إن أول ما يلفت الانتباه في مرض السرطان هو أن معظم الأمثلة المتاحة عن طريقة تعامل الناس مع مرضاه، تعود إلى القرن التاسع عشر، لكن هذا لا يعني أنه مرض حديث. بيد أنه، مع ذلك، يُنظر إليه على أنه بالفعل مرض حديث ومُعاصر، ومردُّ ذلك إلى عدم وجود تاريخ طبي له مقارنةً بغيره من الأمراض من جهة، وحداثة استعاراته ومجازاته اللغوية من جهة أخرى (سيدهارتا موكرجي، "إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان"، ص 63). ولكنه، في الواقع، مرض ضارب في القدم، إذ تشير بعض اكتشافات أطباء باثولوجيا المتحجرات الذين وجدوا أورامًا سرطانية في مومياوات وعيّنات محنطة، إلى أنه واحدٌ من أقدم الأمراض إن لم يكن أقدمها على الإطلاق، نحو 2500 عام قبل الميلاد (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 70).
ما يجعل من السرطان مرضًا معاصرًا هو أنه كان في السابق، قبل القرن التاسع عشر وربما قبل ذلك بكثير، مرضًا صامتًا بين الأمراض الأخرى التي طغت عليه وصرفت النظر عنه بسبب انتشارها الواسع وما رافقها من ضجيج وصخب، مثل السل والكوليرا والجدري والطاعون وغيرها من الأمراض الأخرى التي لم تترك له فرصة ترك أثرٍ يمكن اقتفاؤه في الأدب الطبي (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 67).
يُعيد سيدهارتا موكرجي هذا الحضور الصامت للسرطان بين الأمراض الأخرى إلى قلة إصابة الناس به، ذلك أن معدّل حدوثه يزداد مع تقدّم العمر، ولم يكن الناس سابقًا يعيشون بما يكفي للإصابة به بسبب إصابتهم بأمراض أخرى قاتلة: "كان الرجال والنساء يُستنفدون طويلًا بأمراض مضنية كالسل والوذمة والكوليرا والجدري والجذام والطاعون والتهاب الرئة. وإذا كان السرطان موجودًا فلا بد أنه كان غارقًا في بحر هذه الأمراض الأكثر انتشارًا (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 71)، أي أنه لم يصبح شائعًا إلا بعد مقتل جميع القتلة الآخرين.
لذا، ربط الأطباء في القرن التاسع عشر بين الإصابة بالسرطان والتحضّر على اعتبار أن الحضارة أطالت فترة حياة الإنسان بما يكفي ليُصاب بالسرطان ويُماط اللثام عنه. هكذا، سينتقل السرطان من المرتبة السابعة في قائمة الأمراض المميتة في الولايات المتحدة عام 1900 الذي كان فيه السل السبب الأكثر شيوعًا للموت، إلى المرتبة الثانية خلف أمراض القلب في أوائل أربعينات القرن الفائت (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 72).
ليس ما سبق محاولة في كتابة تاريخ موجز لمرض السرطان، وإنما إشارة إلى أنه كان مرضًا صامتًا على امتداد عدة قرون وصولًا إلى منتصف القرن الفائت. ولكنه لم يكن خلال هذه الفترة، بين بداية القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك، وحتى أربعينات القرن العشرين، مرضًا صامتًا بسبب طغيان الأمراض الأخرى عليه فقط، بل لأن الناس أرادوا له أن يكون كذلك، مرضًا صامتًا بسبب اعتقادهم بأنه مرض يجلب الخزي والعار. فبسبب غياب تاريخ طبي للمرض، اعتمد الناس على فهمهم له وتعاملهم مع على استعارات ومجازات وأوهام شكّلت تاريخًا قائمًا بذاته للمرض، وكرّسته بوصفه مرضًا معيبًا يجب أن يظل صامتًا إلى درجة عدم التلفظ باسمه. والأهم أنها حدّدت، بشكلٍ أو بآخر، طريقة التعامل مع المصابين به.
مريض السرطان بوصفه مذنبًا ومُدانًا
في كتابها "المرض كاستعارة" (المدى، 2021/ ترجمة حسين الشوفي)، تكشف الكاتبة والروائية الأمريكية سوزان سونتاغ جانبًا من طريقة معاملة الناس لمرضى السرطان في القرن التاسع عشر. صحيح أنها لا تفعل ذلك بشكل مباشر، ولا تقدّم شرحًا مفصلًا حول هذا الأمر، لكنها تُحيط بمعظم الاستعارات والخرافات والأوهام التي أُحيط بها السرطان وضحاياه. وتلك الخرافات هي من كان يحدِّد طريقة التعامل معهم. ومع أنها متبدّلة يُعاد صياغتها على نحوٍ مستمر، لكنها تُجمع بشكلٍ أو بآخر على شيطنة المرض والمصابين به، أو إدانتهم في أفضل الأحوال.
