الأسلحة الأميركية

المجمّع الصناعي العسكري الأميركي.. من قال إن الحروب يجب أن تنتهي؟

11 سبتمبر 2024

في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد 10 أيام فقط من اندلاع الحرب في قطاع غزة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا مطولًا بعنوان "حرب الشرق الأوسط تزيد من ارتفاع مبيعات الأسلحة الدولية"، وفيه ناقش الكاتب إيريك ليبتون، الباحث في شؤون الأسلحة وإنفاق البنتاغون، أنه رغم أن الصراعات في غزة وأوكرانيا وأماكن أخرى تتسبب في إحداث معاناة إنسانية هائلة وغير معقولة، لكنها تعمل أيضًا على تعزيز المكاسب النهائية لمصنّعي الأسلحة على مستوى العالم.

وبمعزل عن التفاصيل التي سنأتي عليها أدناه، يعتبر نشر تقريرًا كهذا (ويوجد على شاكلته العشرات في الإعلام السائد) تغيّرًا كبيرًا في النظرة العامة لتجارة الأسلحة، إذ ساد في السابق وقتٌ، تحديدًا في العقد الأول من القرن العشرين مع انغماس الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وغرب آسيا، كانت فيه مبيعات الأسلحة هذه على الأقل تثير الحديث عن "تجار الموت" أو "المنتفعين من الحرب"، لدرجة أن معظم أفلام هوليوود ذات الصلة المُنتجة في تلك الفترة تناولت ذلك بشيء من وصمة العار، ومن أبرز الأمثلة فيلم "آيرون مان" (جون فاڤرو، 2008) الذي روى قصة الملياردير الأميركي تاجر السلاح توني ستارك الذي اختُطف في أحد كهوف أفغانستان وشاهد بعينه ما تفعله أسلحته، فقرر العودة وإغلاق مصانعه والمحاربة لأجل الخير.

لكن من الواضح أن هذا الوقت قد مضى، نظرًا للمعاملة الاحتفائية التي تحظى بها الصناعة من قبل وسائل الإعلام السائدة والإدارات الأميركية المتعاقبة، فضلًا عن طبيعة الصراعات الحالية. مع الوضع في عين الاعتبار أن صناعة الأسلحة الأميركية تهيمن بالفعل على السوق الدولية بطريقة مذهلة، حيث تسيطر على 45 في المئة من جميع هذه المبيعات على مستوى العالم، وهي فجوة من المرجح أن تتوسع بفعل الاندفاع لمزيد من تسليح حلفاء أميركا في أوروبا، سواءً على الجبهة الأوكرانية أو غيرها، وكذلك في الشرق الأوسط، كصفقة "الدفاع المشترك" الكُبرى التي تُطبخ على نار هادئة مع السعودية.

تجلى تغير الخطاب هذا كذلك في خطاب متلفز ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن حول الحرب على غزة والحرب الروسية في أوكرانيا، إذ وصف صناعة الأسلحة الأميركية بعبارات رنانة، مشيرًا إلى أنه "تمامًا كما كان الحال في الحرب العالمية الثانية، يقوم العمال الأميركيون الوطنيون اليوم ببناء ترسانة الديمقراطية لتوضع في خدمة قضية الحرية". ومن منظور سياسي ورسالي يضيف نوعًا من الرومانسية على الخطاب، ركّز بايدن على العمال المشاركين في إنتاج مثل هذه الأسلحة بدلاً من الشركات العملاقة التي تستفيد فعليًا من تسليح إسرائيل وأوكرانيا والدول الأخرى. رغم أن الأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو أن الكثير من الإيرادات التي تتدفق إلى تلك الشركات يتم جمعها في صورة رواتب عملاقة للمسؤولين التنفيذيين وعمليات إعادة شراء الأسهم التي لا تؤدي إلا إلى زيادة أرباح المساهمين.

استخدم الرئيس بايدن أيضًا هذا الخطاب كفرصة للترويج لفوائد المساعدات العسكرية الدورية ومبيعات الأسلحة للاقتصاد الأميركي، فقال: "نرسل معدات موجودة في مخزوناتنا إلى أوكرانيا. وعندما ننفق الأموال التي خصصها الكونغرس، فإننا ننفقها في تجديد متاجرنا ومخزوناتنا بمعدات جديدة تدافع عن أميركا وهي مصنوعة في أميركا". 

