"ما أعجب شأن القلم! يشرب ظلمة ويلفظ نورًا"
يعود هذا الاقتباس لابن برد الأكبر (أبو حفص أحمد بن برد الأكبر الأندلسي) والذي سطّره بحدود القرن العاشر ميلادي، وما زال ابن برد يقرأه علينا في القرن الواحد والعشرين خالقًا نوعًا من التواصل فيما بيننا رغم الفرق الزمني الهائل بين تلك الأيام وهذه. لكن الاقتباس ما كان ليصلنا لولا اختراعات كثيرة كالكتابة والورق والقلم والحبر وغيرها.
ثمّة اختراعات رائعة تعوّدنا عليها حتى ظننا أنها رافقتنا طوال حياتنا، أو أنها انوجدت لحظة تواجد الحياة ذاتها، لكن هذا الاعتقاد ليس صحيحًا.
دعونا نبحر اليوم في سيرة "القلم"، نحاول تلّمس بداية هذا الاختراع، وتتبع عمليات التطوير التي لحقت به منذ ما قبل التاريخ، وصولًا إلى عصرنا الحالي.
تتباين الآراء حول تعريف القلم، فمنهم من يعتبر أنه تم اختراعه في العصر الحجري، حيث إن الأداة المغمّسة بالأصباغ والدماء والتي تمّ استخدامها للرسم على جدران الكهوف هي نوع بسيط من القلم، ويدخل ضمن هذا التعريف القصب والريش والعظام التي تترك أي علامة على الأسطح المختلفة كالجدران والفخار والألواح الحجرية والشمع.
بينما ثمّة رأي مضاد لهذا التعريف يعتبر أن القلم هو أداة للكتابة أو الرسم بالحبر، وبذلك يبدأ تاريخ القلم مع اختراع النوع الأوّلي للحبر في مصر القديمة.
نميل في هذا المقال الى الآخذ بالرأي الأوّل ونعتبر أن القلم هو الأداة التي سجّلت تاريخ هذه البشرية رسمًا وكتابةً سواء أكانت قصبًا أو عظامًا، باستخدام الحبر أو غيره، وذلك لسبب بسيط وهو أن هذه الأداة قد تم استخدامها في سبيل التدوين والتعبير، وما زالت تخاطبنا حتى يومنا هذا، مثلما نقوم نحن اليوم بتدوين حاضرنا الذي سيصبح جزءًا من تاريخ البشرية في مستقبلٍ آتٍ.
لا شكّ أن اختراع القلم كان أحد الأسباب الجوهرية في وجود الحضارة، لأنه استطاع أن يساعد على تدوين المعرفة والعلم والأساطير ومراكمة التجربة البشرية ونقلها عبر الزمن دون الخوف من ضياعها في الذاكرة البشرية المحدودة.
تعود الرسوم الأولى على جدران الكهوف إلى ما يقارب الأربعين ألف سنة، وقد تم اكتشافها في مناطق متعددة حول العالم أبرزها كهف بيتاكير في إندونيسيا، كهف لاسكو في فرنسا، كهف السباحين في مصر، كهف ألتيمرا في اسبانيا، كهف دي لاس مانوس في الأرجنتين وغيرها الكثير. وقد كانت تنفّذ هذه الرسوم بالأصابع او بأدوات بدائية تشكّل سلف القلم.
تمّ الانتقال من الرسم بالدماء والأصباغ الطبيعية على جدران الكهوف إلى اختراع أنواع مختلفة من الكتابة، حيث يفترض علماء الآثار أن أقدم أشكال الكتابة هي الكتابة المسمارية التي تعود الى الحضارة السومرية قبل 5000 عام من الميلاد في وادي الرافدين، وقد أتى اختراع هذه الكتابة استجابةً لفيض المزروعات وبدء التجارة وتسجيل أجور العمال، وتم تدوين ذلك على ألواح من الطين أو الشمع باستخدام أدوات من القصب، الذي لا يلتصق بالطين خلال عملية الحفر، او العظام المدبّبة.