تُعيد سونتاغ أحد أسباب شيوع الأوهام والخرافات والاستعارات المرتبطة بالسرطان إلى كونه مرضًا غير مفهوم يُعالج بوصفه أحجية، ولكونه في الأصل عسير العلاج (وهذا يُعيدنا إلى غياب تاريخ طبي وأدبي للمرض)، وهي صفاتٌ تثير الرعب والرهبة في نفوس المرضى والأصحّاء على حد سواء، وتجعل من مجرد اسم المرض كلمة قاتلة للمريض وعائلته. ومع أنها صفاتٌ تنطوي على جزم صريح باستحالة علاج المرض، لكنها تبقى أقل ما قيل عن السرطان تأثيرًا في نفوس مرضاه. فعلى الرغم من أنها تضعهم، مسبقًا، أمام حقيقة أن وفاتهم حتمية، لكنها – على الأقل – لا تنزع عنهم صفاتهم الإنسانية، أو تضعهم في موضع اتهام كما تفعل الأوهام والاستعارات الأخرى التي تشكّلت عن السرطان بسبب غموضه.
تفترض إحدى هذه الأوهام/الخرافات وجود علاقة بين المرض والشيطان بوصفه أصل الشرور، إذ وصف السرطان في مرحلةٍ ما بأنه حملٌ شيطاني، وكان يُقال إن مريض السرطان "حبلى بموته"، في إشارة إلى الورم الذي يحمله داخل جسده. واللافت أن هذه الخرافة ضاربة في القدم، إذ تقول سونتاغ في كتابها إن القديس جيروم الذي عاش في القرن الخامس، قبل 14 قرنًا من القرن التاسع عشر، قد اعتقد بأن هناك سرطانًا عندما كتب: "الشخص الذي له بطن منتفخ أو متورم هو حبلى، حامل بموته" (المرض كاستعارة، ص 16).
أول ما يستدعي الانتباه في عدِّ السرطان مرضًا شيطانيًا هو أن مريضه لم يكن يُعامل بوصفه ضحية وإنما مذنبًا، إذ كان يُنظر إلى مرضه على أنه نتاج فساده وانحلاله وانتهاكه لأحد المحرمات واقترابه من طريق الشيطان نفسه، ما يعني أن مرضه ليس سوى عقوبة على إثمٍ ما. ورغم أن هذا الوهم لم يستمر طويلًا، لكن مضمونه ظل حاضرًا حتى منتصف القرن العشرين، أي إدانة المريض وتحميله مسؤولية مرضه، ذلك أن جميع الأوهام والاستعارات المرتبطة بالمرض مبنية على هذا الاعتقاد. على سبيل المثال، عُدَّ السرطان في القرن التاسع عشر مرض التفسخ والانحلال الذي يُذلّ المريض ويجرّده من قدراته وسموّه الذاتي وتفوّقه (المرض كاستعارة، ص 19)، لا سيما حينما يهاجم أماكن وأعضاء حساسة في الجسم يُعتبر التصريح بها محرّمًا، إذ يُضاعف ذلك من شعور المريض بالخزي والعار.
وللدلالة على حجم العار الذي حُمِّل به السرطان، تقول سونتاغ إن الموت بمرض السل كان يُعد موتًا حماسيًا مثل الشعر الملحمي، على العكس من الموت بالسرطان الذي كان مرضًا مخزيًا للشعر لا يمكن تخيّل ارتباطه بعلم الجمال (المرض كاستعارة، ص 21). وبينما جرت معاملة مريض السل بوصفه مريضًا مثيرًا للشفقة، مثل المريض العقلي، كان مريض السرطان مذنبًا في نظر الجميع. ومع أن السل والسرطان متشابهان من حيث أنهما مرضان مشؤومان، لكن السل كان بعيدًا عن الشيطنة، ويُنظر إليه غالبًا على أنه مرض الشعراء، وقد كتب ثورو في عام 1852: "الموت والمرض أمران جميلان في أغلب الأحيان، كالحمّى المتوهجة التي بسببها السل" (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 64).
