كان العنف منذ بدايات السينما جزءًا أساسيًا من قصصها وأحداثها، إذ يُعتبر واحدًا من أقوى الوسائط الفنية التي تُستخدم للتعبير عن المشاعر والأحداث والتوترات الدرامية، سواء الآن مع تطور تقنيات وأساليب التصوير التي أتاحت تجسيد العنف بشكل أكثر واقعية، أو عندما كان يقتصر على المطاردات البسيطة والقتال بالأيدي أوائل القرن العشرين.
بدأ عصر السينما، كفنٍ جديد، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومع مرور الوقت بدأت تتنوع المواضيع التي تتناولها الأفلام، ومن بينها العنف الذي ظهر في بداياته بشكل بسيط وطفيف لصعوبة تصوير مشاهد عنيفة ذات مصداقية عالية، إذ كانت الأفلام قصيرة جدًا، وغالبًا ما كانت تعتمد على المؤثرات البصرية والحيل السينمائية.
ولم يكن العنف في هذه الفترة واضحًا أو مباشرًا، ولكنه كان يظهر في مواقف كوميدية أو مشاهد مطاردات بسيطة. فعلى سبيل المثال، تجلى العنف في أفلام تشارلي تشابلن في الضرب والركل، ولكنه كان يُقدَّم بطريقة كوميدية بوصفه عاملًا للتشويق وجذب المشاهد.
وحين أصبح من السهل تصوير مشاهد تحتوي على مستويات أعلى من العنف نتيجة تطور التقنيات السينمائية، ورغم أن السينما لم تكن قد وصلت بعد إلى مستوى الواقعية التي نعرفها اليوم، إلا أن الأفلام بدأت تتضمن مشاهد القتال بالأيدي والمواجهات بالأسلحة البيضاء.
وشهد تصوير العنف بعد الحرب العالمية الثانية نقلة نوعية، حيث بدأت السينما حينها بمحاولة عكس الواقع الذي عاشه العالم عبر أفلام حربية تُظهر المعارك والتضحيات ومشاهد القتل التي بدأت تظهر بشكل أكثر وضوحًا، ولكن دائمًا ما كانت هذه المشاهد تُقدّم بطريقة فنية وليست واقعية تمامًا، بيد أن هذا التوجه دعم عجلة التصنيع السينمائي لتطوير تقنيات بإمكانها نقل المعارك والحروب بشكل واقعي للمشاهد.
وقد كانت الردود على العنف في السينما متباينة. فبينما اعتبر البعض أن هذا النوع من المشاهد يُضفي الواقعية على الأفلام ويساهم في نقل رسالتها بشكل أفضل، رأى البعض الآخر أنه يُسهم في نشر العنف في المجتمع.
وشهد هذا الطرح تطورًا لافتًا مع مرور السنين. فعندما ننظر إلى فترة الخمسينيات والستينيات في السينما، نجد أن العنف كان مستقرًا ولكنه بدأ يظهر بشكل أكثر وضوحًا وجرأة، مما يعكس التغيرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها العالم خلال تلك الفترة.
وكانت مشاهد المواجهات بالأسلحة النارية والمطاردات الحادة عنصرًا مؤثرًا في أفلام الغرب الأميركي. ومع أن العنف لم يكن وحشيًا كما في الأفلام الحديثة، إلا أنه كان واضحًا وملموسًا. وقد جرى تقديم العنف في أفلام مثل "High Noon" و"Shane"، وفق رؤية جديدة لا تخلو من النزاع الأخلاقي.
وفي هذه الفترة، بدأت أفلام الجريمة تظهر بقوة معتمدة على مشاهد العنف كوسيلة لتقديم القصة، حيث قدّمت أفلام مثل "Bonnie and Clyde" و"The Wild Bunch" مشاهد مذهلة من العنف كانت في ذلك الوقت تعتبر جديدة وثورية. ومع بداية الستينيات، بدأت الأفلام تقدم نظرة نقدية للعنف وأسبابه، فقد تناولت أفلام مثل "A Clockwork Orange" العنف كنتيجة للظروف الاجتماعية والثقافية، وكيف يمكن استخدامه كوسيلة للتحكم والسيطرة.
ورغم أن العديد من النقاد والجماهير كانوا قد استقبلوا هذه الأفلام بحذر بسبب مشاهدها المليئة بالعنف، إلا أن الكثيرين قدّروا القيمة الفنية والرسائل السياسية والاجتماعية التي تقدمها.
وسنحت الفرصة هنا، نتيجة تراكم الخبرات والمفاهيم أمام المخرجين في السبعينات والثمانينات، لاستكشاف تأثير العنف على النفس البشرية، إذ أصبحنا نشاهد قصصًا تسبر أغوار الإنسان، وتُظهر كيف يمكن للعنف أن يُحطّم الروح ويُحوّل الإنسان إلى وحش.
