوط الأمامية على الحدود مع أوكرانيا. إنهم، بكل المقاييس، دروع بشرية في حرب لا يفهمون أسبابها ولا يؤمنون بقضيتها. لكن الحقيقة المرة، كما يكشف أحد التقارير، تكمن في أن معظمهم لم يتلق سوى فتات، 200 دولار في أحسن الأحوال. كما تكشف الوثائق عن "برنامج التدريب المكثف" الذي يخضع له هؤلاء الشبان. تخيلوا معي معسكرًا في أعماق الغابات الروسية، حيث يتم تحويل بائعي القهوة وسائقي التاكسي إلى مقاتلين في غضون أسابيع!
وإليكم جوهر الأمر: وجد مئات العمال اليمنيين الفارين من بلد تحول إلى مكعب روبيك جيوسياسي نتيجة الفصائل المتحاربة والمصالح الأجنبية، أنفسهم عالقين في مخطط خبيث. لقد وقعوا على ما اعتقدوا أنها وظائف أمنية مريحة في روسيا، ليجدوا أنفسهم يتفادون الرصاص على الخطوط الأمامية لمغامرة بوتين في أوكرانيا. الأمر أشبه بقفزهم من مقلاة الحرب الأهلية اليمنية وركوب قطار العمالة (الأيدي العاملة الرخيصة) العالمية السريع، ليجدوا أنفسهم في نار الصراع المتجمد شرقي أوروبا!
لكن قصة حمود ليست سوى خيط في نسيج معقد من عمليات الخداع والاستغلال. فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وثائق تكشف عن شبكة معقدة تمتد جذورها من اليمن إلى عُمان وصولًا إلى أعماق الأراضي الروسية. في قلب هذه الشبكة تقف شخصيات مثل عبد الولي الجابري، برلماني في مجلس النواب التابع لسلطات الحوثيين في صنعاء، ورجل أعمال يمني يدير شركة في مسقط ويقيم فيها، وشقيقه عبد الواحد الجابري، وضابط روسي يدعى "ديمتري". هؤلاء هم المايسترو الذي يعزف سيمفونية البؤس هذه، محولين أحلام الشباب اليائس إلى أرقام في معادلة الحرب الباردة الجديدة. الأرقام مذهلة: بضع مئات من اليمنيين، أو ربما أكثر، تم استدراجهم إلى هذا الفخ القاتل. يأتون من محافظات مختلفة في اليمن، خاصةً تعز، حيث يجني السماسرة مبالغ تصل إلى 15 ألف دولار مقابل كل شاب يتم تجنيده لصالح وزارة الدفاع الروسية.
استهدف الجابري اليمنيين الأكثر بؤسًا في عُمان، أولئك الذين فقدوا أعمالهم أو لم يجدوا عملًا من الأساس. استخدموا الإغراء بالمال والعقود الزائفة، والتسريع في الحصول على التأشيرة الروسية من سفارتها بمسقط، وكل ذلك بهدف إرسالهم إلى الحرب في أوكرانيا.
من الوعود إلى الواقع المر
لنستمع إلى شهادة معتصم، أحد ضحايا هذه الشبكة: "لم أكن أعلم أن نهايتي ستكون في الخطوط الأمامية للقتال. أنا الذي تركت بلدي ورفضت الانخراط في الحرب مع أي جهة في اليمن، وجدت نفسي في قلب حرب أخرى لا ناقة لي فيها ولا جمل".
الواقع الذي واجهه معتصم وأمثاله كان صادمًا. فبدلًا من الوظائف الآمنة والرواتب الضخمة التي وُعدوا بها، وجدوا أنفسهم في معسكرات تدريب عسكرية روسية، يتقاضون فيها ألفي روبل روسي (حوالي 200 دولار) بالكاد تكفي لسد الرمق.
أحد الضحايا، دعونا نسميه أبو عبد الله، أخبرني عبر اتصال هاتفي متقطع من مكان ما بالقرب من مدينة دونيتسك: "اعتقدتُ أنني سأحرس مركزًا تجاريًا في موسكو. لكن بدلًا من ذلك، أنا أحرس حياتي في خندق. والتسوق الوحيد الذي أقوم به الآن هو تفادي قذائف المدفعية في ممر الخصومات في هذه الحرب." ويضيف: "رفضتُ في البداية، لكن تم تهديدي بالضرب والاحتجاز. الآن، أعيش وزملائي في ظروف مزرية، نكاد نموتُ جوعًا".
في مقهى متواضع في مسقط التقيتُ بعلي (اسم مستعار)، وهو أحد الناجين من هذه الشبكة. كانت عيناه المرهقتان ترويان قصة اليأس قبل أن ينطلق بكلماته. قال لي وهو يحرك فنجان قهوته المرة: "كنا نظن أننا نهرب من الموت في اليمن، فإذا بنا نركض نحوه في روسيا".