أخذ المصريون القدماء مبدأ القلم من السومريين، واستخدموا القصب لنحت الكتابة الهيروغليفية على ألواح طينية في البداية ثم قاموا حوالي الألف الثالث قبل الميلاد بأول عملية تطوير باختراع الحبر وورق البردي مما أدّى الى اختراع قلم مختلف من القصب، بحيث يكون أحد طرفيه مشحوذًا برأس مسطّح يُعمل على شقّه في الوسط ليسمح هذا الشقّ باحتضان بعض الحبر الذي يمكّن من الرسم على ورق البردي. كان حفر هذا القلم يحتاج الى مهارة عالية بقيت حيّة حتى عصورنا الحالية في جينات الحرفيين المصريين.
ظلّ استخدام أقلام القصب شائعًا ومنتشرًا على نطاق واسع حتى العصور الوسطى، إلى أن تمّ اختراع قلم الريشة المأخوذ من ريش الإوز أو البجع في القرن السادس الميلادي في إشبيلية (إسبانيا اليوم).
يُجفف الريش للتخلص من أي زيوت فيه قد تؤثر على الحبر، ثم تُقص نهايته لصنع رأس الريشة. هذا التطوير كان ثوريًا في حينه حيث أصبحت الكتابة أسرع وأسلس، وسمح طرف الريشة الدقيق بكتابة حروف أصغر بدقّة عالية، كما سمح عمود الريشة المجوّف باختزان كمية أكبر من الحبر. كان قلم الريشة أكثر توافقًا وملاءمةً مع جلود الحيوانات وأوراق البرشمان، وقد تم استخدامه لتصميم أعمال فنّية وحفظ سجلات تاريخية ومراسلات يومية، وكان لدى رهبان العصور الوسطى الذين قاموا بنسخ الكتاب المقدّس مجموعة من الريش تتميّز برؤوس مختلفة من النقطة الدقيقة إلى النقطة الواسعة.
ورد في أحد النصوص أنه بين عامي 953 و 975 تمّ تصميم نموذج متطور للقلم، حين طالب المعزّ لدين الله الفاطمي بأداة للكتابة تمنع الحبر من الوصول الى يديه وملابسه عند الكتابة. وقد ورد خبر ذلك القلم ضمن المؤلف الجامع "المجالس والمسايرات" للقاضي النعمان بن محمد ونصّه:
"قال المعزّ لدين الله: نريد أن نعمل قلمًا يُكتب به بلا استمداد من دواة، يكون مداده من داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به فأمدّه وكتب بذلك ما شاء، ومتى شاء تركه، فارتفع المداد، وكان القلم ناشفًا منه، يجعله الكاتب في كمّه أو حيث شاء فلا يؤثّر فيه ولا يرشح شيء من المداد عنه، ولا يكون ذلك إلاّ عندما يبتغي منه ويراد الكتابة به، فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنّا سُبقنا إليها، ودليلًا على حكمة بالغة لمن تأمّلها وعرف وجه المعنى فيها. فقلت: ويكون هذا يا مولانا؟ قال: يكون إن شاء الله. فما مرّ بعد ذلك إلاّ أيّام قلائل حتّى جاء الصانع، الذي وصف له الصنعة، به معمولًا من ذهب، فأودعه المِداد وكتب به فكتب، وزاد شيئًا من المداد على مقدار الحاجة. فأمر بإصلاح شيء منه، فأصلحه وجاء به فإذا هو قلم يُقلب في اليد ويميل إلى كلّ ناحية فلا يبدو منه شيء من المداد. فإذا أخذه الكاتب وكتب به كتب أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثمّ رفعه عن الكتاب أمسك المِداد. فرأيت صنعة عجيبة لم أكن أظنّ أنّي أرى مثلها، وتبيّن لي فيه مثَلٌ حسن في أنّه لا يسمح بما عنده إلاّ عند طلب ذاك منه، وفيما يعود بالنفع ممّا جُعِلَ سببًا له، لا يجود لغير مبتغ ولا يُخرج ما فيه إلاّ لمن يجب إخراجُ ذلك له لمن يحب، ولا يخرِج منه ما يضرّ فيلطخ يد من يمسكه أو ثوبه أو ما لصق به، فهو نفع ولا ضرر، وجواد لمن سأل، وممسك عمن لم يسأل، ومستغن بما فيه عن غيره أن يستمد منه".
