يعيد ما يجري في لبنان سيناريو حرب تموز/يوليو 2006، ويدفع المنطقة نحو حافة حرب شاملة سوف تزيد من قتامة المشهد الذي بلغ أقصاه في حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. فبعد نحو عام على فتح "حزب الله" جبهة جنوب لبنان لإسناد قطاع غزة، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدأت إسرائيل قبل يوم أمس الإثنين هجومًا واسعًا ضد لبنان لا يزال مستمرًا حتى اليوم، حيث قصفت طائراتها الحربية عشرات القرى والبلدات في جنوب لبنان والبقاع بعضها يُقصف لأول مرة منذ بداية المواجهات بين الطرفين.
وأدى القصف، غير المسبوق منذ حرب تموز/يوليو 2006، إلى سقوط مئات الشهداء وإصابة مئات آخرين، إضافةً إلى حركة نزوح ضخمة، حيث نزح الآلاف من الجنوب والبقاع باتجاه محافظات بيروت وجبل لبنان والشمال، وسط توقعات بزيادة أعداد النازحين خلال الأيام القادمة.يأتي هذا الهجوم بعد سلسلة أحداث متتالية عبّرت عن رغبة إسرائيل في نقل المواجهة مع "حزب الله" إلى مستويات جديدة أكثر عنفًا، وكان آخرها الغارة التي استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت في 20 أيلول/سبتمبر الجاري، وأسفرت عن اغتيال 16 قياديًا وعضوًا في صفوف الحزب، من بينهم قائد وحدة "الرضوان" إبراهيم عقيل.
وأعلنت إسرائيل، في 16 أيلول/سبتمبر الجاري، توسيع أهدافها المعلنة من الحرب على قطاع غزة لتشمل إعادة المستوطنين الذين أُجلوا من شمال الأراضي المحتلة نتيجة هجمات "حزب الله"، التي أكد أمينه العام، حسن نصر الله، أنها لن تتوقف قبل وقف الحرب على غزة، وهو ما تعمل إسرائيل على تغييره من خلال هجومها الواسع على لبنان الذي قد يتحول إلى حرب شاملة بينهما شبيهة بحرب تموز/يوليو 2006.
جنوب لبنان.. جبهة استنزاف محدودة
في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد يوم واحد فقط على عملية "طوفان الأقصى" وبداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أعلن "حزب الله" فتح جبهة جنوب لبنان لإسناد فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة من خلال شن هجمات محدودة تستنزف إسرائيل لكن دون فتح مواجهة شاملة معها.وخلال الفترة بين 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبداية آب/أغسطس 2024، أطلق "حزب الله" 6700 قذيفة وصاروخ باتجاه شمال إسرائيل بمعدّل 20 قذيفة يوميًا. بينما قامت إسرائيل بقصف قرى وبلدات الشريط الحدودي مع لبنان بالقذائف المدفعية والغارات الجوية بشكل مكثف، ما أدى إلى تهجير معظم سكان هذه المنطقة، تزامنًا مع إخلاء إسرائيل المستوطنات الحدودية من سكانها البالغ عددهم 80 ألفمستوطن.
ألحقت هجمات "حزب الله" خسائر مادية وبشرية فادحة بالجيش الإسرائيلي، وأوجدت واقعًا جديدًا على الجبهة الشمالية لناحية عدم قدرة المستوطنين المهجّرين على العودة إلى مستوطناتهم، ما مثّل تحديًا كبيرًا لحكومة بنيامين نتنياهو. وعلى الرغم من ذلك، تجنّبت إسرائيل الانجرار إلى حرب شاملة مع الحزب لأسباب عديدة، أهمها الحرب على غزة حيث زج الجيش الإسرائيلي بـ5 فرق قتالية من أصل 7 يمتلكها لتحقيق الهدف المعلن من الحرب على القطاع: القضاء على حركة "حماس"، وتزايد قوة "حزب الله" كمًا ونوعًا وامتلاكه أسلحة قادرة على إلحاق أضرار بالغة بالعمق الإسرائيلي، من جهة أخرى.
