بين فترة وأخرى، يحتدم النقاش في المغرب حول الأسرة والحريات الفردية والمساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات، وغيرها من الملفات الساخنة التي تهيمن على النقاش العمومي، وتدور بين تيارات إسلامية محافظة وأخرى تقدمية حداثية.
ولقوانين الأسرة في المغرب نصيبها من هذا السجال، إذ ينتظر الشارع المغربي مآلات قوانين ملف الأسرة ومستجداته في ظل التحولات الملائمة لمستجدات حقوق الإنسان: العنف ضد النساء، المساواة بين الجنسين، نقاشات الميراث في الإسلام، وغيرها.
ولا تقتصر السجالات التي يعيشها الشارع المغربي على نقاشات الأسرة والحريات فقط، وذلك مردُّه إلى الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين سياسيين، وفاعلين حقوقيين، وحركات نسائية، وتيارات إسلامية وإصلاحية وأخرى محافظة. ويترجم هذا التنوع والزخم الأيديولوجي الذي يعيشه الشارع في كل القضايا، سياسيًا، اجتماعيًا، فكريًا.. إلخ.
مسار متعثر وصراع قديم يتجدد
خلال آذار/مارس من العام الفائت، انطلقت في المغرب نقاشات حول مدونة الأسرة تبعتها مشاورات هدفها إحداث تعديلات وإخراج قانون جديد للأسرة يتماشى مع مستجدات الساحة الحقوقية، ومع مستجدات الأسرة في المغرب.
بدأ مسار قانون الأسرة المغربي في 19 آب/أغسطس عام 1957، بعد استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، إذ تجلت في حينها الحاجة المُلحة إلى قانون منظم للأسرة. ولم يكن المغرب قبل ذلك يعرف إطارًا تشريعيًا خاصًا ينظم مجال وقانون الأسرة، حيث كانت تنظُّم علاقاتها عرفيًا، أي وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ومذهب الإمام مالك، واجتهادات الفقهاء المغاربة.
أنشأ المغرب أول لجنة للأسرة في 19 آب/أغسطس 1957 لدراسة قانون الأسرة، فيما صدرت مدونة الأحوال الشخصية، وهو قانون ينظم الأسرة وقضاياها بموجب 5 ظهائر (والظهير هو مرسوم يُصدره ملك المغرب بصفته أعلى سلطة في البلاد)، أولها في تشرين الثاني/نوفمبر 1957 وآخرها في نيسان/أبريل 1958.
وبعد صدور قانون الأسرة الذي سُمي بمدونة الأحوال الشخصية، شهدت سنة 1961 مقترحًا للتعديل على المدونة، التي شهدت في 1965 محاولات جديدة للتعديل لم يُوفَّق فيها المغرب.
وبعد أربع سنوات على صدور مدونة الأحوال الشخصية، في سنة 1965، تقدمت لجنة مكونة في مجملها من رؤساء المحاكم بمشروع للتعديل، ثم توالت مقترحات ومشاريع التعديلات، ومعها المبادرات الرسمية وغير الرسمية، لتجويد نصوص المدونة.
وفي سنة 1974، شكلت وزارة العدل المغربية لجنة وزارية، ثم تشكّلت سنة 1981 لجنة ملكية كُلفت بإحداث مدونة جديدة. وخلال هذه المرحلة، شهدت النقاشات حول الأسرة أخذًا وردًا. بل إن الأخذ والرد كان حاضرًا منذ البداية بسبب غياب الإجماع حول قضايا فقهية تضمنتها المدونة، وهو ما رفضته الحركة النسائية والتيارات الحداثية حينها.
وفي 20 آب/أغسطس 1992، ألقى الملك المغربي الراحل الحسن الثاني خطابًا أصبح بموجبه قانون الأسرة المغربي من اختصاصه. وفي تاريخ 10 أيلول/سبتمبر 1993، أصدر المغرب مدونة جديدة.
ولم تلق هذه المدونة استحسان الحركة النسائية والحقوقية التقدمية، التي لم تجد فيها ما تأمله، وعبّرت عن عدم رضاها وعن آمالها في مدونة أخرى قادرة على ضمان حقوق المرأة المغربية، ومؤسَّسة على المساواة بين الجنسين وفق كونية حقوق الإنسان إلى جانب المرجعية الإسلامية.