بناءً على هذا النصّ يكون المعزّ قد سبق لويس ووترمان بحوالي ألف سنة في اختراع قلم الحبر السائل الذي يحمل خزّانه بداخله، لكننا للأسف لا نملك معلومات أكثر تفصيلًا عن هذا الحدث، أو عن مآلات هذا القلم واستعمالاته أو نسخة منه. كما وردت لاحقًا إشارات عن قلم معدني مصنوع من الفضة في مذكرات صموئيل بيبي عام 1663.
ساد قلم الريشة اثنا عشر قرنًا ولم يتنازل عن مكانه إلّا مع اختراع القلم ذي السنّ الفولاذية منتصفَ القرن الثامن عشر. لم يحقق القلم الجديد شعبية واسعة في بدايته حيث عابه تناثر الحبر، لكنّه بدأ بالتحسن عام 1792 عندما قام د. بيري بعمل فتحة طولية في طرف القلم، مما ساعد على تحسين جودة الكتابة.
في العام 1795، اختُرع قلم الرصاص على يد العالم نيكولاس جاك كونتي باستعمال مادة الجرافيت التي تمّ اكتشافها في بافاريا بداية القرن الخامس عشر. ازدهرت صناعة أقلام الرصاص وتم افتتاح أول مصنع عام 1832 في إنجلترا.
في العام 1825، بدأ جون ميتشيل في برمنغهام- إنجلترا بالتصنيع الآلي للأقلام ذات السن المعدنية. كان القلم الجديد أكثر متانة من الريشة وأطول عمرًا رغم محافظته على الطريقة الكلاسيكية في التغميس بالمحبرة، تحسنّت جودة القلم ذي السن المعدنية بمرور الوقت وأصبح اداة الكتابة الأكثر شيوعًا، وحل مكان الريشة مع نهاية القرن التاسع عشر.
التغميس بالمحبرة كان الدافع الرئيسي للتطوير اللاحق، بحيث اخترع المخترع الروماني بتراش بوينارا قلم الحبر الذي يحمل الحبر بداخله ويمرّ عبر السنّ عندما يلامس الورق. كان هذا الاختراع تعيسًا في بدايته حيث إن الحبر كان يتجلّط وعملية تدفقه لم تكن منتظمًة والقلم ذاته يحتاج إلى اعادة تعبئة بشكل كثيف.
انتظر الناس ما يقارب الستين عامًا، إلى أن قام وكيل التأمين في نيويورك لويس إيدسون واترمان بتطوير قلم حبر ثلاثي القنوات، يضمن التدفق السلس للحبر عند الكتابة مما سهّل ولادة قلم الحبر عام 1884.
في العام 1889، ساهم جورج باركر في تحسين قلم الحبر بشكل كبير، وأصدرت شركته عام 1892 أقلامًا تحتوي على تغذية منحنية إلى جانب الأسطوانة تمنع جفاف الحبر، أو انسكابه العشوائي على الورق.
في العام 1888، حاز مخترع أمريكي يدعى جون ج. لاود على براءة اختراع لآلية كروية فولاذية مثبّتة في رأس القلم، وهذا الاختراع كان بهدف الكتابة على أسطح أخرى غير الورق.
هذا التطوير لم يكن مثاليًا إلى أن قام صحفي مجري يدعى لازلو بيرو في ثلاثينيات القرن العشرين بإستبدال الحبر في قلم جون لاود بالحبر السريع الجفاف، فأصبحت الكرة المعدنية تمنع جفاف الحبر وتوّزعه بسلاسة على الورق.
