كان الجسد، على امتداد سنين خلت، وكما قال مُورِيسْ مِيرْلُوبُونْتِي "موطن ظهورِ التعبير". كما أن كل استعمال للجسد هو تعبير أصلي وأولي يُخرج الذّات من ذاتها ويجعلها تتصل بالذوات الأخرى عن طريق العلامات والرموز. إنه، في السينما كما في المسرح ومختلف أشكال الفرجة والرقص، موطنٌ للتعبير وقول ما لا يدركه القلم والكتاب أحيانًا، خاصةً حين يتعلق الأمر بالتعبير عن الهوية الفردية والجماعية التي تُترجم بأشكال وتعبيرات فنية عديدة.
والوشم أبرزُ أوجه التعبير في مجتمعاتنا، إذ كان عند جداتنا تجليًا من تجليات الجمال، ورمزًا من رموز الهوية الأمازيغية في شمال إفريقيا، حيث لا يمكن - غالبًا - أن تصادف سيدة مسنّة دون أن تجد على يديها ووجهها وشومًا تتزين بها النساء الأمازيغيات عمومًا، ولهنّ فيها مآرب أخرى.
الثقافة الأمازيغية ثقافة أصيلة لشعوب شمال إفريقيا تتميز بقِدمها وعراقتها ومرونتها، إضافةً إلى أنها قامت على التعبيرات الفنية التقليدية والطقوس العقدية والميثولوجيا، وظلت لقرون طويلة محافظة على غناها وتنوعها في كل مناحي الحياة، من طقوس الولادة إلى طقوس الموت والفلاحة والفرح والغناء والرسم.
وإلى جانب هذا الامتداد، واكبت الأمازيغية أيضًا هوية وثقافة وطقوس جميع الديانات المتعاقبة على شمال إفريقيا، من الوثنية إلى اليهودية والمسيحية ثم الإسلام. عدا عن حضارات مختلفة مثل الرومانية والإغريقية والعربية الإسلامية.
ويُعتبر الوشم أحد أبرز تجليات الثقافة الأمازيغية، إذ يعكس اهتمام الأمازيغية بالجسد وجماليته ويعد وسيلة للتعبيرات الجمالية والروحية والدينية وغيرها. كما أنه لدى الأمازيغيين وسيلة للمناجاة واسترضاء الآلهة وتحديد الهوية القبلية وطلب الخصب، وارتبط عندهم بمعاني الأنوثة والخصب على اعتبار أن المرأة الواشمة هي المرأة الناضجة للزواج.
وتشير شهادات شفهية حصل عليها "ميغازين" إلى أن الواشمة، أو صانعة الوشوم، تتفنن في رسم الوشم على أجساد نساء القرية أو القبيلة أو العائلة بدون مقابل مادّي، ما يعني أن الوشم طقس روحي وثقافي بعيد عن أي ربح مادي.
ارتبط الوشم، بحسب دراسة بعنوان "الوشم لدى قبائل إفريقيا الوسطى: الذات والموضوع" للباحث حسين عباسي (نُشرت في العدد 13 من مجلة الثقافة الشعبية)، بالعقائد والعبادات والديانات القديمة لدى مختلف شعوب العالم، إذ كان معروفًا لدى الصينيين، والهنود، والأفارقة، والسومريين، والآشوريين، والأكاديين، والبابليين، والكلدانيين، والفُرس، والفراعنة، واليونانيين، والرومان.
الوشم إذن ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية، حيث استخدمه المصريون القدماء للعلاج، فيما اتخذته بعض الشعوب قُربانًا للآلهة وتعويذة ضد الأرواح الشريرة، وقد عُثر على الكثير من الجثث التي تعود إلى العصر الحجري الحديث وتثبت قِدَم ممارسة الوشم.
فقهاء ضد الوشم
يقول الباحث المغربي المتخصص في الثقافة الأمازيغية، عْلِي خْدَّاوِي، لـ"ميغازين": "الوشم الأمازيغي معطى ثقافي غني لا يمكن فك رموزه إلا عن طريق حرف تيفيناغ". وهو، بحسب الباحث، عادةً ما يكون مفتاحًا لمعاني ودلالات تلك الرموز التي لا يمكن فهمها إلا بمعرفة اللغة الأمازيغية وثقافتها.
لكن الأخيرة، حسب خْدَّاوِي: "تعرضت للإتلاف على يد بعض الفقهاء الذين حرّموا الوشم وغيره من الفنون الجميلة كالغناء والرقص، مما دفع كثيرًا من النساء من أمهاتنا وجدّاتنا إلى إزالة أوشامهن خوفًا من النار. وبذلك يكون هؤلاء مسؤولين عن إتلاف جزء مهم من التراث الحضاري لشمال إفريقيا".
