القانون الدولي تحت ركام إبادة غزة

القانون الدولي تحت ركام إبادة غزة: العدالة التائهة

7 أكتوبر 2024

لم تكشف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة عن الوجه الوحشي لآلة القتل الصهيونية فقط، حتى وإن تعرّت بشكل غير مسبوق أمام العالم، لكنها كشفت أيضًا عن مأزق إنفاذ المواثيق والمعاهدات التي يوافق عليها المجتمع الدولي في ظل ضياع بوصلة العدالة الدولية. وقد باتت الحرب على غزة نموذجًا لأزمة القانون الدولي بمختلف فروعه من زاوية قصور آلياته عن تحقيق قيم سامية، قيل بعد الحرب العالمية الثانية إنها جامعة بين الشعوب دون استثناء: محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا.

وكان عنوان الأزمة بالخصوص هو ازدواجية المعايير، تحديدًا بين استدعاء خطاب القانون وتوظيف آليات الردع في الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، والتلكؤ حتى في استعمال عبارات الإدانة في الانتهاك الفادح لأبسط قواعد النزاع المسلح في حرب غزة من جهة أخرى. وبهذا المعنى، كانت غزة بوّابة تأكيد أن آليات العدالة الدولية خاضعة لحسابات المصالح والتوازن، بما يتخالف مع جوهر قيمة العدالة وهي نصرة الطرف المستضعف في مواجهة بطش القويّ.

إسرائيل: الوحش الذي لا يعرف حدودًا للدّم

لم يتردّد الكيان الصهيوني، خطابًا وممارسة، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، في تثبيت صورته ككيان مارق على القانون الإنساني الدولي دون أي ضابط، ولم يكن للذكرى حديث وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن محاربة "حيوانات بشرية"، أو تصريح وزير التراث المتطرّف عميحاي إلياهو عن إمكانية رمي قنبلة نووية على رؤوس سكان غزة، بل أشارا إلى الأرضية الحقيقية المؤسسة في العمق للقرار الصهيوني بارتكاب أشنع جرائم الحرب والإبادة ضد سكان غزة التي أودت بحياة ما يزيد عن خمسين ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود، مع تسجيل ما لا يقل عن 3654 مجزرة في ظرف عام واحد.

وكان بينًا، على غرار ما دأبت عليه الآلة العسكرية في حروب غزة السابقة، الإمعان في خرق مبدأ حماية المدنيين الذي يعدّ بندًا جوهريًا في بروتوكول جنيف وملحقاته. فلم تكتفي الآلة باستهداف المدنيين نساءً أو رجالًا أو أطفالًا، بل أمعنت في استهداف المقرات المدنية بما فيها تلك التي تتمتع بحماية خصوصية كالمستشفيات التي أخرجت إسرائيل العديد منها عن الخدمة بصفة قصدية بغاية منع تقديم العلاج للجرحى، وللإمعان في تأكيدها بأنه ما من مكان في غزة بمأمن من صواريخها وقذائفها. وربما يكفي سرد بعض الأرقام لتبيان حجم الجريمة، ومنها أن عدد الأطفال الذين قتلوا بقطاع غزة خلال ثلاثة أسابيع فقط تجاوز قتلى الأطفال سنويًا بمناطق الصراع على مستوى العالم منذ 2019.

بلغ التوحّش، تحت عيون العالم بمن فيهم الجيران العرب، منع إدخال المساعدات الإنسانية للمتضرّرين بما يخالف بالخصوص البروتوكول الإضافي الأول عام 1977 لاتفاقية جنيف، ما تسبب في موجة مجاعة في القطاع تركّزت بالخصوص في المناطق الشمالية. وما كان واضحًا هو اعتماد التجويع أسلوبًا حربيًا في إطار فرض عقوبة جماعية على الفلسطينيين، خاصةً مع قطع إمدادات الوقود والكهرباء والماء. وبلغت حالة العربدة حتى التهديد بقصف أي مساعدات تدخل للقطاع المحاصر منذ 17 عامًا.

