حينما تزور موقع الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" تجد في استقبالك عبارة "موطن كرة القدم". عبارة تحمل في مدلولاتها الكثير من التفاصيل، وتضع من يقرؤها في طريق واحد، وهو التسليم بأن الفيفا هو كرة القدم، وكرة القدم هي الفيفا.
الفيفا هو "صاحب الكرة"، وهو يشبه صديق الطفولة الذي كان يمتلك الكرة الوحيدة في "الشلّة"، ويتحكم بموعد المباراة تبعًا لوقت فراغه، ويتدخّل في قوانين اللعبة وإعداد التشكيل مختارًا أفضل اللاعبين في فريقه، وبالطبع لا يمكن إقناعه بالوقوف في مركز الدفاع أو في حراسة المرمى، هو المهاجم الذي يسدد ركلات الجزاء، وربما يقف كحارس مرمى في حالة واحدة، وهي أن تتاح للمنافس ركلة جزاء، سيتصدى لها بنفسه كي يبدو النجم الأوّل في المباراة، وأي إجراء من الفريقين قد يقلّص من صلاحياته سيؤدي بالتأكيد إلى انسحابه وكرته، وبالتالي سيُحرم الجميع من لعب كرة القدم.
ربما سيأتي وقت وتنهي أنت أو أحد أصدقائك احتكار "صاحب الكرة" للعبة، من خلال شراء كرة جديدة، لكن مجرد التفكير في كسر احتكار "الفيفا"، فستكون عواقبه وخيمة، فلماذا يصف الفيفا نفسه بـ "موطن كرة القدم"، ومن منحه هذا الحق؟
البدايات
كرة القدم لعبة قديمة عمرها مئات السنين، اتخذت أشكالًا متعددة في قوانينها، وكانت بعيدة أحيانًا كل البعد عن القوانين الحالية، لكنّ أقرب صيغة مشابهة للكرة التي نعرفها بدأت في القرن التاسع عشر، حينما اكتسبت هذه اللعبة شعبية كبيرة في إنجلترا، لكن بقيت قواعد اللعبة وقوانينها مختلفة من مدينة لأخرى، وربما من حيّ لآخر، فمنهم من يجيز اللعب باليد، ومنهم من يسمح لحارس المرمى باللعب بيديه في كلّ أرجاء الملعب. من أجل ذلك اتفقت الأندية فيما بينها على تأسيس ما يسمى بالاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، كي ينظّم الأمور ويعمم القوانين عليها جميعًا، ليولد عام 1863 أول اتحاد كروي في التاريخ، وهو الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، والذي وحّد قوانين كرة القدم في إنجلترا.
سنوات بعد ذلك ويتم تأسيس اتحادات كروية أخرى في بريطانيا، مثل الاتحاد الويلزي لكرة القدم، والاتحاد الأسكتلندي والاتحاد الإيرلندي. الاتحادات الثلاثة إضافة إلى الاتحاد الإنجليزي اجتمعت على تأسيس اتحاد دولي لكرة القدم عام 1882، من أجل تنظيم قواعد كرة القدم ليس في بريطانيا فحسب، بل في العالم كلّه.
لعبة كرة القدم انتشرت في أكثر أرجاء المعمورة، لأن البحارة والمستعمرين البريطانيين جلبوها معهم تحت كنف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فزادت شعبية اللعبة إلى حد الهوس، وتأسست الأندية المحلية ومن ثم الاتحادات الكروية في أوروبا والعالم.
لم تستلطف دول أوروبا احتكار بريطانيا لكرة القدم عبر تأسيس دولها الاتحاد الدولي للعبة، فأنشأت سبعة دول الاتحاد الدولي لكرة القدم المعروف الآن بالفيفا، وهي كلمة فرنسية تتكون من الأحرف الأولى من اسم الاتحاد باللغة الفرنسية "Fédération Internationale de Football Association"، والدول السبعة هي سويسرا والدانمارك والسويد وهولندا وبلجيكا وإسبانيا، بالإضافة طبعًا إلى فرنسا، حدث ذلك في عام 1904 بباريس، وحظي الفرنسي روبيرت غورين بشرف يتمثل بكونه أول رئيس للفيفا.
فكرة كأس العالم
كرة القدم انتشرت في شتى أرجاء المعمورة، وصارت اللعبة الشعبية الأولى، فهي تستحوذ على نصيب الأسد من الاهتمام في أكبر محفل رياضي عالمي، وهو دورات الألعاب الأولمبية الصيفية، لذلك انصب تفكير رؤساء الاتحادات التي أسست الفيفا على إنشاء مسابقة رياضية مختصة بكرة القدم، والخروج من عباءة اللجنة الأولمبية الدولية، لتظهر فكرة إقامة كأس العالم لأول مرة عام 1904.