والوشم الأمازيغي، وفق خْدَّاوِي: "ظاهرة ثقافية وفنية واجتماعية لم ينل حقه وهو ليس وشمًا شخصيًا اعتباطيًا، بل ظاهرة ثقافية وفنية واجتماعية تهم المجتمع ككل وترجع إلى قرون خلت"، إذ كان مرتبطًا بعدة وظائف، منها: وظيفة جمالية، حيث كان يُضفي جمالية على حامله ولذلك تجده عند كلا الجنسين، ويجتهد الجميع من مختلف الفئات العمرية للحصول على أحسن وأجمل وشم. كما كانت نساء بعض القبائل يحملن أوشامًا عديدة في مختلف مناطق الجسد، مثل الوجه والعنق واليدين والرجلين، وحتى الرحم.
حديث خداوي عن ثقافة الوشم نجد له امتدادًا في كتاب "الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية: وجوه الجسد" للباحثة زهرة ابراهيم، التي تقول إن للوشم ذاكرة تاريخية طويلة جدًا ارتبط بعضها بمعتقدات ضاربة في القدم، كما أنه رافق كل المجتمعات الإنسانية في مراحل تطورها المختلفة.
كان الوشم، حسب الكاتبة، وسيلة بعض الشعوب لصد مخاطر الطبيعة، أو طلب النسل، أو نوع من الرقية لصد أذى العين والحسد. وهكذا: "يشتغل الوشم على واجهتين ثقافيتين: إما لعلة تزيينية محضة أو لعلة علاجية محضة، أو هما معًا. وأحيانًا وُظف الوشم لقصدية تعذيبية كما هو الحال بالنسبة إلى السجناء أو العبيد، أو كشفرة تواصل بين القراصنة".
لا يتوقف الوشم الأمازيغي عند الوظيفة الثقافية بل يتجاوزها لوظائف أخرى منها التعريفية وهي ما يشرحها خداوي بالقول: "للوشم وظيفة تعريفية بحيث يكفي أن تنظُر إلى وشم امرأة لتعرف هل هي عزباء أم متزوجة، وتعرف كذلك إلى أية قبيلة تنتمي فضلًا عن الوظيفة الطبية، حيثُ كان يوضع على بعض أمراض الجلد Le goatre، أو ما يُسمى بالأمازيغية تِيرتِي tirti".
وللوشم أيضًا وظيفة روحية للحماية من العين والحسد وغيره، عدا عن وظيفته السياسية. فعندما منع الرومان استعمال حروف تِيفِينَاغْ Tifinaghe في الفضاء العام (كانت هذه الحروف هي الأبجدية الرسمية لكتابة اللغة الأمازيغية في عهد مَاسِينِسَّا، وهو أحد الملوك الأمازيغ القدامى لمملكة نوميديا)، حافظ عليها الأمازيغ في الفضاء الخاص من خلال الوشم والنسيج والجلد والصخور والقبور وغيرها.
ربما نفهم مما سبق أن الوشم الأمازيغي ارتبط بحروف تيفيناغ، إذ إن معظم الرموز الموشومة ما هي إلا حروف من هذه الأبجدية، توشم كما هي مثل "اَزَا ⵣ"، أو يُدخل عليها تعديلًا فنيًا أو مجموعة من الحروف يمكن أن تكون جملة مفيدة كما هو الحال في منتوجات النسيج. ويرى الباحث في التاريخ والثقافة الأمازيغية عبد الله بوشطارت، في حديث لـ"ميغازين"، أن الوشم الذي تضعه النساء الأمازيغيات ليس رسمًا عاديًا، وإنما هو ظاهرة اجتماعية وتاريخية معقدة.
كما تؤكد المصادر التاريخية وجود الوشم على بعض المومياوات في مصر، بل ويمكن أيضًا القول إن الفراعنة في مصر مارسوا الوشم، ونحن نعرف أن للمصريين القدماء علاقات وطيدة مع الأمازيغ بحكم القرب الجغرافي، ولذلك من الممكن أن يحصل التثاقف في هذا المجال.
ينقلنا الكاتب الأنثروبولوجي المغربي عبد الكريم الخطيبي في كتابه "الإنسان المغربي الجريح" إلى فهم آخر للوشم، حيث يقول إنه: "هجرة من دليل إلى آخر وانتقال واسع للرسوم يشبه الحفر على الصخر والخط على الورق والنسيج لزربية وتطريز على قماش والنقش على حلي فاخر؛ فالوشم يرسم ملامح هوية مذهلة تطبعها ألوان متعددة".
من النقش على الحجر إلى الجِلد
تُعتبر معرفة ظهور الوشم على وجوه النساء والرجال لدى الأمازيغ، بحسب بوشطارت، مهمة جدًا لفك أسرار ورموز تلك الأوشام، لأن الأمازيغ مارسوا النقش على الصخور وعلى شواهد القبور منذ القدم، كما مارسوا النقش بالصباغة أو ما يسمى بـ"الصباغيات"، مثل التي اكتشفت مؤخرًا في ضواحي مدينة طانطان، جنوب المغرب. كما ظهرت نُقوشات مصبوغة على الحجر بعناية فائقة بمنطقة زَاڭُورَة (مدينة مغربية تقع جنوب شرق المغرب).