لذلك، اكتفت إسرائيل خلال الأشهر الأولى من المواجهة بقصف القرى والبلدات الحدودية جنوب لبنان، واستهداف عناصر "حزب الله" وأهداف تابعة له. بينما ركّز الحزب على قصف أهداف ومواقع عسكرية إسرائيلية بالقذائف المدفعية والصاروخية، ما يعني أن الاشتباك كان يجري وفق قواعد جديدة تتجنب الحرب المفتوحة.
المراحل الأولى للتصعيد بين الطرفين
لكن بعد نحو 3 أشهر على بدء حرب الاستنزاف، بدأت إسرائيل برفع حدة المواجهة مع "حزب الله" شيئًا فشيئًا، حيث أقدمت في 2 كانون الثاني/يناير 2024 على اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبعد أقل من أسبوع، يوم 8 كانون الثاني/يناير الفائت، تلقى "حزب الله" ضربة موجعة باغتيال وسام الطويل، أحد أبرز قادته العسكريين وواحد من القياديين الكبار لوحدة "الرضوان"، قوات النخبة بالحزب. وفي 11 حزيران/يونيو الفائت، اغتالت إسرائيل قائد وحدة "نصر" طالب سامي عبد الله المٌلقّب بـ"أبو طالب"، الذي قاد العمليات العسكرية ضد مواقع ومنشآت الجيش الإسرائيلي في الجزء الشرقي من الحدود اللبنانية الفلسطينية بعد 8 أكتوبر. وأعقبت إسرائيل اغتيال أبو طالب باغتيال قيادي عسكري آخر بارز في "حزب الله" هو محمد نعمة ناصر المُلقّب بـ"أبو نعمة"، يوم 3 تموز/يوليو الفائت، قائد وحدة "عزيز" في الحزب، وأحد قادة عملياته العسكرية في جنوب لبنان بعد عملية "طوفان الأقصى".
وواصلت إسرائيل تصعيدها ضد "حزب الله" باغتيالها فؤاد شكر في 30 تموز/يوليو الفائت إثر غارة جوية استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت. وشكر هو أبرز القادة العسكريين في الحزب ورئيس غرفة عملياته. وقد وصفته إسرائيل بأنه القائد الفعلي للجناح العسكري للحزب، بينما قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بأنه مستشار الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، لـ"تخطيط وتوجيه العمليات في زمن الحرب"، وقائد عمليات الحزب في جنوب لبنان منذ بداية المواجهات بين الطرفين.
وشهدت الفترة الممتدة ما بين حزيران/يونيو وصولًا إلى منتصف آب/أغسطس تصاعدًا حادًا في وتيرة المواجهات بين إسرائيل و"حزب الله" نتيجة سلسلة الاغتيالات الأخيرة، إضافةً إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، في طهران بعد يوم واحد فقط على اغتيال شكر، 31 تموز/يوليو الفائت. وبينما تصاعد الحديث خلال تلك المرحلة عن اقتراب المواجهة الشاملة بين الطرفين، خاصةً في ظل ترقّب رد "حزب الله" على اغتيال شكر، تكثفت في المقابل الجهود الدبلوماسية لمنع توسع الاشتباك والدخول في حرب مفتوحة، حيث أوفدت الإدارة الأميركية مبعوثها إلى لبنان، آموس هوكشتاين، إلى بيروت وتل أبيب عدة مرات بهدف التهدئة وتجنّب خيار الحرب الشاملة.
وبردِّه على اغتيال فؤاد شكر بقصفه شمال إسرائيل في 25 آب/أغسطس الفائت، أكد "حزب الله" مجددًا أنه لا ينوي خوض حرب شاملة مع إسرائيل، إذ لم يتجاوز الرد قواعد الاشتباك المعمول بها منذ 8 أكتوبر، على الأقل لناحية عدم استهداف المناطق المدنية. لكنه، في المقابل، فتح الباب أمام مزيد من التصعيد الإسرائيلي ضد الحزب بلغ ذروته خلال الأيام القليلة الماضية، حيث تلقى عدة ضربات موجهة عبّرت عن رغبة إسرائيل بالتصعيد من جهة، وبأنها تفرغت للتعامل مع جبهة لبنان وتهديداتها، بحسب المسؤولين الإسرائيليين، من جهة أخرى.