عانت فكرة إقامة بطولة لكرة القدم يتنافس عليها كافة الفرق في الأرض كثيرًا قبل أن تصبح واقعًا، الحلم لم يتحقق بسبب رفض اللجنة الأولمبية هذا القرار، فخشيت أن تخطف هذه البطولة بريق دورة الألعاب الأولمبية، كذلك خوفًا من سيطرة الاتحاد الدولي لكرة القدم على لعبة كرة القدم، وذلك يمثل ضربة كبرى للجنة الأولمبية الدولية.
بعد أكثر من 15 عاماً على اجتماع باريس، عاد المحامي الفرنسي الشاب جول ريميه، وطرح فكرة إقامة بطولة كروية تجمع دول العالم في المستطيل الأخضر. حاول جول ريميه بشتى الطرق والوسائل تحقيق هذا الحلم، حيث كان يشغل رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم، وبعد 7 أعوام من توليه هذا المنصب، وافق الاتحاد الدولي لكرة القدم في عام 1928 على إقرار البطولة التي سمّيت بـ "كأس النصر".
بطولة العالم انطلقت نسختها الأولى عام 1930، وحدث ما تخشاه اللجنة الأولمبية الدولية، سحبت الفيفا البساط رويدًا رويدًا منها، وجذبت اهتمام عشاق الرياضة إليها، فازداد عدد المنتسبين للفيفا علّهم يحظون بفرصة المشاركة في كأس العالم، وصارت الاتحادات الكروية تتبع للفيفا وقوانينها.
مع ازدياد عدد الدول المنضوية تحت راية الفيفا وتباعدها الجغرافي، أراد الفيفا تنظيم الأمور بمركزية تساعده في إدارة كل الاتحادات التي تتبع له، فتم تأسيس الاتحادات القارية التي تشرف على الدول في القارة التابعة لها، كذلك تنظم بطولات كرويّة خاصّة بكلّ قارّة.
في الحقيقة أمريكا الجنوبية كانت سبّاقة في هذا المجال، حيث تأسس الاتحاد الأمريكي الجنوبي لكرة القدم في عام 1916، وهو ما يفسّر عراقة بطولة كوبا أمريكا التي انطلقت نسختها الأولى عام 1916، فيما انطلقت البطولات القارّية الأخرى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
تاريخ تأسيس الاتحادات القارّية:
- اتحاد أمريكا الجنوبية لكرة القدم "الكونميبول": 1916
- الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "اليويفا": 1954
- الاتحاد الآسيوي لكرة القدم: 1954
- الاتحاد الأفريقي لكرة القدم: 1957
- اتحاد أمريكا الشمالية لكرة القدم والبحر الكاريبي "الكونكاكاف": 1961
- الاتحاد الأوقيانوسي لكرة القدم: 1966
الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" أصبح قوّة عالمية لا يستهان بها، كلّ اتحاد قارّي يتبع له، يدير العشرات من الاتحادات الكروية المحلّية، وكلّ اتحاد محلّي يدير المئات وأحيانًا الآلاف من الأندية، وهو مشرف على كل البطولات المحلّية التي ينظّمها، بمشاركة الآلاف من لاعبي كرة القدم، وجميع من سبق يخضع للفيفا بقوانينه ونُظمه، وأي مخالفة سيلقى صاحبها حسابًا عسيرًا.
الهيكل التنظيمي للفيفا
عدد الدول المنضوية تحت لواء الفيفا هو 211 عضوًا، وهو ما يزيد عن عدد الدول المنتسبة للأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، حيث تم قبول العديد من الكيانات غير السيادية كعضو مستقل في الفيفا، مثل دول المملكة المتحدة "إيرلندا الشمالية وويلز وإسكتلندا" وإقليم هونج كونج في الصين، كذلك يوجد دولًا نالت استقلالها ولم تنتسب للفيفا بعد، كإمارة موناكو والفاتيكان، والتي تتبع كرويًا لدولتي فرنسا وإيطاليا تواليًا.
كلّ دولة تتبع للفيفا، ستحظى بمكان واحد لها في كونغرس الفيفا، ولكل عضو في كونغرس الفيفا صوت واحد في اجتماعات الاتحاد الدولي الدورية التي تحدث كل سنة، وجميع أعضاء الفيفا متساوين بالحقوق والتصويت، دولة حاملة لكأس العالم خمس مرّات مثل البرازيل، صوتها يعادل دولة صغيرة الحجم ولا تملك أي إنجاز كروي مثل سان مارينو.