ملك جديد ومرحلة جديدة
خلال فترة حكمه، قرر الملك محمد السادس إعادة النظر بشكل جذري في مدونة الأسرة، فقد شهد المغرب خلال هذه الفترة نقاشًا وطنيًا بمشاركة بعض الفرقاء، حيث فتح المغرب سنة 1998 نقاشات طويلة حول الأسرة بدعم من البنك الدولي من أجل تحديد المجالات ذات الأولوية فيما يتعلق بوضع المرأة المغربية وحقوقها ومكانتها في المجتمع.
وفي 27 نيسان/أبريل 2001، أعلن ملك المغرب محمد السادس عن تشكيل "اللجنة الملكية الاستشارية" المكلفة بتعديل بنود قانون الأسرة المغربية. وبعدها بثلاث سنوات، في 10 تشرين الأول/أكتوبر2003 تحديدًا، ألقى الملك خطابًا اعتبره المغاربة أرضية من أجل تطبيق مدونة الأسرة المغربية.
استعدت وزارة العدل المغربية خلال هذه الفترة للعمل على المدونة الجديدة، حيث عمدت إلى إعداد مقرات عمل أقسام قضاء الأسرة، فضلًا عن فتح تكوينات للقضاة والمتخصصين حول القضاء الأسري.
وعمد المغرب على إحداث خلية خاصة بقضاء الأسرة تعمل على مواكبة وتتبع وضعية أقسام قضاء الأسرة، فضلًا عن معالجة الشكايات الواردة على وزارة العدل حول قضايا الأسرة، إضافةً إلى إبداء النظر في الاستشارات القانونية التي ترد على الوزارة من مختلف الجهات.
وحملت المدونة مستجدات لم تكن في سابقتها، حيث تم تغيير الاسم من "مدونة الأحوال الشخصية" إلى "مدونة الأسرة"، وذلك إلى جانب التعريف بالفئات التي تخضع لمدونة الأسرة، إذ لم يكن لهذا التعريف وجود في النصوص السابقة.
سعت المدونة إلى تغيير تعريف الزواج وتعريفه بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج، إلى ميثاق غايته الإحصان وإنشاء أسرة مستقرة تحت رعاية الزوجين، إلى جانب توحيد سن الزواج في 18 سنة سواء للذكور أو الإناث، مع إمكانية النزول عن هذا السن بناءً على إذن خاص صادر من قاضي الأسرة المكلف بالزواج.
حسمت المدونة موضوع الولاية في الزواج بجعلها حقًا للمرأة الرشيدة تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها. كما نصت المدونة على حقوق أساسية للأطفال على أبويهم، وذلك سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية بين الوالدين، أو حتى حين وفاة أحدهما أو كلاهما، وكذا في حالة انتهاء العلاقة بينهما لأي سبب كان، مع التنصيص على ضرورة توفير رعاية خاصة للأطفال في وضعية الإعاقة.
حاول المغرب خلال هذه الفترة الرهان على مدونة تتماشى مع دستور المغرب حينها الذي جعل الرجل والمرأة سواسية أمام القانون، فضلًا عن احتكام المدونة لعدد من الاتفاقيات الدولية التي تكرس المساواة وتحرم العنف والتمييز ضد النساء.
رغم ذلك، يفرض السجال ذاته مرة أخرى طيلة هذا المسار، حيث تعتبر الحركة النسائية أن المدونة لا تزال بحاجة إلى تعديلات كثيرة، كما أنها بحاجة إلى مزيد من التجويد الذي يتوافق مع ما وافق عليه المغرب من اتفاقيات دولية ومن تطورات في مجال حقوق الإنسان عمومًا، وحقوق النساء خصوصًا.
في المقابل، كانت ولا تزال الحركة الإسلامية المغربية، من جمعيات إسلامية وتيارات سياسية، تعتبر أن النقاش حول مدونة الأسرة لا يجب أن يخرج عن الفقه والدين والشريعة الإسلامية والمذهب المالكي، وهذا ما ترفضه الحركات النسائية، وما يتسبب بإثارة السجال المستمر بين كل الفاعلين.