أسلحة أميركية تستخدمها إسرائيل في عدوانها على غزة

باختصار، يشهد المجمع الصناعي العسكري ارتفاعًا كبيرًا في كافة المؤشرات، مع تدفق الإيرادات والأوسمة القادمة من أعلى المستويات السياسية في واشنطن. ولكن هل هي في الواقع "ترسانة من الديمقراطية"؟ أم أنها مشروع غير أخلاقي، على استعداد لبيعه لأي دولة، سواء كانت ديمقراطية، أو استبدادية، أو أي شيء بينهما؟

نهج جديد لحروب الولايات المتحدة

في خطاب الوداع الذي ألقاه عام 1961، تنبّأ الرئيس دوايت أيزنهاور بخطر "المجمع الصناعي العسكري" رغم عدم تبلوره بشكله اليوم آنذاك، ودعا المواطنين والحكومة على حد سواء إلى مقاومة قوته. إذ إنَّه وقبل ذلك الخطاب بعقدين من الزمن، كان دخول أميركا إلى الحرب العالمية الثانية بمثابة انتصار للنظرية "الكينزية" التي افترضت أن الطلب الحكومي يمكن، بل ينبغي له، أن يعيد الاستقرار للاقتصاد وينقذ الرأسمالية من نفسها في أعقاب أزمة الكساد العظيم. وهذا ما حصل، حيث كان استثمار الولايات المتحدة في المجهود الحربي واحدًا من أكبر الاستثمارات الحكومية في التاريخ، فقد أخرجت الحرب الولايات المتحدة من الكساد الكبير. لكن كما تطلبت الحرب تطوير صناعة أسلحة جديدة، فإن صناعة الأسلحة بعد الحرب تطلبت الحروب. وفي الواقع، ظلت الولايات المتحدة منخرطة بشكل شبه مستمر في الحروب مُذّاك.

إن المجمع الصناعي العسكري، الذي يشجع صراحةً على الإفراط في إنتاج الأسلحة، يؤدي إلى استخدام القوة الغاشمة، المهدرة، وغير الضرورية في كثير من الأحيان، مما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة وكارثية في كثير من الأحيان. ولنتأمل هنا أنه خلال الحرب العالمية الثانية، تم استخدام ما يقرب من 3 ملايين طن من المتفجرات ضد قوى المحور. 

وفي المقابل، خلال حرب فيتنام وحدها، تم استخدام 4 ملايين طن ضد قوة أصغر بكثير، وكان معظمها عبارة عن عصابات منتشرة عبر الأراضي الحرجية الكثيفة. ومع ذلك، انتصرت فيتنام.

الدبلوماسي والعالم السوفييتي جورج كينان، والذي يُنسب إليه الفضل في التنبؤ بالحرب الباردة القادمة في عام 1945، وصف موقف أميركا تجاه الحرب بأنه "إدمان"، وقال كينان إن محاولة التغلب على هذا الإدمان "ستواجه مقاومة شديدة وتستغرق سنوات لإنجازها حتى لو كان الاتحاد السوفييتي قد اختفى في هذه الأثناء بأعجوبة من الأرض". وفي هذا الصدد كتب الصحفي روس ويلين: "بعبارة أخرى، تنبأ كينان بضآلة احتمال أن تخفض الولايات المتحدة، مهما اعتراها شعور النصر على الاتحاد السوفييتي، إنفاقها على الدفاع".

تقليديًا، كان الأساس المنطقي النهائي للحرب، إن وجد، هو الاستحواذ على الأراضي الاستراتيجية وأهم الموارد، لكن بالنسبة للولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحديدًا، صار غرض الحروب هو إنتاج وبيع الأسلحة للآخرين ليقاتلوا بها. وتعمّق ذلك بعد إخفاقي العراق والحروب الأفغانية اللذين جعلا الولايات المتحدة تتردَّد إلى حد كبير في الدخول في صراعات عسكرية مباشرة، لكنها لم تتوقف عن المشاركة في الحروب الإقليمية حول العالم والتحريض عليها وبيعها. الولايات المتحدة هي أكبر مصدّر للأسلحة في العالم، وهي مسؤولة عن حوالي نصف من سوق التصدير العالمية.