وكان التهجير القسري للمدنيين، بما يمثله من جريمة ضد الإنسانية طبق لوائح المحكمة الجنائية الدولية، عنوانًا رئيسيًا في الجرائم الإسرائيلية عبر فرض تهجير سكان القطاع بل ودون تأمين حتى أي منطقة غير معنية بالتدخل العسكري، ما حوّل القطاع برمّته إلى ساحة حرب مفتوحة. وثبت استهداف الكيان في أكثر من مناسبة قافلات النازحين، خاصةً من شمال غزة إلى جنوبها. وفي خضمّ كل هذا السجل الإجرامي، لم تغب جرائم التعذيب بحق المدنيين ممّن تم اعتقالهم خلال الحرب، وكشفت الشهادات عن استعادة الكيان الصهيوني ودون مواربة لوجه وحشي مكشوف لا يختلف عما مارسته العصابات الصهيونية قبل قرن بحق العزّل.

هل غزة خارج مجال تغطية "العدالة الدولية"؟

لم يكن لدولة الكيان الصهيوني أن تمعن في جرائمها منذ 7 أكتوبر سواء جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة لو لم تكن تضمن غطاءً داخل المنتظم الأممي والهياكل الدولية يحول دون تتبعها عن جرائمها ومحاسبة الجناة. هو خروج عن القانون دون خشية من أي عقاب جدّي. ومثّلت الولايات المتحدة هنا الأب الحاضن لتصرّفات الابن الوحشي الطائش الذي لا يعير اهتمامًا لأي قواعد، على نحو جعل واشنطن، اليوم أكثر من أي وقت مضى، في موضع الشريك المباشر.

كان التصدير الرئيسي في الخطاب الصهيوني منذ 7 أكتوبر هو حق الدفاع عن النفس، ودون الدخول في تأطيره باعتباره دولة الكيان هي دولة احتلال، فهو بذاته ليس بطبيعته حقًا مؤسسًا أو مبرّرًا لارتكاب الجرائم، إذ إن تفعيله، طبق الميثاق الأممي، يفترض إعلام مجلس الأمن الذي يتخذ ما يستوجب من تدابير لحفظ الأمن والسلم الدوليين، وأن يكون الرد مشروعًا ومتناسبًا مع الهجوم. الأمر غير المتوفر البتة ذلك أن الخطاب الرسمي الإسرائيلي توجه منذ البداية نحو رد غير متكافئ في غياب غطاء أممي مقابل تجنّد الولايات المتحدة، في الوقت نفسه وفي العديد من المناسبات، لمنع إصدار قرار إلزامي من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار. وتعمّد الخطاب الدبلوماسي الداعم للكيان، في المقابل، تهميش حق تقرير المصير باعتباره حقًا جوهريًا للشعب الفلسطيني، وهو حق يستتبع الحق في المقاومة المشروعة في مواجهة الاحتلال، على نحو أن النزاع في غزة ليس نزاعًا بين دولة ما وجماعة مسلحة، بل هو نزاع بين دولة احتلال وشعب مُحتلّ.

وقد كانت لمبادرة جنوب إفريقيا برفع دعوى ضد الكيان في محكمة العدل الدولية من أجل ارتكاب الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، وما تبعه من دعوة الكيان لتطبيق تدابير مؤقتة لمنع أعمال الإبادة ومن ثمّ دعوته لوقف عملية رفح، الفرصة الكاشفة لتبيان حدود إنفاذ الآليات القضائية. الصورة ذاتها في المحكمة الجنائية الدولية التي طلب مدّعيها، بعد طول انتظار غير مبرّر، إصدار أوامر توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، إضافة لقادة من "حماس"، ولكن دون أن يصدر بعد أي أمر رسمي بالاعتقال. وقد كانت مجرّد الدعوة دون تنفيذها مناسبة لشنّ حملة سياسية وإعلامية ممنهجة ضد المحكمة، بلغت حدّ إعلان واشنطن استعدادها لشن عقوبات على المحكمة ذاتها، على نحو أكد انقلاب الأدوار والإمعان في حماية المجرمين.

