في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2006، نشر الكاتب والصحافي الأميركي ديفيد كيركباتريك مقالًا في صحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "بالنسبة للإنجيليين، دعم إسرائيل هو سياسة الإله الخارجية"، استهله بحكاية القس جون هاجي الذي وصل من سان أنطونيو إلى واشنطن، في أعقاب حرب تموز/يوليو 2006 في لبنان، برفقة 3500 إنجيلي لحضور المؤتمر السنوي الأول لمنظمته التي تأسست حديثًا "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"، والذي وصف الصراع حينها، في حفل عشاء حضره السفير الإسرائيلي وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ورئيس الحزب الجمهوري، بأنه "معركة بين الخير والشر" قائلًا إن دعم إسرائيل هو "سياسة الله الخارجية". وفي اليوم التالي، أخذ الرسالة نفسها إلى البيت الأبيض.
و"المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل" هي منظمة صهيونية مسيحية تتبنى الاعتقاد الأخروي القائل بأن دولة إسرائيل، بشكلها الحديث الحالي، لها دور مركزي في المجيء الثاني ليسوع المسيح، وبالتالي في نهاية العالم.
ومع أنه ليس كل المسيحيين الإنجيليين هم من المسيحيين الصهاينة، فإن حوالي 80 بالمئة من الإنجيليين في الولايات المتحدة يعبرون أيضًا عن اعتقادهم بأن دولة إسرائيل الحديثة، وتجمُّع الملايين من الشعب اليهودي هناك، علامات على أن يسوع سيعود قريبًا إلى القدس. كما يعتقد الكثيرون أيضًا أن المسيحيين سيتم إنقاذهم من نهاية العالم اللاحقة من خلال الاختطاف، في حين أن أولئك الذين يعتنقون ديانات أخرى سيتعين عليهم التحول إلى المسيحية أو الذهاب إلى الجحيم.
بالقفز 17 سنة إلى الأمام، وبعد ساعات من هجوم "حماس" على مستوطنات ومواقع عسكرية في غلاف قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر نشرت جماعة "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"، جماعة الضغط الإنجيلية إياها، التي صار لديها أكثر من 10 ملايين عضو، رسالة عبر موقع "إكس" جاء فيها: "إلى الإرهابيين الذين اختاروا هذه المعركة، اسمعوا هذا، ما تفعلونه بإسرائيل سيفعله الله بكم. على الرغم من بكاء اليوم، سيأتي الفرح غدًا لأن الإله الذي يراقب إسرائيل لا ينعس ولا ينام". وسرعان ما صدر بعده بيان "إنجيليون لدعم إسرائيل" من قبل لجنة الأخلاق والحرية الدينية، وهي ذراع المؤتمر المعمداني الجنوبي، وهي طائفة تضم 45 ألف كنيسة في الولايات المتحدة.
وفي ذلك البيان، قال 2000 من القادة الإنجيليين إنهم: "يدعمون بالكامل حق إسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم آخر. وعلى الرغم من أن وجهات نظرنا اللاهوتية بشأن إسرائيل والكنيسة قد تختلف، إلا أننا متحدون في وصف الهجمات ضد الشعب اليهودي بأنها مثيرة للقلق بشكل خاص، لأنهم غالبًا ما كانوا مستهدفين من قبل جيرانهم منذ أن دعاهم الله كشعبه في أيام إبراهيم (تكوين 12: 1-3)".
وتابع البيان: "تماشيًا مع تقاليد الحرب العادلة المسيحية، نؤكد أيضًا شرعية حق إسرائيل في الرد ضد أولئك الذين بدأوا هذه الهجمات، حيث يمنح رومية 13 الحكومات القدرة على حمل السيف ضد أولئك الذين يرتكبون مثل هذه الأعمال الشريرة ضد حياة الأبرياء".
"حرب ذات أهمية نبوية"
بالنسبة إلى أولئك الأكثر دراية بالعالم الإنجيلي، فإن قوة الدعم لم تكن مفاجأة نظرًا لأهمية إسرائيل التي يسكنها شعب يهودي بالنسبة للإنجيليين، إذ يرى أحد الاتجاهات الرئيسية في اللاهوت الإنجيلي أن عودة اليهود إلى المنطقة تعني بدء دق عقارب الساعة لـ"معركة هرمجدون" التي تستمر سبع سنوات، ينتهي بعدها تاريخ الإنسانية وتتوج بعودة يسوع المسيح ليحكم جميع الأحياء والأموات.