صلاحيات هذا الكونغرس تتمحور حول قواعد كرة القدم، وطريقة تنفيذها أو تغييرها، مع قدرته على تغيير قوانين الفيفا، إضافة إلى التصويت على قبول عضو جديد، وانتخاب رئيس جديد للفيفا، وانتخاب اللجنة التنفيذية، والتي تعرف بمجلس الفيفا.
مجلس الفيفا هو المكان الحقيقي لصدور القرار بالاتحاد الدولي لكرة القدم، حيث يضمّ 28 عضوًا يتم انتخابهم من أعضاء الكونغرس، كذلك يضم رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم وثمانية نوّاب له، ليصبح العدد بالكامل 37 عضوًا، وهو يعني بالقرارات الهامّة كتأسيس اللجان المستقلة مثل لجان المالية والطوارئ والانضباط والحكام والأخلاقيات، وأهم من كلّ ذلك هو اختيار الدولة المنظمة لكأس العالم، فيما تكون السلطة العليا بالاتحاد الدولي لكرة القدم لرئيسه المنتخب من كونغرس الفيفا إضافة إلى الأمين العام، ويشغل حاليًا السويسري جياني إنفانتينو رئاسة الفيفا، فيما تأتي السنغالية فاطمة سامورا كأمينة عامة للاتحاد الدولي لكرة القدم.
رؤساء الاتحاد الدولي لكرة القدم:
- الفرنسي روبيرت غورين من 1904-1906
- البريطاني دانيل بورلي ولفول من 1906-1918
- الهولندي كورنيليس هورشمان "مؤقت" من 1918-1920
- الفرنسي جول ريميه 1920-1954
- البلجيكي رودولف سيلدرايرس 1954-1955
- البريطاني آرثر ديريوري 1954-1961
- السويسري آرنست تومين "مؤقت" 1961-1961
- البريطاني ستانلي راوس 1961- 1974
- البرازيلي جواو هافيلانج 1974-1998
- السويسري جوزيف بلاتر 1998-2015
- الكاميروني عيسى حياتو "مؤقت" 2015-2016
- السويسري جياني إنفانتينو 2016 حتى الآن
قوّة اقتصادية هائلة
يمثّل الاتحاد الدولي لكرة القدم قوة اقتصادية عظمى، فمن أين له هذه الأموال؟ الأمر ببساطة هو قدرته التنظيمية التي جعلته يحتكر مسابقات كرة القدم، وتطور الأمر تاريخيًا حتى أصبح الاتحاد الدولي على ما هو عليه الآن من الناحية الاقتصادية.
فمع نجاحه بتنظيم أول بطولة لكأس العالم في عام 1930، كانت أبرز الواردات المالية للفيفا تأتي من الحضور الجماهيري، لكن منجم الذهب فُتح أمام الاتحاد الدولي لكرة القدم مع بداية البث التلفزيوني لكرة القدم.
ففي عام 1974 انتُخب البرازيلي جواو هافيلانج كأول رئيس للفيفا من خارج قارّة أوروبا، هذا الرجل ساهم بشكل رئيسي في تحويل لعبة القدم إلى صناعة تدرّ المليارات، من خلال عقده اتفاقيات مع شبكة RSL العالمية، والتي يديرها هورست داسلر ابن مؤسس شركة آديداس الألماني آدولف داسلر.
هذه الشركة احتكرت بالتعاون مع هافيلانج كلّ ما هو علاقة بكرة القدم وعائداتها المالية، فكانت تبيع حقوق البث التلفزيوني للمباريات بمبالغ باهظة، وتكسب من شعارات وتمائم البطولات، إضافة إلى اللوحات الإعلانية في الملاعب، لتتطور مصادر دخل الفيفا، ولم تعد مقتصرة فقط على الحضور الجماهيري.
وبما أن بطولات كأس العالم تدرّ أموالًا طائلة إلى خزانة الفيفا، فلماذا يكتفي الاتحاد الدولي ببطولة للرجال فقط، ومن هنا أتت فكرة إنشاء بطولات أخرى يديرها الفيفا بشكل مباشر، كبطولات الفئات العمرية وبطولات كأس العالم للأندية، وكأس القارات، وكأس العالم للكرة الشاطئية وبطولات كأس العالم داخل الصالات، زد على ذلك بطولات كأس العالم للسيدات بالفئات العمرية كافة، إضافة إلى البطولات التي تأتي بإشراف الاتحادات القارية، كدوري أبطال أوروبا والليبرتادوريس وكل البطولات القارية الخاصة بالأندية والمنتخبات، والتي تتبع للفيفا بطريقة أو بأخرى، ناهيك عن الدخول في مجال ألعاب الفيديو واتفاقه السابق مع شركة EASPORT، من أجل احتكار ألعاب الفيديو لكرة القدم، ويكفي الإشارة بأن الأرقام الرسمية للفيفا تشير إلى أرباح تزيد عن سبعة ونصف مليار دولار أمريكي في فترة مالية تتراوح بين عامي 2019 و2022.