ثم بدأ يروي تفاصيل عملية النقل: "تبدأ العملية بأخذ جوازات السفر لفترة تتراوح بين شهر و40 يومًا بحجة المعاملات في السفارة الروسية بمسقط. ثم يتم نقلهم عبر دبي إلى موسكو، حيث يتم استبدال جوازات سفرهم اليمنية بوثائق روسية".
يروي أحدهم، فضّل عدم الإفصاح عن اسمه، قصة مروعة عن رحلة الموت التي اختبرها بنفسه: "تم اقتياد أكثر من 20 شابًا بقوة السلاح إلى الجبهات. نُقلوا على متن ثلاث عربات عسكرية. العربة الأولى دخلت في خط النار وتم حصارهم داخل مبنى حيث قُتلوا بدم بارد. العربة الثانية انفجرت بعد أن اصطدمت بلغم أرضي. أما العربة الثالثة فتعرضت لهجوم مفاجئ، يُعتقد أنه جرى بطائرة مسيرة أو صاروخ".
هذه ليست مجرد أرقام أو إحصائيات. هؤلاء شباب كانوا يحلمون بمستقبل أفضل لكنهم وجدوا أنفسهم وقودًا لحرب لا يفهمون أسبابها. وفي الأيام الأخيرة، ظهرت فيديوهات مؤلمة لمجموعات من الشباب اليمني يناشدون لإنقاذهم. في أحد هذه الفيديوهات، نرى خمسة شبان في خندق، مضربين عن الطعام، يصرخون بصوت واحد: "نحن لسنا مرتزقة، نحن ضحايا خداع!".
هؤلاء الشباب الذين كانوا يحلمون بوظائف آمنة في شركات أمنية، سرعان ما وجدوا أنفسهم دروعًا بشرية في خطوط المواجهة الأمامية. يقول أحدهم: "القوات الروسية تخطط لاستخدامنا كطعم للقوات الأوكرانية والاحتماء خلفنا بعتادهم الكبير". وتؤكد مصادر مطلعة أن الروس يستخدمون اليمنيين والمجندين من جنسيات أخرى كدروع بشرية في خطوط التماس، كونهم في الغالب غير جاهزين للقتال لعدم إعدادهم عسكريًا أو تسليحهم بشكل مناسب لخوض المعارك في الجبهات الأمامية.
الثغرات القانونية
أوضح خبراء في القانون الدولي وحقوق الإنسان كيف تقوم بعض الشركات باستغلال الثغرات القانونية في العديد من البلدان (خاصةً تلك التي تعاني من الحروب والأزمات) لتجنيد الشباب. إنها عملية معقدة من الخداع القانوني، حيث يتم تغليف الاستعباد الحديث بغلاف رقيق من الشرعية. كما أن العقود التي وقّع عليها هؤلاء الشباب كانت مليئة بالبنود المضللة والمبهمة، ولم يُمنحوا الوقت الكافي لقراءتها أو استشارة محامين. وحتى عندما وصلوا إلى روسيا، تم إعطاؤهم عقودًا جديدة باللغة الروسية في انتهاك صارخ لجميع الاتفاقيات السابقة.
لقد أكد الخبراء الذين تحدثنا إليهم أن العقود التي وقّع عليها الشباب كانت مليئة بالثغرات القانونية، وقد تم تسريع العملية بشكل غير معقول. وبمجرد وصولهم إلى روسيا، كان الأوان قد فات. قيل لهم إنهم سيتولون تأمين مناطق يسيطر عليها الجيش الروسي، لكنهم وجدوا أنفسهم في قلب المعركة. الزريقي - الوسيط اليمني في روسيا - هددهم بالسكوت وإلا سيواجهون عواقب وخيمة، وقال لهم إن الحل الوحيد بيد الحكومة الروسية فقط.
في خضم هذه المأساة
هذه القصة ليست مجرد مأساة إنسانية فردية، بل انعكاس لمشكلة عالمية أكبر لا تخص اليمن فقط. إنها جزء من نظام عالمي يستغل حياة البشر كسلع رخيصة. من اليمن إلى السودان والهند، يستمر استغلال العمال الفقراء في ظروف بالغة البؤس من الناحية الإنسانية. باختصار، إنهم وقود بشري يتم استخدامه ورميه جانبًا عند الانتهاء مما يراد منه. فليس اليمنيين هم فقط من تضرروا من هذه التجارة، بل هناك أيضًا هنود وأفارقة أيضًا.