ولتحقيق هذه الغاية، سيطرت قضية إسرائيل وفلسطين على الخطب في الكنائس الإنجيلية خلال الأشهر الأخيرة، كما قال دانييل هامل، مؤرخ الديانة الأميركي ومؤلف كتاب "إخوة العهد: الإنجيليون واليهود والعلاقات الأميركية الإسرائيلية". وأضاف هامل: "كان الموضوع الرئيسي هو أن هذه الحرب ذات أهمية نبوية، لكن لا أحد يرغب في الادعاء بكيفية ذلك بالضبط".
وأوضح جون هاجي، مؤسس "منظمة المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"، النبوءة لشبكة "TBN" في كانون الأول/ديسمبر 2022، قائلًا: "إن الله يستعد للدفاع عن إسرائيل بطريقة خارقة للطبيعة ستحبس أنفاس الطغاة على كوكب الأرض، ولكننا نعيش على أعتاب أعظم سلسلة من الأحداث الخارقة للطبيعة التي شهدها العالم على الإطلاق. ما سيأتي قريبًا هو المسيح الدجال وإمبراطوريته التي تدوم سبع سنوات والتي سيتم تدميرها في معركة هرمجدون. ثم يقيم يسوع المسيح عرشه في مدينة أورشليم. وسيؤسس هناك مملكة لن تنتهي أبدًا".
وفي عام 2015، قدّر مركز بيو للأبحاث أن هناك حوالي 62 مليون شخص إنجيلي في الولايات المتحدة، بينما يشكل الإنجيليون جزءًا مؤثرًا من قاعدة الحزب الجمهوري، ولهم حضور كبير في الكونغرس، إذ يمكن تعريف أكثر من 100 عضو في الكونجرس الحالي على نطاق واسع بأنهم إنجيليون.
وقال هامل إن دعم المسيحيين الإنجيليين لإسرائيل يمكن تقسيمه إلى مجموعات مختلفة. ففي حين أن هناك الكثير من الإنجيليين الذين، مثل هاجي، يلتزمون بفكرة أن لاهوت إسرائيل هو مفتاح عودة يسوع، هناك أيضًا أولئك الذين يؤمنون بـ "لاهوت البركات"، وهو نهج أقل غرابة وأكثر جموحًا في دعم إسرائيل. إذ يعتمد لاهوت البركات على قراءة حرفية لسفر التكوين، حيث قال الله لإبراهيم – الذي وصفه هامل بأنه "بطريرك الشعب اليهودي" – أنه "سوف يبارك مباركيك" و"يلعن لاعنيك".
وهو النهج الذي أظهر نجاحًا على المستوى الوطني في غرف صنع السياسة الأميركية، ولم يتطلب أكثر من أن يقول القس شيئًا من قبيل: "انظر إلى الإمبراطورية الرومانية كيف اضطهدت اليهود وكيف سقطت روما". أو: "انظر إلى الإمبراطورية البريطانية كيف لم يعامل البريطانيون اليهود معاملة جيدة، وكيف سقطوا. انظر إلى النازيين وكيف اضطهدوا اليهود فسقطوا". وكذلك: "نحن الأميركيين لا نريد أن نكون الإمبراطورية التالية أو القوة العظمى التالية التي تسقط لأننا لم نبارك الشعب اليهودي بما فيه الكفاية".
أدوار ثابتة للإنجيليين لعقود
إضافةً إلى ذلك، يؤمن العديد من الإنجيليين بما يسمى "العهد الإبراهيمي"، أي فكرة أن الله وعد إبراهيم ونسله بالأرض التي أصبحت الآن إسرائيل والأراضي الفلسطينية. فوفقًا لدراسة استقصائية أجريت عام 2017 من قبل مؤسسة "لايف واي" الأميركية المعمدانية الجنوبية، يعتقد 8 من كل 10 إنجيليين أن "وعد الله لإبراهيم ونسله كان إلى الأبد". واتفق 7 من كل 10 على أن: "للشعب اليهودي حق تاريخي في أرض إسرائيل".