الحرب تعني نموًا في الأرباح

من الطبيعي في عالم السياسة أن يتعيّن على الحلفاء الأقوى تزويد حلفائهم بما يحتاجونه للدفاع عن أنفسهم من الغزو الخارجي. ومع ذلك، وفي الحالة الأوكرانية على سبيل المثال، فإن إرسال الأسلحة بمفردها، دون العمل على تطوير استراتيجية دبلوماسية مصاحبة، يعد بمثابة وصفة لحرب طاحنة لا نهاية لها (يرافقها بطبيعة الحال أرباح لا نهاية لها لصانعي الأسلحة) والتي يمكن أن تتصاعد إلى صراع أكثر مباشرة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وروسيا. ينطبق ذلك على الحالة الإسرائيلية كذلك، إذ إنَّ استمرار تدفق الأسلحة، التي تُستخدم هنا بشكلٍ أساسي في حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، وإن ادّعت الولايات المتحدة أنها تُستخدم لـ"حفظ أمن إسرائيل"، دون بذل جهد حقيقي لوقف الحرب -وهو الأمر الذي يحفظ أمن إسرائيل فعلًا في المقام الأول- يكشف حقيقة النوايا.

ورغم ضخامة الأموال في هذه الصناعة وتعملق تأثيرها على صناعة السياسة، إلا أنها، كما حال الصناعات الكبرى كالتكنولوجيا والبنوك، تخضع لسيطرة عدد محدود جدًا من الشركات الكبرى، أبرزها رايثيون ولوكهيد مارتن. وبخلاف المتحدثين الحكوميين، فإن مدراء تلك الشركات لا يضطرون في كثير من الأحيان لتهذيب حديثهم أو إلباسه ثوبًا شعاراتيًا خيريًا. إذ اعترف جريجوري هايز، الرئيس التنفيذي لشركة رايثيون، في مقابلة مع مجلة هارفارد بزنس ريفيو، في وقت مبكر من حرب أوكرانيا بالقول: "نحن لا نعتذر عن صنع هذه الأنظمة، أو صنع هذه الأسلحة... فالحقيقة هي أننا سنرى في نهاية المطاف بعض الفوائد منها مع مرور الوقت. فكل ما يتم شحنه إلى أوكرانيا اليوم، بالطبع، يخرج من مخزونات وزارة الدفاع أو من حلفائنا في الناتو، وهذه كلها أخبار رائعة. ففي نهاية المطاف سيتعين علينا تجديد تلك المخزونات، وسنرى فائدة الشركة تتحقق على مدى السنوات المقبلة".

مساعدات عسكرية أميركية لإسرائيل

كما أعاد هايز الاعتراف بذلك صراحةً فور بدء الحرب الإسرائيلية على غزة بالقول إن هذه الحرب مفيدة للأعمال التجارية، وذلك عندما طلب الرئيس بايدن من الكونغرس حزمة التمويل الأولى في أكتوبر لأوكرانيا وإسرائيل، وكان جزء من الخطة هو إعادة تخزين القبة الحديدية الإسرائيلية التي تصنّعها رايثيون. وأثار هايز هذه النقطة أيضًا في معرض رده على سؤال من أحد الباحثين في بنك مورجان ستانلي خلال مكالمة مع محللي وول ستريت، عندما أشار الباحث إلى أن حزمة المساعدات العسكرية التي اقترحها الرئيس بايدن بمليارات الدولارات لإسرائيل وأوكرانيا "يبدو أنها تتناسب بشكل جيد مع محفظة رايثيون الدفاعية"، فأجاب هايز قائلًا: "ستلاحظ فائدة إعادة التخزين هذه عبر محفظة رايثيون بأكملها، بالإضافة إلى ما نعتقد أنه سيكون زيادةً في خط إنتاج وزارة الدفاع بينما نواصل تجديد هذه المخزونات". وأشار إلى أن إمداد أوكرانيا وحدها سيدر إيرادات بالمليارات على مدى السنوات القليلة المقبلة بهامش ربح يتراوح بين 10 في المئة إلى 12 في المئة.