إنها مثال حي عن كيفية استغلال الفقر والحروب في عالم معولم، حيث أصبحت معاناة الإنسان سلعة يمكن المتاجرة بها عبر الحدود. ورغم أن السفارة اليمنية في موسكو قد رفعت مذكرات إلى السلطات الروسية، إلا أن الردود كانت بطيئة. في غضون ذلك، يواصل السماسرة مثل الجابري الهروب من المساءلة، مع إغلاق هواتفهم وتواريهم عن الأنظار. أما العالقون هناك، فيناشدون من أجل العودة إلى اليمن. لكن في عالم تحكمه مصالح الكبار، هل ستجد أصوات هؤلاء الضعفاء آذانًا صاغية؟
في عالمنا "المسطح" هذا، تتحول أحلام الفقراء إلى سلعة يتاجر بها أباطرة الحرب الجدد الذين يمتلكون من الضمير ما يمتلكه القرش من الرحمة، ويحولون يأس الشباب اليمني إلى أرباح طائلة، ودمائهم إلى وقود لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومع أن الحرب في اليمن أنعشت العديد من شركات النصب والاحتيال التي نهبت أموال أبناء الطبقة الوسطى والغنية أحيانًا، لكن أن يصل الأمر إلى حد المتاجرة بالأرواح فهذا يستدعي دق ناقوس الخطر.
في "تجارة الأرواح البشرية"، يتم تحويل اليأس إلى سلعة، والأحلام إلى أسهم يتم تداولها في بورصة الحروب العالمية. في هذه البورصة، يمكن لشاب يمني كان يحلم ببيع القهوة في شوارع صنعاء أن يجد نفسه فجأة يبيع حياته في متاجر الموت في دونباس.
في خضم هذه المأساة، نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: في عصر أصبح فيه العالم "قرية صغيرة"، كما يحلو للبعض أن يقول، كيف يمكن أن تظل معاناة هؤلاء الشباب بعيدة عنا؟ وأن نعتبر مأساتهم هذه مشكلة شخص آخر؟
الحل؟ إنه ليس بالبساطة التي نتمناها، لكنه يبدأ بإدراك حقيقة بسيطة: في عصر العولمة، لا توجد صحراء بعيدة، ولا جبهة قتال منعزلة. نحن بحاجة إلى ميثاق عالمي لحقوق العمال يكون أقوى من صواريخ كروز، وأكثر نفاذًا من شبكات التواصل الاجتماعي. نحتاج إلى نظام مساءلة للشركات يتجاوز الحدود بسهولة تفوق تحويلات Western Union.
نحتاج إلى تعاون دولي حقيقي لمكافحة الاتجار بالبشر، ومنظمات مثل الأمم المتحدة والعفو الدولية ومجلس حقوق الإنسان للتحرك بسرعة وفعالية لإنقاذ هؤلاء الشباب وإعادتهم إلى ديارهم. لكن أكثر من ذلك، نحتاج إلى إعادة النظر في النظام العالمي الذي يسمح بمثل هذه المآسي، واقتصاد عالمي لا يترك الملايين في فقر مدقع، مما يجعلهم فريسة سهلة لمثل هذا الاستغلال. كما نحتاج إلى نظام سياسي دولي يعالج جذور الصراعات بدلًا من تأجيجها.
وبينما كنت أشاهد علي يختفي في زحام شوارع مسقط، تساءلت: هل لهذه الظاهرة القديمة قدم الصراع نفسه أن تزول؟ رغم أنها مشحونة بالعولمة والإنترنت. في العالم المسطح، يمكن لباريستا عاطل عن العمل في صنعاء أن يصبح طعمًا للمدافع في سيفاستوبول أسرع من تحضيريه "كوب من القهوة بالحليب مع مكونات إضافية". الحل؟ مجددًا؟ إنه ليس بسيطًا لكنه يبدأ بالاعتراف بأنه في عالمنا المترابط، مشاكل اليمن لا تبقى في اليمن، وحروب روسيا لا تبقى في روسيا، واستغلال اليائسين هو مشكلة الجميع.
الوقت ينفد، والرمال تتحرك من تحت أقدامنا. سواء كنا في صنعاء أو سيبيريا أو دارفور، نحن جميعًا نسير في المستنقع نفسه. والسؤال الآن: هل سنصل معًا إلى واحة العدالة، أم سندفن أنفسنا في رمال اللامبالاة؟ إذا لم نفعل شيئًا، سيظل هناك حمود آخر، ومعتصم آخر؛ مجموعة جديدة من الرجال عالقين في حرب لا دخل لهم بها، يتساءلون: كيف تحولت رحلتنا من البحث عن الحياة إلى مواجهة الموت؟