انتقل الإنسان الأمازيغي لاحقًا من الرسم والنقش على الحجر إلى جِلد الحيوان ثم إلى جِلده. هنا نفهم أن ظاهرة الوشم لم تكن صدفة أو اعتباطية وإنما جاءت إثر تطور الوعي لدى الأمازيغ قديمًا، ما يعني أنه لا يمكن فهم الوشم خارج سيرورة تطور الوعي لدى الإنسان الأمازيغي.
واعتبر بوشطارت أن الوشم الأمازيغي آلية ضِمن آليات التعبير والتفكير في إطار التغيير الذي يراكمه الإنسان الأمازيغي في حواره مع الطبيعة ومع المجال ومع عالمه المرئي والمجرد، وقد انتقل الأمازيغ من مرحلة الحوار مع الطبيعة عن طريق رسم ونقش الحيوانات التي يصطادها والأشياء التي تم ادراكها ليتم تخليدها ثم الحوار مع الآلهة، إلى مرحلة اكتشاف الذات والتعبير عن الحوار معها باستعمال الجسد.
ويتجاوز الوشم على وجه المرأة آراء السطحيين الذين يعتبرونه تعبيرًا عن جمالها فقط، والهدف منه هو التزيين. فالوشم عند النساء الأمازيغيات في عموم مناطق شمال إفريقيا، هو تعبير عن الهوية الأمازيغية وثقافتها التي تحتضنها وتنتجها المرأة، ولذلك تحرص على استمراريتها والحفاظ عليها عبر نقلها إلى الأجيال القادمة كما تنقل لهم اللغة الأم.
وطالما أننا نتحدث عن النساء، فإن رمزية الآلهة الأمازيغية "تَانِيتْ"، التي ترمز إلى الخصوبة لا تزال قوية وحيوية ونجدها كنظيمة مركزية مهيمنة في العديد من الرموز والأشكال التعبيرية الأخرى.
يشير بوشطارت إلى أن الوشم هو تجسيد لتعبيرات ورموز ثقافية وهُوياتية قديمة جدًا، لها ارتباط وثيق بحياة الأمازيغ ونمط تفكيرهم، كما تجسد أيضًا جانبًا مهمًا من الطقوس وأشكال التدين والتعبد التي لا تزال راسخة في الميثولوجْيَا الأمازيغية.
تيفيناغ في الوشم الخزف والحلي وعند الطوارق
ويتجاوز الوشم، كما يقول بوشطارت في حديثه لـ"ميغازين"، التعبير عن الهوية الأمازيغية إلى امتدادها، وما حضور حروف تيفيناغ في أوشام النساء في الكثير من مناطق شمال إفريقيا إلا دليل على الامتداد في الحاضر والماضي.
تظهر حروف تيفيناغ في الوشم إما بارزة بشكل صريح أو بطرق غير مباشرة عن طريق وشم حروف غير مكتملة أو جزء منها. كما أن الكثير من الخطوط والرسوم التي نجدها في الوشوم على وجوه النساء نراها أيضًا على الزرابي أو على القصبات التاريخية أو على الأواني الخزفية أو على الحلي الذي تضعه النساء.
يشرح بوشطارت أن صورة هذه الخطوط والرسوم تتضح على الحلي الذي تصنعه نساء الطوارق في الصحراء، وهي أشكال ورسوم قديمة مرتبطة بالثقافة الأمازيغية وحضارتها يصعب فك شفراتها بسهولة، لأن جزءًا منها مرتبط بالجانب العقائدي والحياة الدينية وطقوسها القديمة، قبل دخول الإسلام إلى بلدان الأمازيغ، شمال إفريقيا.
ويُرجَع بوشطارت أسباب تراجع الوشم عند النساء في المغرب، إلى التدهور الثقافي والإقصاء المضروب على الثقافة الأمازيغية في شموليتها خلال العقود الماضية بعد الاستقلال، وهيمنة أفكار التشدد والغلو الديني وانتشار الإسلام الوهابي الذي يشن حملات متواصلة على الإسلام الأمازيغي المحلي.
وما نلاحظه حاليًا من اندثار الوشم الأمازيغي في صفوف النساء في الجبال والهضاب والبوادي دليل على أن الإسلام الوهابي دمر كليًا كل أوجه التعدد والتنوع الثقافي في المغرب، كما أن ذلك دليل على النكوص الثقافي والحضاري الحاصل في البلاد.
الوشم إذن ظاهرة تشتبك فيها الأنثروبولوجيا بالسوسيولوجيا بالتاريخ، وهو بهذا شكل من أشكال التواصل بين الجسد أو الذات، وهي مساحة الإبداع والبوح، والآخر الذي يكتشف عوالم هذا الوشم.