ولم تكن الفلسفة بعيدة عن السينما بل كانت تحاكيها بأدواتها التي توفر لنا إطارًا لفهم الواقع، فالشخصيات في الأفلام ليست مجرد أدوار تمثيلية، بل هي مظاهر حية للمفاهيم الفلسفية، مثل نظرية حنة آرنت حول العنف وكيفية استخدامه لتحقيق السلطة، ونظرية روسو حول الإنسان الطبيعي وتحوله تحت ضغوط المجتمع، إذ كانت السينما تعرض هذه الموضوعات بحذر، ولكن مع تطور الوعي الاجتماعي، أصبحت أكثر جرأة في التعامل معها.
العنف وسيلة بقاء
في هذا المناخ، لم يكن من السهل طرح أفلام برؤية جديدة تمامًا مثل "رامبو" و"بروس لي". وهنا يجدر بنا التعمق في طرح مفهوم العنف في أفلام الاكشن. وعند الحديث عن هذا النوع من الأفلام، يبرز اسم "رامبو" كأحد أشهر الشخصيات في هذا المجال. وتجسد شخصية "رامبو"، التي قام بلعب دورها الممثل العالمي سيلفستر ستالون، الجندي الأميركي الذي عاش تجارب قتالية قاسية، وواجه العديد من التحديات بعد عودته من الحرب.
والعنف في أفلام "رامبو" ليس مجرد وسيلة ترفيهية، وإنما يحمل رسائل معمقة حول تأثير الحروب على النفس البشرية، والصراعات الداخلية التي يعيشها الجنود بعد العودة من الخدمة. ففي "رامبو: الدم الأول"، نرى كيف تتم معاملة رامبو بعد عودته من الحرب، وكيفية تحول العنف في نفسه إلى وسيلة للتعبير عن الألم والوحدة. أما الأفلام التالية، فيُظهر رامبو فيها استخدام العنف كوسيلة للبقاء في مواجهة الظروف القاسية التي يجد نفسه فيها، سواء كان ذلك في أدغال فيتنام أو في المدن الأميركية.
ورغم أنه لا يمكن إنكار أن أفلام "رامبو" حققت نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر، لكن لا يمكن أيضًا تجاهل حقيقة أنها أثارت الجدل حول ترويجها لثقافة العنف. فعلى الرغم من أن العديد من المشاهدين اعتبروا الفيلم مجرد وسيلة ترفيهية، إلا أن البعض الآخر اعتبر أن الفيلم يشجع على استخدام العنف كوسيلة لحل المشكلات.
رغم ذلك، أصبحت سلسلة أفلام "رامبو" جزءًا من الثقافة الشعبية الغربية، وساهمت في تكوين صورة "الجندي الأميركي البطل" والمقاتل الأقوى، وكذا في تشكيل فهم المجتمع لتأثير الحروب على الجنود والتحديات التي يواجهونها عند العودة إلى حياتهم الطبيعية.
وتعتبر أفلام "رامبو" نموذجًا مميزًا للتناقضات التي يمكن أن تحملها أفلام العنف، إذ إنها تجمع بين الحركة المثيرة والرسائل العميقة، وتطرح أسئلة حول الدور الذي يلعبه العنف في المجتمع، وكيف يمكن استخدامه، أو سوء استخدامه، في الأفلام والثقافة بشكل عام.
لكن العنف مهد الطريق أيضًا لنوع آخر من الثقافات واللغات للانتشار، كما هو الحال مع "بروس لي" الذي قدِمَ إلى السينما من بوابة الرياضات القتالية، وغيّر عبر ما قدّمه من أفلام نظرتنا لأفلام الأكشن، بحيث لم تعد مجرد مشاهد قتالية، وإنما رسائل مجتمعية وثقافية، وقصص يتحد فيها الخيال والقتال وتخاطب عقلية الشباب في تلك المرحلة التاريخية.
وحين نتحدث عن فنون القتال في السينما، لا يمكننا أن نتجاهل الأثر الكبير الذي خلّفه "بروس لي". بينما قد يرى البعض أن أفلامه كانت مجرد عروض للحركات البدنية المذهلة، فإن النظرة الأعمق تكشف عن فهم غني للعنف ودوره في الحياة الإنسانية.
لم يكن "بروس لي" مجرد مقاتل في السينما وإنما فيلسوفًا للحركة، حيث استكشف من خلال أفلامه العنف ليس كوسيلة للقوة فقط، ولكن كوسيلة للتعبير عن الذات، إذ كان يرى القتال كوسيلة للبحث عن الحقيقة الداخلية وتحقيق التوازن. كما أنه استخدم "بروس لي" القتال كوسيلة للتواصل، ولم يكن العنف في أفلامه مجرد وسيلة للترفيه، بل كان ينطوي على رسائل تتعلق بالكرامة، ومواجهة الظلم، والدفاع عن النفس، إذ كان يتبنى نهجًا مختلفًا تجاه العنف في السينما.
وبينما كانت أفلامه تحقق نجاحًا كبيرًا، فإنها كانت تثير أيضًا الكثير الجدل حول الرسائل التي تحملها، حيث اعتبر البعض أنها، كما هو الحال مع "رامبو"، تشجع على العنف؛ بينما رأى آخرون أنها تعرض العنف كوسيلة للتحرر والتمرد ضد الظلم.