وبدءًا من ستينيات القرن العشرين، بدأ الزعماء المسيحيون مثل بيلي جراهام في التأكيد على هذا الارتباط وتسييسه. وقال دانييل هامل للإذاعة الوطنية الأميركية: "زار غراهام إسرائيل لأول مرة في عام 1960. وهي زيارة كبيرة حقًا"، إذ لم يكتف جراهام بالوعظ في إسرائيل فحسب، بل التقى برئيس الوزراء آنذاك ديفيد بن غوريون: "مركزًا بحق على التعبير عن وجهة نظر مسيحية صهيونية مفادها أن دولة إسرائيل هي تحقيق لخطط الله للشعب اليهودي".
لكن لم تكن التنظيمات الإنجيلية بهذا التنظيم العالي حينها، وكان الإنجيليون يميلون إلى البقاء بعيدًا عن السياسة خلال الجزء الأول من القرن العشرين، إلا أن حركات الحقوق المدنية من الخمسينيات حتى السبعينيات، وخاصةً قرار رو ضد وايد عام 1973 الذي شرع الإجهاض؛ حفزت الإنجيليين على العمل السياسي.
وعلى سبيل المثال، في عام 1979، أسس القس المعمداني جيري فالويل منظمة "الأغلبية الأخلاقية"، وهي منظمة سياسية عارضت الإجهاض، وتعديل الحقوق المتساوية، وحقوق المثليين، في حين دعمت أيضًا زيادة الإنفاق العسكري والرعاية القوية لإسرائيل. روَّج فالويل وأتباعه، مثل بات روبرتسون مؤسس شبكة البث المسيحية، لفكرة أن الله لن يدعم الولايات المتحدة إلا إذا دعمت الولايات المتحدة إسرائيل، وهي فكرة يتبناها أيضًا هاجي من منظمة "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل" أيضًا.
وعندما تم انتخاب رونالد ريغان رئيسًا في عام 1980، أدت علاقته الوثيقة مع فالويل وغيره من الزعماء المسيحيين المحافظين إلى ربط مؤسسة الأغلبية الأخلاقية بالحزب الجمهوري، مما أعطى الحركة الإنجيلية إمكانية الوصول إلى المسؤولين السياسيين في الولايات المتحدة ومنحها هوية جديدة باسم "اليمين المسيحي". وقد عززت رئاسة جورج دبليو بوش، وهو نفسه مسيحي إنجيلي، من تأثير اليمين المسيحي في السياسة الأميركية والسياسة الخارجية.
المسيحية الصهيونية ثابتة في السياسة الأميركية رغم تغير الوجوه
بالنسبة إلى الصهاينة المسيحيين، فإن الأفعال التي تبرر أو تقبل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، مثل اتفاقيات أبراهام وقرار عام 2018 بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، تستحق الإشادة. بينما يجب التعامل بقسوة وحزم مع أي تهديدات تواجهها إسرائيل، وإن لم تكن بالضرورة تشكل تهديدًا على الولايات المتحدة.
وشهد المسيحيون الصهاينة ذروة قوتهم السياسية خلال إدارة ترامب، إذ إن نائب الرئيس السابق مايك بنس ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو متحالفان بشكل وثيق مع الصهيونية المسيحية، وقد اهتم ترامب علنًا بالإنجيليين البيض، الذين صوتوا له بحماس كبير في كل من عامي 2016 و2020. وقد حظيت التحركات الصديقة لإسرائيل التي اتخذتها إدارة ترامب بإشادة القادة الإنجيليين، بما في ذلك فرانكلين جراهام الذي أثنى على ترامب بشأن الاتفاقيات "التاريخية" الموقعة بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة.
وعندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، روجت منظمة "المسيحيون المتحدون لأجل إسرائيل" لهذه الخطوة، معلنةً: "اليوم اتخذ الرئيس ترامب الخطوة الأولى نحو جعل الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم بأسره أكثر أمانًا من خلال إلغاء صفقة إيران المعيبة لدرجة اليأس".