تسليح مختلف أطراف الصراع 

وبعيدًا عن هذه الأرباح المباشرة، هناك مشكلة أكبر في ذلك؛ وهي الطريقة التي يستخدم بها لوبي السلاح في الولايات المتحدة الحرب للدفاع عن مجموعة متنوعة من الإجراءات التي تتجاوز بكثير أي شيء مطلوب لدعم الدول الحليفة. وتشمل تلك الإجراءات العقود الأقل تقييدًا والمتعددة السنوات، وتخفيضات في قوانين الحماية من التلاعب بالأسعار، وموافقة أسرع على المبيعات الأجنبية، وبناء مصانع أسلحة جديدة. وكل هذا يحدث في الوقت الذي تقترب فيه ميزانية البنتاغون -القياسية بالفعل- من بلوغ تريليون دولار خلال السنوات القليلة المقبلة.

أما بالنسبة لتسليح إسرائيل تحديدًا، فليس خفيًا عدم وجود مبرر لحرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد أكثر من مليوني نسمة في قطاع غزة ولا قوة رادعة لتلك الأسلحة، ما يجعل هذا النهج المدمر في التعامل مع غزة لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع "الدفاع عن الديمقراطية" الذي ذكره بايدن في حديثه عن الصناعة، وهو ما يعني أن شركات الأسلحة المستفيدة ستكون متواطئة في الكارثة الإنسانية التي تتكشف فصولها يومًا بعد يوم.

وبخلاف ذلك، وعلى مر السنين، ساعدت شركات تصنيع الأسلحة الأميركية في الواقع في تقويض الديمقراطية على مستوى العالم في كثير من الأحيان، وسمحت بالمزيد من القمع وتأجيج الصراع، وهي حقيقة تم تجاهلها إلى حد كبير في التغطية الإعلامية والسياسية السائدة لهذه الصناعة. على سبيل المثال، في تقرير صدر عام 2022 لمعهد كوينسي للأبحاث، أُشير إلى أنه من بين الصراعات الـ46 التي كانت نشطة آنذاك على مستوى العالم، كان هناك 34 صراعًا يضم طرفًا أو أكثر تسلّحه الولايات المتحدة. في بعض الحالات، كانت إمدادات الأسلحة الأميركية متواضعة، لكن في العديد من الصراعات الأخرى كانت هذه الأسلحة أساسية للقدرات العسكرية لواحد أو أكثر من الأطراف المتحاربة.

كما أن مبيعات الأسلحة هذه لا تعزز "الديمقراطية فوق الاستبداد"، وهو شعار نهج إدارة بايدن في السياسة الخارجية. ففي عام 2021، وهو آخر عام تتوافر عنه إحصاءات كاملة، قامت الولايات المتحدة بتسليح 31 دولة صنفتها منظمة فريدوم هاوس، وهي منظمة غير ربحية تتتبَّع الاتجاهات العالمية في الديمقراطية والحرية السياسية وحقوق الإنسان، على أنها "غير حرة".

ورغم فداحة ما تفعله إسرائيل في غزة منذ قرابة العام، ومُحاكمتها بتهمة الإبادة الجماعية بشكلٍ رسمي، إلا أنها ليست استثناءً عندما يتعلق الأمر بتقديم أميركا السلاح لمُنتهكي حقوق الإنسان، فالقائمة تطول، وتضم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر وتركيا ونيجيريا والفلبين. ومثل هذه المبيعات يمكن أن يكون لها عواقب إنسانية مدمرة، كحرب اليمن التي تمت بأسلحة أميركية نتج عنها قتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف، كما أنها تدعم أنظمة تعمل في كثير من الأحيان على زعزعة استقرار مناطقها وتخاطر بإقحام الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراعات.

وبغض النظر عن أهداف واشنطن المُعلنة وتصنيفاتها للدول التي تستحق دعمها من عدمه، فإن الأسلحة التي توفرها الولايات المتحدة غالبًا ما تقع في أيدي خصومها في نهاية المطاف أو تحقق أهدافًا مضادة. كما هو الحال عندما استخدمت تركيا طائرات إف-16 التي حصلت عليها من الولايات المتحدة في عام 2019، لقصف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي حصلت على أسلحة أميركية أيضًا للمشاركة في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.