السرطان نتاج عاطفة الإنسان ومشاعره
أقامت هذه الأوهام والاستعارات التي تشكّلت عن السرطان، وشكّلت تاريخه ونظرة الناس إليه لقرون، روابط بينه وبين أشياء أخرى لا يبدو ربطه بها منطقيًا اليوم، مثل المشاعر والعواطف. إذ شاع في القرن التاسع عشر أن السرطان نتاج العاطفة التي تؤلم المكبوتين جنسيًا والمثبطين عاطفيًا (المرض كاستعارة، ص 24). وكان التذمر والتعب والإرهاق والحرمان والحياة المزدحمة بالمهام والالتزامات والتفكير الزائد والقلق واضطراب الحياة العامة، خلال العصر الفيكتوري، سببًا للإصابة بالسرطان (المرض كاستعارة، ص 54).
تُعيد سونتاغ هذه الأوهام التي تربط السرطان بكبت العواطف إلى وايلهلم رايخ الذي عرّف السرطان بأنه "المرض الذي ينتج عن الاستسلام للعواطف. إنه تقلّص الطاقة البيولوجية للجسم، والإقلاع عن الأمل" (المرض كاستعارة، ص 25). والمفارقة أن هذه الأوهام ظلت شائعة حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، بل واتخذت طابعًا علميًا أيضًا ولكن مع تبدّل الأسباب، إذ لم تعد المشاعر السابقة تسبب الإصابة بالسرطان، وإنما عدم الرضا والقلق والعزلة والوحدة والانشغال بالذات، وهي سمات القرن العشرين بحسب سونتاغ، ما يعني أن المرض الذي ارتبط سابقًا بالنشاط والقوة أصبح الآن مرتبطًا بالانكفاء والانسحاب وقلة الثقة بالنفس (المرض كاستعارة، ص 57)، ولم يُعد الشخص النشط هو المعرض للإصابة بالمرض، وإنما ذلك المكتئب والخامل عاطفيًا المنعزل عن الآخرين.
اللافت أن هذه الأوهام تحوّلت في القرن العشرين إلى نظرية تدعمها العديد من الأبحاث. وبغض النظر عما إذا كانت صحيحة أم لا، فإنها في كل الأحوال تحمِّل المريض مسؤولية مرضه، بل وتعتبره مذنبًا (المرض كاستعارة، ص 49). وترى سونتاغ أن "النظريات السيكولوجية المتعلقة بالمرض وسيلة قوية لإلقاء اللوم على المريض، وإن المرضى الذين يُقال لهم، بشكلٍ خالٍ من الفطنة والحذر، أنهم كانوا السبب في مرضهم، هم أيضًا، لهذا، يشعرون أنهم يستحقون المرض" (المرض كاستعارة، ص 59).
بيَّنت سونتاغ في كتابها أنه، وبموازاة التاريخ الطبي للسرطان، الضئيل على أية حال، هناك تاريخ طويل من الأفكار والمفاهيم العقابية عنه، وهي أفكار ومفاهيم لم تكتف بتصوير المرض على أنه مجرم وشيطاني، بل جعلت من المريض نفسه مُدانًا ومذنبًا لكونه مصابٌ بمرض مخزٍ يرتبط بالفساد والانحلال والتلوّث والشذوذ والضعف أكثر من أي شيء آخر. ولا شيء أكثر عقابًا، بحسب سونتاغ، من أن تُعطي المرض معنىً، وخاصةً إذا كان أخلاقيًا (المرض كاستعارة، ص 61).
لم تشكّل هذه الأوهام والمفاهيم تاريخًا مخيفًا للمرض فقط، بل جعلت منه استعارة يجري استخدامها في مجالات/سياقات مختلفة على نطاق واسع، وغالبًا ما تكون في هذا السياق قائمة على العنف والشدة أو تدعو إلى ممارستهما ضد الآخر، ذلك أن استعمال "الأمراض القاتلة فقط من أجل الاستعارات المجازية في السياسة يُعطي هذه الاستعارات طبيعة حادة أكثر. والآن فإن تشبيه الحدث السياسي أو الوضع السياسي بالمرض، معناه أن نلصق تهمةً ما بهذا الحدث، وأن نقوم بالعقاب" (المرض كاستعارة، ص 83 - 84).