تمّ تقديم هذا الابتكار في معرض بودابست الدولي عام 1931 وأثار ضجّة كبيرة، وفي العام 1943 حصل لالزلو وشقيقه الكيميائي جيورجي على براءة اختراع لهذا التصميم الجديد، وحقق هذا القلم نجاحًا منقطع النظير بعد أن اشترى مارسيل بيك براءة الاختراع عام 1945، وباع أكثر من 100 مليار قلم حبر جاف في جميع أنحاء العالم، وفي أيلول/سبتمبر من العام 2006 تمّ إعلان "بيك كريستال" كأفضل قلم مبيعًا في العالم.
تكثّفت مشاريع التطوير في عملية تعبئة الحبر ومنع التسرب، فتطورت الرؤوس من فولاذية الى ذهبية الى كربيد التنجستن، ثم تم استخدام البولي بروبلين بدلًا من البوليسترين لمقاومة الكسر، وتم التوصّل في خمسينات القرن الماضي لاختراع خراطيش الحبر التي تستخدم لمرّة واحدة، كما ابتكر يوكيو هوري نوعًا مختلفًا من القلم بإستخدام شكّل النموذج الأولي لقلم التحديد الحالي (marker). في هذه المرحلة أخذت الشركات تطبع شعاراتها على الأقلام مما حوّل القلم الى اداة للدعاية والترويج.
مع دخولنا في عصر التكنولوجيا، بدأ القلم التقليدي يفقد مكانته أمام أجهزة الحاسوب والآيباد والأجهزة الإلكترونية الذكية التي غزت حياة البشر وشهدنا على اختراع ستيف جيبسون للقلم الضوئي الذي يعدّ إحدى وحدات الإدخال للحاسوب والذي يعمل عمل الفأرة حيث يقوم المصمم باستعماله على شاشة الحاسوب للرسم وتحديد الصور وتعديلها أو لإدخال البيانات.
ثمّة سؤال يطرح نفسه في هذا العصر مع التقدّم التقني والتكنولوجي والتحوّل الرقمي الذي نشهده على كافة الأصعدة، هل بدأ زمن أفول أو انقراض القلم؟
بعض الأبحاث تؤكد أن الكتابة بالقلم أفضل من استخدام الحاسوب ولوحة المفاتيح بسبب الفعل الحركي مما يساعد الدماغ في تخزين المعلومات بشكل أسرع، كما أن تعلّم الأطفال استعمال القلم ضروري جدًا لتصوير أفكارهم وتصوّارتهم على الورق في تتمة فطرية لميلهم إلى الخربشة على الرمال والتراب بواسطة أي أداة متاحة كالعصا.
العديد من المصممين العالميين يقومون برسم رسوماتهم الأوليّة رسمًا يدويًا قبل مسحها الكترونيًا وتعديلها في البرامج المتخصصة على الحاسوب، وبذلك يوائمون ما بين الطريقة القديمة والحديثة في إبداعاتهم. كما أن معظم الكتّاب والصحفيين ما زالوا يكتبون مسوداتهم الأولى بالقلم، وغالبًا ما يتحدثون عن قدرة القلم على نقل أفكارهم إلى الورق بشكل أسرع وأدق وأمتع من استعمال الحاسوب.
الزمن وحده كفيل بترجيح استمرارية القلم التقليدي أو انقراضه، لكن في الحالتين سيبقى أحد أفضل الإبداعات البشرية.
غدًا، حين يوّد عاشق أن يقول لمحبوبته "باستثناء شفتيك، لا أعرف، كيف أقطف الوردة" (عدنان الصائغ، ديوان تأبط منفى)، هل سيكتبها بالقلم على ورقةٍ صغيرة يدسها خلسةً في حقيبتها أم سيرسلها عبر رسالة نصية؟!