ومع ترك ترامب لمنصبه، قد يكون من المغري الاعتقاد بأن الإنجيليين والصهاينة المسيحيين بينهم يتمتعون الآن بقوة سياسية أقل. في حين أن هذا هو الحال في بعض النواحي، خاصةً مع خروج شخصيات مثل بنس وبومبيو من الحكومة، فإن أعضاء "منظمة المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"، جنبًا إلى جنب مع الإنجيليين ذوي التفكير المماثل، لا يزالون يمثلون مجموعة كبيرة من الناخبين - ما يسمى "كتلة التصويت الأقوى في أميركا" ويوصف بأنه "أكبر مجموعة دينية منفردة بين الناخبين الجمهوريين لديهم القدرة على التأثير على أولويات الحزب" - وغالبًا ما تكون هذه المجموعة من الناخبين أحادية التفكير في أولويات التصويت الخاصة بها. وفي أوائل عام 2022، على سبيل المثال، حث هاجي مؤسس المنظمة أتباعه قائلًا: "صوّتوا للكتاب المقدس، صوتوا للكتاب المقدس، صوتوا للكتاب المقدس!".
وفي انتخابات عام 2020 في الولايات المتحدة، شكل المسيحيون الإنجيليون 28 في المئة من إجمالي الناخبين، حسبما ذكرت شبكة "سي إن إن"، وصوت ثلاثة أرباعهم لصالح ترامب. ورغم أن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس جاء جزئيًا نتيجة ضغط منظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل"، فإن ترامب فهم مسبقًا أن تلك الفئة من الناخبين قاعدة أساسية للحزب الجمهوري، ولعب على الحساسيات الإنجيلية عند قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم نقل السفارة إليها. ففي خطاب حملته الانتخابية عام 2020، كان ترامب صريحًا بشأن سبب قيامه بذلك، حيث قال: "لقد نقلنا عاصمة إسرائيل إلى القدس. وهذا من أجل الإنجيليين".
وأضاف: "كما تعلمون، إنه لأمر مدهش أن الإنجيليين متحمسون لذلك أكثر من اليهود"، إذ تجدر الإشارة إلى أن الناخبين اليهود يصوتون عادة بأغلبية ساحقة للحزب الديمقراطي، واعتبارًا من عام 2021، صنف 4 فقط من كل 10 يهود أمريكيين طريقة تعامل ترامب مع السياسة الأميركية الإسرائيلية على أنها "ممتازة" أو "جيدة".
ويتطلع اليوم العديد من الإنجيليين البيض إلى انتخابات عام 2024 على أمل أن يتولى ترامب مهامهم من جديد. وشهدت قمة المنظمة الأخيرة الكثير من الإدانة لضعف بايدن الملحوظ تجاه إيران بسبب رغبته في استعادة الاتفاق النووي لعام 2015. ومن جانبه، دعا هاجي إلى توجيه ضربة وقائية إلى إيران التي يقول إن لديها "حلمًا مجنونًا" بمحو إسرائيل من على الخريطة. ويقول هاجي أيضًا إن إيران تطمح إلى تصدير ثورتها الإسلامية إلى جميع أنحاء الشرق الأوسط وحول العالم. كما تعرضت الإدارة الأميركية لحملة انتقادات واسعة من الإنجيليين بسبب تأخرها وتباطؤها في إصدار حزمة المساعدات المالية والعسكرية إلى إسرائيل، والتي صدرت أخيرًا وبلغت قيمتها 26 مليار دولار.
لكن أيًا كان الرئيس الأميركي الذي سيشغل المكتب البيضوي في البيت الأبيض خلال السنوات الأربع القادمة، فإن التصريحات والإدلاءات الصريحة التي جاءت على لسان عدد من كبار الساسة الأميركيين الجمهوريين مؤخرًا تفيد بأنه لن يكون هناك تغيرات جذرية في التأطير اللاهوتي للعلاقة مع الدولة العبرية، إذ سأل الصحفي في موقع "ذا إنترسبت"، لي فانغ، مؤخرًا أعضاء ونساء الكونغرس عما إذا كان دينهم مهمًا لدعمهم لإسرائيل، وذلك في إطار الفيلم الوثائقي "الصلاة من أجل هرمجدون". وقال بيت سيشنز، عضو الكونغرس الجمهوري من تكساس: "إن هذا الأمر برمته يعتمد على إيمان خالقنا، ولكنه أيضًا إيمان شعب مختار".
وعندما سأل فانغ تيم بورشيت، عضو الكونغرس الجمهوري من ولاية تينيسي، عن الدعم الإنجيلي، قال الأخير: "إنهم يتبعون الكتاب المقدس، وما يقوله الكتاب المقدس عن إسرائيل: ’أولئك الذين يباركون إسرائيل سيكونون مباركين‘، فهم يأخذون الأمر حرفيًا، وأنا واحد من هؤلاء الناس".