أسهم "بروس لي" في تغيير نظرة العالم للفنون القتالية الآسيوية، ذلك أنه لم يكن يقدم العنف فقط، بل أظهر الحكمة والفلسفة وراء كل حركة، ليصبح بذلك نموذجًا يحتذى به للعديد من الفنانين والممثلين الذين جاءوا بعده.
ومع تطور السينما كمفهوم، بدأت الفلسفات تصبح أساسًا لطرح أفلام العنف في إطار خارج عن الإطار التجاري. فالعنف في السينما له جذور فلسفية عميقة، والعديد من النظريات الفلسفية قد استُخدمت أو تم تفسيرها من خلال تصوير العنف في الأفلام. فنظرية الحق في الحياة والموت التي تشير إلى حق الإنسان في اتخاذ قرار الحياة والموت، تتجسد في الأفلام التي تتناول الثأر والانتقام. والعديد من الأفلام الكلاسيكية تركز على فكرة الانتقام كحق مشروع، مثل فيلم "العرّاب".
وإذا ما تطرقنا إلى النظرية الوجودية التي تتناول في بحثها شخصية الفرد وحريته وخياراته في مواجهة الواقع المحيط به، فإنه لا بد من التوقف عند أفلام مثل "A Clockwork Orange" الذي بيّن كيف يمكن للفرد أن ينزلق إلى ممارسة العنف بسبب الظروف المحيطة به، ويندرج تحت هذه النظرية الكثير من أفلام الأبطال، من بينها "زورو" على سبيل المثال.
وهناك أيضًا النظرية الواقعية التي تركز على تصوير الحياة كما هي دون تزيين. وفي هذه النظرية، يتم تصوير العنف كجزء من الواقع الذي يواجهه البشر، حيث يظهر الأخير في أفلام مثل "مدينة الله" كجزءٍ لا يتجزأ من حياة الشخصيات وقدرها المحتوم الذي حُدِّد مسبقًا.
أما نظرية الفوضى، فتَعتبر الحياة كأحداث متشابكة وغير متوقعة، حيث يمكن للعنف أن يكون نتيجة لظروف مفاجئة، كفيلم "بولب فيكشن" حيث تظهر أحداث العنف بشكل فجائي وغير متوقع.
هنا يجب أن نتذكر فيلم تارانتينو الأول "مستودع الكلاب" كنموذج فريد للعنف المفرط. ففي هذا الفيلم، وفي أعمال كوينتين تارانتينو بشكل عام، يُظهر المخرج فهمًا عميقًا للعنف ويستخدمه كأداة سينمائية قوية للتعبير عن مواضيع متنوعة. ويمكن تلخيص فلسفة تارانتينو حول العنف في هذا الفيلم على النحو التالي:
التصوير الواقعي: تارانتينو يظهر العنف بشكل واقعي ودموي يُشعر المشاهد بالغضب والتأثر. وهذه الواقعية تساعد في تحقيق تأثير قوي يجبر المشاهدين على التفكير في العواقب والأخلاقيات المحيطة بالعنف.
استخدام العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف: يتم استخدام العنف في الفيلم كجزء من العملية الإجرامية، وهذا يُظهر كيف يمكن أن يكون العنف وسيلة لتحقيق أهداف معينة.
تأثيرات العنف على الشخصيات: تارانتينو يبحث في تأثيرات العنف على الشخصيات وكيف يمكن أن يؤثر على حياتهم وعلاقاتهم.
العنف كجزء من الثقافة الشعبية: يربط تارانتينو العنف بثقافة السينما والتلفزيون، وكيف يمكن أن يصبح الأخير جزءًا من تجاربنا اليومية.
بشكل عام، تظهر فلسفة تارانتينو حول العنف في أعماله كتحليل للعلاقة بين العنف والإنسانية، وكيف يمكن استخدامه كوسيلة للتعبير عن الشخصيات والقضايا المجتمعية بشكل معقد.
يعكس العنف في السينما إذًا، كموضوع جذاب ومثير للجدل، الواقع المعقد الذي نعيش فيه وتفاعلنا مع الجوانب المظلمة للنفس البشرية. ومن خلال فلسفته، يمكننا استيعاب الأسباب التي تدفع الإنسان للتصوير ومشاهدة وتأويل هذا النوع من السينما.
ويكشف التاريخ المتعدد الأبعاد للعنف في الأفلام عن تطور تصويره ووظائفه الفنية والاجتماعية عبر العصور. ولكن الأهم من ذلك كله هو الفنانون والمبدعون الذين استطاعوا أن يمزجوا بين الفن والرسالة وبين التكنيك والمحتوى لخلق أعمال سينمائية تتحدث إلينا وتؤثر فينا بطرق مختلفة.
إن السينما، كوسيلة فنية وتعبيرية، تقدم فرصة فريدة للتأمل في العنف وتأثيره على النفس البشرية، ذلك أن العنف في السينما ليس مجرد وسيلة للترفيه أو تقديم الحركة فحسب، بل هو آلية فعالة للتفكير في القضايا الإنسانية الأعمق والمعقدة التي تواجه مجتمعاتنا.