"نعمل وفق القانون"

عند سؤالها عما إذا كانت تشعر بأي مسؤولية عن كيفية استخدام أسلحتها، تتظاهر شركات الأسلحة عمومًا بأنها متفرج سلبي، بحجة أن كل ما تفعله هو اتباع السياسات المتخذة في واشنطن. ففي ذروة حرب اليمن، سألت منظمة العفو الدولية الشركات التي كانت تزود التحالف السعودي الإماراتي بالمعدات والخدمات العسكرية عما إذا كانت تضمن عدم استخدام أسلحتها في ارتكاب انتهاكات "فظيعة" لحقوق الإنسان. قدمت شركة لوكهيد مارتن استجابة يمكن وصفها بـ"الآلية"، مؤكدة أن "الصادرات الدفاعية تنظمها حكومة الولايات المتحدة ويوافق عليها كل من السلطة التنفيذية والكونغرس لضمان دعمها لأهداف الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة". بينما ذكرت شركة رايثيون ببساطة أن مبيعاتها "من الذخائر الموجهة بدقة إلى المملكة العربية السعودية كانت وستظل متوافقة مع القانون الأميركي".

وبطبيعة الحال، لا تخضع شركات الأسلحة لقوانين الولايات المتحدة فحسب، بل تسعى بنشاط إلى ليّها وتعديلها، بما في ذلك بذل جهد كبير لمنع الجهود التشريعية للحد من مبيعات الأسلحة. على سبيل المثال، بذلت شركة رايثيون جهودًا كبيرة من وراء الكواليس لضمان إتمام صفقة كبيرة للقنابل الموجهة بدقة إلى المملكة العربية السعودية في أوج حربها على اليمن. ففي أيار/مايو 2018، قام الرئيس التنفيذي آنذاك توماس كينيدي شخصيًا بزيارة مكتب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ روبرت مينينديز للضغط عليه (دون جدوى) ليتراجع عن قرار وقف تلك الصفقة. كما أقامت الشركة علاقات وثيقة مع إدارة ترامب، بما في ذلك المستشار التجاري الرئاسي بيتر نافارو، لضمان دعمها لمواصلة المبيعات للسعودية حتى تدهور علاقات البلدين ووصولها إلى أسوأ مراحلها بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.

التجمع القدوة

لقد أصبح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي مثالًا يُحتذى به لدى العديد من نظرائه في الدول الأصغر. فقد أصبحت تركيا أكبر مصنّع للطائرات بدون طيار في العالم، وتحولت إيران مؤخرًا من كونها مشترية للأسلحة إلى مصدّر لها، إذ توفّر الأسلحة لروسيا في حربها في أوكرانيا (التي تقاتل بالكثير من المسيّرات التركية). وبالمثل، تصدّر إسرائيل الدبابات إلى أوروبا وأنظمة "مقلاع داوود" المضادة للطيران. وبالحديث عن إسرائيل، فإنها، على الرغم من صغرها مقارنة بالولايات المتحدة، تملك أعلى معدّل صادرات الأسلحة مقابل الفرد في العالم، ضعف نظيره في الولايات المتحدة.

من الأمثلة الصارخة على توجه المجمع الصناعي العسكري لتمرير صفقات البيع وإن لم تحمل أهمية استراتيجية هو برنامج الطائرات المقاتلة إف-35 المثير للجدل، والذي تقدر تكلفته بـ 1.7 تريليون دولار، وهو البرنامج العسكري الأكثر تكلفة في التاريخ. إذ يقول البروفيسور في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نعوم تشومسكي، إن المساعدات العسكرية لإسرائيل لها دوافع خفية، حيث إن توفير أسلحة حديثة لإسرائيل يجلب خبراتٍ لا تقدر بثمن للولايات المتحدة حول تلك الأسلحة التي تستخدم مباشرة في إسرائيل لأول مرة. وبالفعل، تم بيع طائرة إف-35 لإسرائيل، واستخدمتها إسرائيل (فوق سوريا) لأول مرة على الإطلاق في القتال عام 2018، مما يؤكد فرضية تشومسكي، ويرسخ حقيقة استخدام إسرائيل أجساد الفلسطينيين وبيوتهم كمخبر تجريب.

أسلحة أميركية تستخدمها إسرائيل في عدوانها على غزة

إن إنتاج أسلحة جديدة مثل مقاتلة إف-35 هو أمر غير مُجدٍ إلى حد كبير، في رأي العديد من الخبراء، لأنه يلغي أو يحل محل الأجيال السابقة من نفس السلاح الذي قد يكون في بعض الحالات أفضل من السلاح الجديد. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك استبدال عدد من الجيوش والقواعد الطائرة المقاتلة من طراز إف-22، التي يفوق أداءها في بعض النواحي أداء الطائرة إف-35 الجديدة، التي ما زالت تواجه، حتى وقت قريب صعوبات في التحليق عبر العواصف الرعدية.