على شفا حرب شاملة جديدة
منذ منتصف أيلول/سبتمبر الجاري، بدا واضحًا أن إسرائيل تدفع نحو حرب شاملة مع "حزب الله" شبيهة بتلك التي وقعت بينهما في تموز/يوليو 2006. ففي 16 أيلول/سبتمبر، وسّعت إسرائيل أهدافها المعلنة من الحرب على قطاع غزة لتشمل إعادة المستوطنين الذين أُجلوا من شمال الأراضي المحتلة نتيجة هجمات الحزب، وهو ما لن يتحقق دون عملية عسكرية بعد رفض "حزب الله" فك ارتباط جبهة جنوب لبنان بجبهة غزة.
وشهد يوم 17 سبتمبر موجة تفجيرات، وقعت في وقت واحد تقريبًا، استهدفت أجهزة الـ"بيجر" التي يستخدمها عناصر "حزب الله" في مناطق لبنانية مختلفة، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء وإصابة الآلاف. واعتُبرت الحادثة التي لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها، بينما أكدت مصادر أمنية وإعلامية إسرائيلية بأن الجيش الإسرائيلي والموساد يقفان وراءها؛ أكبر خرق أمني بالنسبة للحزب منذ تأسيسه مطلع ثمانينيات القرن الفائت، خاصةً أنه لجأ لاستخدام هذا النوع من أجهزة النداء كبديل عن الهواتف المحمولة نتيجة اختراق إسرائيل لها.
وفي اليوم التالي، 18 سبتمبر، شهدت عدة مناطق لبنانية موجة تفجيرات ثانية استهدفت هذه المرة أجهزة اتصال لاسلكية يستخدمها عناصر وقيادات ميدانية في "حزب الله". وبلغت حصيلة ضحايا هاتين الحادثتين أكثر من 39 شهيدًا و2931 مصابًا بحسب وزارة الصحة اللبنانية.
وبحسب أغلب التحليلات، بدا أن الهدف من هاتين العمليتين الضغط على "حزب الله" لفك ارتباط جبهة جنوب لبنان بجبهة غزة ودفعه نحو تسوية معينة تضمن عودة سكان شمال إسرائيل إلى مستوطناتهم. لكن الحزب رفض، على لسان أمينه العام حسن نصر الله، فك الارتباط بين الجبهتين، قبل أن يتسارع التصعيد ضد لبنان باستهداف اجتماع لقيادات في الحزب بالضاحية الجنوبية لبيروت في 20 أيلول/سبتمبر الجاري. أسفر الاستهداف عن اغتيال 16 عنصرًا في "حزب الله" بينهم قياديان بارزان هما إبراهيم عقيل، قائد وحدة "الرضوان" والعمليات الخاصة في الحزب، وأحد أعضاء مجلس الجهاد المسؤول عن العمل العسكري؛ وأحمد محمود وهبي، مدرب وحدة "الرضوان" التي تولى قيادتها حتى مطلع 2024 بحسب "حزب الله".
وجاء قصف الضاحية الجنوبية بعد يوم على توعد حسن نصر الله بالرد على تفجيرات الـ"بيجر" والأجهزة اللاسلكية واضعًا "حزب الله" أمام اختبار صعب لناحية طبيعة الرد الذي قد يفتح المواجهة الشاملة مع "إسرائيل"، أو يدفعها لمزيد من التصعيد ضد لبنان، وهو ما يحدث الآن حيث بدأت إسرائيل قبل يوم أمس الاثنين، 23 من الجاري، عدوانًا دمويًا موسعًا شمل مناطق بعيدة عن الحدود تُقصف لأول مرة، وذلك تحت عنوان تغيير الوضع الأمني في الجبهة الشمالية، وإعادة سكان مستوطنات الشمال إلى بيوتهم. وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في 18 سبتمبر، بدء "مرحلة جديدة من الحرب" مع "حزب الله"، فيما أكد اللواء أوري غورين، قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال، أن المهمة في الشمال واضحة وهي تغيير الوضع الأمني. وجاءت تصريحات غورين وغالانت في وقت نقل فيه جيش الاحتلال الفرقة 98، التي تضم وحدات مشاة مظلية ومدفعية وقوات كوماندوز النخبة، إلى الشمال.