ولذلك شبّه النازيون اليهود في أوروبا بـ"السرطان" الذي يجب استئصاله، ووصف ضابط مع القوات المسيحية اليمينية اللبنانية مخيم تل الزعتر، أثناء محاصرته في آب/أغسطس عام 1976، بأنه "سرطان في الجسم اللبناني" (المرض كاستعارة، ص 85)، ما يعني أن استخدام مرض السرطان كاستعارة ينطوي على تحريض واضح وصريح على ممارسة العنف.
الداء الذي يتهامس الناس حوله
مع بداية القرن العشرين، لم يعد السرطان مرضًا صامتًا من حيث حضوره في قائمة الأمراض المميتة، لكنه ظل صامتًا من حيث عدم رغبة الناس في الحديث عنه ولفظ اسمه. ورغم أن عملية نسج الأوهام عنه قد توقفت، لكن الأوهام السابقة والمعيبة التي شكّلتها عنه ظلت حاضرة تحمِّل المريض مسؤولية مرضه بما هو مرض مخزٍ ومعيب.
والمعاناة التي تضيفه سمعة المرض إلى معاناة المصابين به، هو ما دفع سونتاغ إلى كتابة كتابها "المرض كاستعارة". فأثناء تلقيها العلاج في عدة مستشفيات في الولايات المتحدة وفرنسا، أبدى العديد من زملائها المرضى "اشمئزازهم وتقززهم وشعورهم بالعار من مرضهم (...) كان يُنظر إلى السرطان بتقزز لا عقلاني على أنه تصغير وتحقير للذات" (المرض كاستعارة، ص 97).
في هذه المرحلة، بين مطلع ومنتصف القرن العشرين، كان السرطان حاضرًا بوصفه الداء الذي يتهامس الناس حوله دون أن يتحدث عنه أحد علنًا. وأورد سيدهارتا موكرجي في كتابه "إمبراطور المآسي" مثالًا صادمًا على عدم رغبة الناس، ومنهم النخبة، حتى في ذكر اسم المرض. يقول: "في بداية خمسينات القرن، اتصلت فاني روزنو، ناجية من سرطان الثدي وناشطة ضد السرطان، بصحيفة نيويورك تايمز طالبةً نشر إعلانٍ عن جماعةٍ لدعم النساء المصابات بسرطان الثدي، فتم تحويلها إلى محرر الشؤون الاجتماعية في الصحيفة بشكل مثير للاستغراب، وعندما طلبت منه نشر إعلانها أجابها بعد فترة صمت طويلة: (أعتذر منك سيدة روزنو، لكن الصحيفة لا تستطيع نشر كلمة ثدي أو كلمة سرطان على صفحاتها؛ لعل بإمكانك القول إنه سيكون هناك لقاءٌ حول أمراض جدار الصدر). أغلقت روزنو سماعة الهاتف وهي تشعر بالاشمئزاز" (إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان، ص 50).
ومع أن نظرة الناس إلى السرطان بدأت تتغيّر في النصف الثاني من القرن الفائت، حيث بدأت الأوهام والخرافات التي تحمّل المريض مسؤولية مرضه وتتعامل معه بوصفه مذنبًا يستحق العقاب تتراجع، لكن الرغبة في تجنّب الحديث عنه واعتباره مرضًا قذرًا مشؤومًا ظلت حاضرة. بل إنه كان من الممكن خلال هذه الفترة أن تشكّل الإصابة بالسرطان فضيحة تعرّض علاقات المريض العاطفية والاجتماعية والمهنية للخطر بحسب سونتاغ، التي تُضيف سببًا آخر لتجنّب الحديث عن السرطان خلال هذه الفترة، وهو رفض الموت ووهم الخلود.
من إنسان مريض إلى حكاية
تُعطي الأوهام والخرافات السابقة صورة شبه شاملة عن الطريقة التي عومِل بها مرضى السرطان تاريخيًا بل وتفسِّر أيضًا، إلى حدٍ ما، أسباب تجنّب الحديث عن السرطان وذكر اسمه، اليوم، في مجتمعات مختلفة جرى استبدال اسمه فيها: "هذاك المرض اللهم عافينا".
واللافت أن مريض السرطان يتحوّل في هذه المجتمعات من إنسان إلى حكاية، ذلك أن المرض يدفع الناس إلى إعادة بناء سيرة المريض بل وأحيانًا تأليف سيرة جديدة أساسها الوصم. وهذا ما كان يحدث في العصور السابقة، حيث كانت الأوهام والخرافات المرتبطة بالمرض تُعيد تعريف المريض واللعب بسيرته، بوصفه مذنبًا، حتى وفاته.