وما العمل؟

كشف استنفاذ الآليات الدولية الممنوحة سواء القضائية عبر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية إضافة للآليات الأممية وبوّابتها الإقرارية عبر مجلس الأمن، أن مسار استحقاق العدالة معطوب عبر قدرة القوى الدولية الداعمة للكيان الصهيوني وفي مقدّمتها الولايات المتحدة على منع إنفاذ أي تدابير أو إجراءات قادرة على تحجيم ممارسة الجريمة وليس حتى على محاسبة الجناة. ولم يكن ذلك مثيرًا للغرابة ليس من زاوية ارتباط الآليات الدولية، من حيث عملها وتمويلها، بمراكز القوى السياسية في العالم، ولكن أيضًا بالنظر لسياق نشأة هذه الآليات والغاية منها، ضمن منتظم أممي تمييزي بطبيعته عبر منح دول حق امتياز في التصويت على حساب دول أخرى، بمعيار الانتصار إثر الحرب العالمية الثانية. هذا الخلل الجذري الذي ترّكزت الجهود لتقليصه في العقود الأخيرة يبقى، في نهاية المطاف، حجر الزاوية لخلل منظومة العدالة الدولية برمتها، التي تظل خاضعة لحسابات المصالح والتمويل والتأثير والتأثير المضاد. وبذلك تجلّت في حرب غزة حقيقة متفاقمة، في الأوساط الأكاديمية الغربية بوجه خاصّ، أن القانون الدولي في العمق هو أداة توظيفية لخدمة المصالح السياسية، على نحو يجعل تفسيره من جهة وإنفاذه من جهة أخرى، خاضع لمنطق القوّة السياسية. هذه الحقيقة كانت بادية ولكن تعرّت اليوم.

وبهذا المعنى، كانت حرب غزّة أيضًا فرصة لتصاعد الدعوات لفتح ورشة حول أزمة القانون الدولي أو على الأقل أزمة آلياته إن ما كانت الغاية عدالة مبناها محاسبة وإنصاف، وليس عدالة تمييزية على المقاس تحدّد المتهّم وما يجب اتخاذه ضده من قرارات، بحسب مكانته والمصالح المرتبطة به. وما إذا كانت الشكوك متصاعدة حول القدرة على وضع نظام عدالة دولية صارم وناجع، تظلّ المبادرات لإنفاذ ما توفر من آليات مفيدًا باعتباره يدفع أكثر فأكثر نحو كشف خلل النظام ويزيد في إحراج القوى المتواطئة دون إنفاذه. من هذه الزاوية دائمًا، تتبيّن حرب غزة بأنها محطة توقّف إجباري ليلامس الجميع الحقيقة.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

جنود من الدروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي

كيف نفهم خدمة الدروز والبدو في الجيش الإسرائيلي؟

انخرط الدروز والبدو الفلسطينيين في جيش دولة الاحتلال بسبب سياساتها الاستعمارية القائمة على تقسيم المجتمع الفلسطيني، واستغلال حاجة الأقليات/الجماعات الصغيرة للأمان والبقاء

هبة حمارشة

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني

المزيد من الكاتب

كريم مرزوقي

محام وباحث تونسي

الطلاق والفرد والقضاء.. جدلية مستمرة عبر الزمن

الطلاق أحد عوامل صناعة هشاشة وضع المرأة في البيئة العربية بوصفه ممارسة فردية وتعسفية تُهدر حقوق الأسرة وليس المطلقة فقط

أحياء بعد الشهادة في تونس.. عن قهر ضحايا داخلية بن علي

شهد عهد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ترهيبًا للمعارضين، وإهانة كرامتهم، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بهم