وإلى جانب القصف المكثّف، نفذ الجيش الإسرائيلي محاولتي اغتيال وقعت الأولى في منطقة بئر العبد يوم الإثنين الفائت، واستهدفت قائد الجبهة الجنوبية في "حزب الله" علي كركي، دون أن تنجح في تحقيق هدفها. بينما وقعت الثانية يوم أمس الثلاثاء في منطقة الغبيري، واستهدفت قائد المنظومة الصاروخية في الحزب إبراهيم محمد قبيسي، الذي نعاه "حزب الله". وبينما تكثّف إسرائيل من قصفها على لبنان، وعلى الرغم من الضربات الصاروخية التي يوجهها "حزب الله" يوميًا إلى شمال إسرائيل، والتي تجاوز بعضها خط المواجهة نحو تل أبيب ووسط الضفة الغربية، وهو أبعد مدى يصل إليه الحزب منذ بداية صراعه مع إسرائيل؛ انشغل كثيرون بالتساؤل عن أسباب عدم استخدام الحزب لكل قدراته العسكرية حتى الآن.
وتذهب غالبية الإجابات إلى أن "حزب الله" لا يريد خوض حرب شاملة مع إسرائيل لسببين، الأول يرتبط بالواقع اللبناني والانقسام السياسي ومعارضة فئات واسعة للحرب، والثاني أن الحرب مع إسرائيل لن تكون معها فقط وإنما مع الدول الغربية الداعمة لها، وهو ما يراه البعض فخًا يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى جر الحزب إليه.
وتذهب آراء أخرى إلى القول بأن "حزب الله" يفضّل تلقي الضربات الإسرائيلية، رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه ماديًا وبشريًا، على جر لبنان إلى حرب مفتوحة لأنه يدرك بأن الخروج عن قواعد الاشتباك المرسومة من شأنه أن يدفع بإسرائيل إلى رد كارثي في الداخل اللبناني. ويتوقع البعض أن يصعّد الحزب من هجماته خلال الأيام القادمة بعد تحرره من إحدى أوراق الضغط الإسرائيلية المتمثلة في المدنيين الذين نزحوا من الجنوب خلال اليومين الماضيين، ما يمنح الحزب أريحية في التحرك على الجبهة.
تقول إسرائيل إن الهدف من عمليتها العسكرية في لبنان هو إعادة السكان إلى المستوطنات الشمالية وإجبار "حزب الله" على الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني، وفك ارتباط جبهة جنوب لبنان بجبهة غزة، وهو ما بعيد المنال في ظل تمسك الحزب بموقفه. ولذلك تذهب بعض التحليلات إلى أن إسرائيل قد تشن عملية برية جنوب لبنان لتحقيق أهدافها، وهو ما توعد به رئيس حزب "معسكر الدولة" الإسرائيلي المعارض، بيني غانتس، الذي قال أمس الثلاثاء إن إسرائيل ستنفذ عملية برية إن لم يتوقف "حزب الله" عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وسط تساؤلات عن قدرة جيش الاحتلال على تنفيذ مثل هذه العملية بعد نحو عام من الحرب في غزة.
ولا تشير التصريحات السياسية، العالمية والإقليمية، إلى وجود مساعٍ دبلوماسية حقيقية لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، خاصةً من قِبل الولايات المتحدة التي تتخذ موقفًا داعمًا لإسرائيل رغم التصريحات التي تدعو إلى التهدئة، وآخرها خطاب الرئيس جو بايدن في الأمم المتحدة الذي قال فيه إن الحرب الشاملة ليست في مصلحة أي طرف، وإن الحل الدبلوماسي لا يزال ممكنًا على حد قوله.
أما الموقف الإيراني، فلا يزال بعيدًا عن التصعيد ضد إسرائيل وسط حديث عن أن طهران تسعى في المرحلة الحالية إلى فتح صفحة جديدة مع الغرب، خاصةً بعد تصريحات الرئيس مسعود بزشكيان الأخيرة بشأن استعداد بلاده لاستئناف المفاوضات النووية مع الغرب.
احتمالات توسع الصراع قائمة، مع صعوبة في التنبؤ بمدى قدرة الأطراف المعنية على ضبط الموقف. ومع غياب الحلول الدبلوماسية الفعالة، يبقى الوضع مفتوحًا على كل السيناريوهات، بما فيها الحرب الشاملة.