سلطات نافذة
يتميّز الاتحاد الدولي لكرة القدم بسلطاته الواسعة وقراراته النافذة، فهو كما تكلمنا يحوي أعضاء بعدد أكبر من الأمم المتحدة، لكنّه يتميّز عنها بالتساوي في اتخاذ القرار، فلا تملك أي دولة عضو في الكيان "حق" استخدام النقض "الفيتو"، ولا تجرؤ دولة ما مهما بلغت سيادتها على التدخل في شؤون الاتحاد المحلي لكرة القدم فيها، بل يتعدى نفوذ الفيفا نطاقًا جغرافيًا محددًا، فله نفوذ داخل جغرافيا أي بلد عضو ينضوي تحت رايته.
فأي تدخّل حكومي عبر وزارة الرياضة والشباب أو اللجنة الأولمبية المحلية أو غير ذلك تبعًا لنظام الحكم في الدول، سيقضي بتدخّل الفيفا وإلحاق العقوبات بها، مثلما حدث وعلّق الفيفا عضوية الكويت عام 2015 بسبب عدم استقلالية أعضاء الاتحاد الكويتي باتخاذ قراراتهم مع التدخل الحكومي حسب الفيفا.
كذلك تمتد سلطات الفيفا أحيانًا للتدخل بمواضيع لها أبعاد سياسية، ففي وقت لم ينجح الغرب في إيقاف العدوان الروسي على أوكرانيا، واكتفى بعقوبات مالية ودعم عسكري لأوكرانيا، قرر الفيفا ببساطة استبعاد روسيا من تصفيات كأس العالم 2022، وطبعًا استبعاد الأندية الروسية والبيلاروسية من المسابقات الدولية التي يعترف بها.
احتكار كرة القدم
الاتحاد الدولي لكرة القدم صار قادرًا على وصف نفسه بـ"موطن كرة القدم"، كلّ البطولات المهمّة تكون باعترافه، ولن تجد مسابقة كروية يتابعها الملايين إلا وهي برعاية الفيفا أو أحد الاتحادات القارية التابعة له، وإن حصل ذلك وكسبت بطولة لا يرعاها الفيفا زخمًا جماهيريًا، فسيسارع الفيفا لاعترافه به وضمّها لبطولاته، كي يحتكر مئات الملايين من الدولارات من خلال عقود الرعاية والبث التلفزيوني، وهو ما يفسّر انضمام بطولة كأس العرب في نسختها الأخيرة لمنظومة الفيفا، نظرًا للجماهيرية الكبيرة التي حظيت بها البطولة في الآونة الأخيرة.
من يفكّر في كسر هذا الاحتكار أو الخروج عن هذه المنظومة الكروية المعقّدة سيدفع الثمن غاليًا، فإما عليك اللعب بكرة "صاحب الكرة" وفقًا للقوانين التي يضعها، أو سيكون مصيرك مهدّدًا بالعقوبات مهما بلغ اسمك ونفوذك، ومهما ملكت من أموال.
أبرز مثال على ذلك هو مشروع دوري السوبر الأوروبي، والذي رأت خلاله كبرى الأندية الأوروبية أنها تنال أرباحًا أقل مما تستحق، ووجدت في نفسها القدرة المالية والإدارية على تنظيم بطولة كبرى موازية لدوري أبطال أوروبا، بل تزيد عنها قوّة، وأبرز الأندية الأوروبية الكبرى هم ريال مدريد وبرشلونة ويوفنتوس ومانشستر يونايتد وليفربول ومانشستر سيتي وتشيلسي وآرسنال والميلان والإنتر وتوتنهام وأتلتيكو مدريد.
هذه الأندية اصطدمت بمنظومة الفيفا المتجذّرة في دولهم، فأتتهم تهديدات من الاتحادات المحلية في إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا بالشطب من الاتحاد، والحرمان من المسابقات المحلية، كذلك أتت تهديدات من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بالحرمان من البطولات الأوروبية محليًا وقاريًا، وبالطبع شملت هذه التهديدات حرمان اللاعبين المشاركين من تمثيل منتخباتهم الوطنية في المحافل الأوروبية والعالمية، ليتم وأد المشروع قبل ولادته، ويؤكد الفيفا على العلن أنه "صاحب الكرة"، وهي الكرة الوحيدة في كوكبنا.