تعديلات في الأفق: اِمتداد قديم أم اِنفراج جديد؟
لنعد الآن إلى آذار/مارس 2023. فبعد مرور 20 سنة على تعديل مدونة الأسرة، بدأ مشوار آخر من النقاش حول قانون الأسرة المغربي، وسط ارتفاع سقف تطلعات الحركة النسائية ورؤيتها للقضايا الراهنة: الحريات الفردية، حقوق النساء، العلاقات الرضائية، المساواة في الإرث، وغيرها.
وفي 26 أيلول/سبتمبر 2023، أعلن الملك المغربي محمد السادس عن تكليفه لجنة وزارية لإجراء مشاورات ومُباحثات من أجل تعديل مدونة الأسرة، يترأسها رئيس الحكومة عزيز أخنوش.
أسند الملك محمد السادس المهمة إلى لجنة تعمل بشكل جماعي برئاسة وزارة العدل. كما دعا إلى إشراك الهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى (مؤسسة دينية حكومية مغربية تُعنى بالإفتاء، يترأسها الملك محمد السادس، وتضم في عضويتها 47 عالمًا وعالمة)، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية مغربية لحماية حقوق الإنسان والنهوض بها، تأسست في سنة 1990)، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضًا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.
تقضي التعليمات الملكية برفع مقترحات التعديلات التي ستنبثق عن هذه المشاورات التشاركية الواسعة إلى الملك، وذلك قبل إعداد الحكومة لمشروع قانون في هذا الشأن، وعرضه على البرلمان للمصادقة عليه.
ثمة على ما يبدو مشكلة أخرى كانت بادية على المدونة القديمة، حيث بدا واضحًا التباين والتفاوت الاجتماعي والطبقي والجغرافي المجالي، إذ لا تزال مناطق عديدة متأخرة في الحقوق والحريات إلى جانب اعتماد التفسيرات الدينية والفقهية وإسقاطها على عدد من القضايا.
وكانت خطوة التعديلات مهمة نظرًا لأن المغرب أحد الموقعين على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وعدد من الاتفاقيات الحقوقية. لذلك كان من الضروري تعديل المدونة بما يتماشى مع التزاماته القانونية والمستجدات الدولية.
هنا، من الضروري الإشارة إلى التوصيات التي قدمتها لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة إلى المغرب كتحديد حد أدنى مطلق لسن الزواج، وحظر تعدد الزوجات بشكل كامل، وضمان حق المساواة للمرأة في الأمور المتعلقة بالممتلكات المكتسبة أثناء الزواج والطلاق، وحضانة الأطفال والميراث.
وللشارع المغربي رأي في السجال. فمن جهة، يعتبر المطالبون بضرورة التعديلات مع تضمينها لحقوق النساء ومزيد من الانفتاح، أن قانون الأسرة الحالي يتحايل في نصوصه على قضايا تزويج القاصرات وقضايا الطلاق والحضانة وغيرها.
بينما تعتبر الحركة الحداثية أن بقاء النصوص الدينية والاجتهادات الفقهية سيكون عائقًا أمام الانفتاح المنشود. فمن الضروري الاتجاه إلى تعديل انفتاح أكبر في مدونة الأسرة لتكون موازية للمسار الكوني لحقوق الإنسان وحقوق النساء.
ويعتبر الحقوقيون أن التعديلات المُحتملة في مدونة الأسرة من شأنها أن تدفع بعجلة التقدم إلى الأمام في حالة ما إذا كانت هذه التعديلات تصب في اتجاه خدمة قضايا النساء والمساواة، والانفتاح وإعطاء المرأة حقوقها الرئيسية المُستحقة.
الحركة النسائية: حضور في الماضي والحاضر
لفهم أكبر لحدود الصراع وانخراط الحركة النسائية في نقاش قديم جديد، نحاور الناشطة النسوية والحقوقية المغربية سميرة تناني، وهي رئيسة لجمعية تعنى بقضايا حقوق النساء. ومن بين خلاصات حديث طويل، تقول تناني إن الحركة النسائية انخرطت منذ زمن طويل، ولا تزال، في كل النقاشات حول حقوق النساء ومناهضة العنف ضد المرأة.