يقترح خبراء التوصّل إلى معاهدة دولية تهدف إلى كبح جماح المجمع الصناعي العسكري العالمي وسطوته، بما يشبه المعاهدات الدولية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تشمل معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ومعاهدة منع انتشار الأسلحة الكيميائية واتفاقية الأسلحة البيولوجية والسُمّية، وأن تبادر القوى العظمى الكبرى - الولايات المتحدة والصين وروسيا - إلى إبرام مثل هذه المعاهدة.

بينما يقترح آخرون حلًّا آخر لإبطاء هذه الشراهة لبيع الأسلحة، وهو "قلب السيناريو" بشأن كيفية مراجعة الكونغرس لصادرات الأسلحة. إذ يتطلب القانون الأميركي الحالي وجود أغلبية مانعة في مجلسي الكونغرس (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) لمنع عملية بيع مشكوك فيها. وللمفاجأة، فإن هذا المعيار لم يتم استيفاؤه مطلقًا، وذلك بفضل ملايين الدولارات من الدعم المالي السنوي الذي تقدمه شركات الأسلحة لمختلف أعضاء الكونجرس، حيث يوظف المجمع الصناعي العسكري حوالي 700 جماعة ضغط، اثنتان لكل عضو.

إن قلب السيناريو يعني المطالبة بموافقة إيجابية من الكونغرس على أي مبيعات كبيرة للدول الرئيسية لإقرارها، بدلًا من أن يكون ذلك أمرًا افتراضيًا ويمكن التصويت على منعها؛ مما قد يزيد من فرص وقف الصفقات الخطيرة قبل أن تصل إلى الاكتمال.

وفقًا لوزارة الخارجية الأميركية، حوالي 2-2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، المقدر بـ 100 تريليون دولار سنويًا، تذهب إلى الإنفاق العسكري، ولحفنة قليلة نصيب الأسد من من تلك الأموال التي تعادل ميزانيات دول كبرى. قد تستمر الولايات المتحدة في التأكيد على "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها" دون بذل أي جهد لوقف الحرب، وقد تكرر أهمية "الدفاع عن أوكرانيا بوصفها الحاجز أمام الحلم البوتيني لغزو أوروبا" دون أي جهد دبلوماسي، وقد تؤكد على "سيادة تايوان" دون التحدث بجدّية مع الصين، طالما هناك تدفق لفواتير زبائن "ترسانة الديمقراطية" التي لا يوجد من يدققها.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

جنود من الدروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي

كيف نفهم خدمة الدروز والبدو في الجيش الإسرائيلي؟

انخرط الدروز والبدو الفلسطينيين في جيش دولة الاحتلال بسبب سياساتها الاستعمارية القائمة على تقسيم المجتمع الفلسطيني، واستغلال حاجة الأقليات/الجماعات الصغيرة للأمان والبقاء

هبة حمارشة

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني

المزيد من الكاتب

فراس دالاتي

كاتب وصحافي سوري

"بحاجة إلى أن تكون أذكى".. هل تؤدي العقوبات على النظام السوري دورها؟

لم تدفع العقوبات الغربية النظام السوري إلى تقديم تنازلات سياسية أو الانخراط جديًا في تسوية سلمية للصراع، لكنها فاقمت معاناة السوريين الذين أصبح أكثر من 90 بالمئة منهم تحت خطر الفقر

الإنجيليون في أروقة صناعة القرار الأميركي: دعم إسرائيل واجب ديني

دعم إسرائيل بالنسبة إلى الإنجيليين واجب ديني لأنهم يعتقدون بأنها علامة على أن يسوع سيعود إلى القدس قريبًا، ولذلك يروّجون لفكرة أن الله لن يدعم أميركا إذا لم تدعم إسرائيل

إسرائيل وإيران في الفضاء السيبراني.. هل هي حرب صامتة؟

لم تعد هناك دولة في العالم بمأمن من التجسس والتخريب وحملات الهندسة الاجتماعية، الأقل دموية من الصراعات التقليدية، لكنها أشد فتكًا