وترى أنه من الضروري النظر في قانون الأسرة المغربي نظرًا للقصور والغموض الذي يعتريه. كما تقترح إعمال قيم المساواة وملاءمة قانون الأسرة المغربي للاتفاقيات الدولية. وبهذا ستكون لدينا مدونة حداثية عصرية حقوقية، تتضمن الحقوق الكاملة على أساس المساواة بين الجنسين.
تطرح مشكلة تعدد الزوجات في المغرب، على غرار الدول العربية والإسلامية، نقاشًا واسعًا حيث تنتظر الحركة النسائية المغربية إعادة النظر في هذه النقطة التي تعتبرها ظالمة للمرأة المغربية.
الحركة الحقوقية، وفي آرائها، تعتبر أن المدونة لا تعكس القيم الكونية وقيم حقوق الإنسان والنساء. ومن ضمن الإشكالات التي تعترض عليها الولاية الشرعية للأب على الأطفال في حالة الطلاق، فهي دائما كانت حكرًا على الرجال.
وفي القانون السابق، تحرم المرأة المُطلقة إذا تزوجت مرَّة ثانية من الولاية على الأطفال ويتم حرمانها من الحضانة، وهذا ما تعتبره الحركة النسائية غير منصف في حق المرأة، إلى جانب النقاش حول التعصيب في الإرث الذي يُنتظر أن يتم الحسم معه.
تعصيب ومذهب مالكي وتفسيرات سوسيولوجية
يعود النقاش حول إلغاء التعصيب في الإرث إلى الاعتقاد بأنه من القضايا الاجتهادية التي تتضمن رُؤى واجتهادات مختلفة وخاطئة في كثير من الأحيان. وإذا عدنا للحركة الحقوقية، فإنها تعتقد أن المغرب اليوم يجب أن يكون مستعدًا للحسم معه لكون الشارع قد لا يتفق مع أن يرثَ العم أخاهُ الذي يُنجب بنات فقط، فلا يُمكن القبول بأن يُنازع العم في الإرث.
استعمال التعصيب اليوم لا يخدم ما وصلت إليه المجتمعات الحداثية والتقدمية من ديمقراطية وعدل ومساواة، وهذا ما يرفضه التيار الإسلامي الذي يعتبر أنها مسائل فقهية في الأسرة لا يجب المساس بها.
وإذا ما تعمقنا في النقاط المطروحة في قانون الأسرة السابق الذي ينتظر التعديل، نجد المادة 400 من مدونة الأسرة التي تقول: "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
تدعم هذه المادة شرعية التيارات والأطراف الإسلامية، غير أنها عند النقيض مادة تفتح بابًا من الاجتهادات الفقهية، معتبرين أن الحاجة ملحة لقانون واضح لا نص غامض يعود للقرون الوُسطى.
ومن النقاط التي تنتظر تعديلات وتعتقد الحركة النسائية أنها راهنية هي مسألة الإيقاف الإرادي للحمل، أو الإجهاض الذي لا يزال النقاش حوله مُحتشمًا في ظل غياب تصريح رسمي مباشر يسمح بالقيام بإيقاف الحمل.
للرجال الحق في الزواج من غير المسلمة، أما النساء فلا حقَّ لهن. هذا الموضوع كان محط نقاش آخر، إذ كيف يحق للرجل الزواج بغير المسلمة ولا يحق للمرأة الزواج بغير المسلم؟ وهو ما يعتبر انعدام المساواة.
لكن، لنختم بفكرة خارج الإطار، ونقف لحظة عند البعد السوسيولوجي؛ فالتغييرات المجتمعية، وإن كانت حقوقية، فهي مردُّها لتحليل سوسيولوجي عميق لفهم ديناميات التحول. نحن اليوم أمام موضوع شائك لا يتغير بتغير قانون، بل هو تغيير في الرؤى وتقدم في الطروحات المعروضة ودحض لسرديات سابقة واستشراف أخرى.
التحليل السوسيولوجي يقود للفهم بأن التغيرات المجتمعية والتعديلات المطروحة للقراءة القانونية والسياسية تنحت في مقدسات المجتمع وتقاليده: الدين، العرف، الطقوس، الجماعية، الثقافة الشعبية.