في بداياته قبل نحو قرن، سَحَرَ الراديو آباءنا وأجدادنا بعد أن وهبهم هدية ثمينة تتيح لهم معرفة أخبار العالم دون الحاجة إلى قراءتها، بالإضافة إلى الأُنس والتسلية بعيدًا عن مجالس السمر.
واليوم، يبدو من المدهش أن ندرك أنه قبل قرن من الآن، لم تكن موجات الراديو سوى محض نظرية، وأن الاتصال اللاسلكي كان ضربًا من الخيال. وحتى بعد تطوير الراديو في أواخر القرن التاسع عشر، استغرق انتشاره في المنازل وغيرها سنوات عدة.
والآن، بعد مضي أكثر من قرن على ولادته، لماذا لم ينقرض الراديو بعد؟ لمَ لا نزال نحب تشغيله والاستماع إليه على الرغم من قدرتنا على سماع ما نريد بلمسةٍ واحدةٍ نختار فيها برنامجًا بعينه، أو أغنيتنا المفضلة؟
هذه الأسئلة هي ما سنحاول الإجابة عنها من خلال استعراض موجز لتاريخ الراديو، وتحليل أسباب جاذبيته إلى يومنا هذا، ونجاته في الوقت الذي انقرضت فيه وسائل إعلام كان لها وجودًا أساسيًا مثل الصحف. كما سنبحث في مستقبله، وما إذا كانت منصات والتواصل الاجتماعي الحالية تهدِّد وجوده.
نشأة الراديو وأصل الكلمة
بدأت الحكاية بأكملها باكتشاف موجات الراديو، وهي موجات كهرومغناطيسية تنتقل عبرها البيانات بشكل غير مرئي في الهواء. ومن هنا جاءت التسمية "Radio"، التي يعود أصلها إلى الكلمة اللاتينية "راديوس - Radius"، وتعني نصف قطر. وتنطبق هذه التسمية أيضًا على الإرسال الإذاعي، حيث تُبث الموجات الكهرومغناطيسية، مع تضمين الموجات الصوتية، عبر الغلاف الجوي على هيئة دوائر.
غيّر هذا الاكتشاف شكل التواصل في العالم، إذ مكّنت هذه الموجات المجتمعات الإنسانية من إرسال الصوت الإنساني والموسيقى والإشارات، بمختلف أنواعها، إلى مختلف أنحاء العالم. وبفضل الراديو، أصبح بإمكان المسافرين على متن السفن والطائرات الاتصال وتبادل المعلومات. كما استُخدمت هذه الموجات في الاتصال بالعالم الخارجي، في حين تستخدم أجهزة عديدة حديثة الموجات الكهرومغناطيسية لأغراض مختلفة. لكن البث الإذاعي لا يزال الاستخدام الأكثر شيوعًا لموجات الراديو.
من اخترع الراديو؟
يبدو من غير الممكن الحديث عن مخترع واحد للراديو بسبب مساهمة العديد من العلماء في اختراعه وتطويره إلى أن وصل لشكله الذي نعرفه. وأول هؤلاء العلماء الإنجليزي جيمس كلارك ماكسويل الذي تنبأ بوجود الموجات الإلكترومغناطيسية لأول مرة عام 1865، وكشف كذلك إمكانية انتشارها في المساحة الحرة. ثم تمكّن العالم الألماني هانيرتش رودولف هيرتز من إثبات نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية.
وثبت أن أول راديو لاسلكي تم اختراعه كان في عام 1893 على يد العالم الأميركي نيكولا تسلا. لكن العالم الإيطالي غولييلمو ماركوني هو من اخترع الراديو الأول، وأول من اكتشف أنه يمكن للإشارة الإلكترونية التواصل عبر الفضاء بحيث يمكن لأجهزة الاستقبال التقاطها في أماكن غير محددة. وبعد خمس سنوات من اكتشافه، تمكّن ماركوني من إرسال إشارة لاسلكية من إنجلترا إلى كندا.
أرسل ماركوني أول إشارة بث إذاعي عام 1895 عبر المحيط الأطلسي. وفي عام 1896، حصل على أول براءة اختراع لجهاز راديو لاسلكي في إنكلترا، وقد سجل المؤرخون أول اتصال تم إرساله عبر موجات الراديو كان في 12 كانون الأول/ديسمبر 1901، ويعتبر هذا التاريخ هو تاريخ اختراع الراديو.
الإذاعة في بداياتها والفترة الذهبية للراديو
تركّز دور الراديو في بداياته، وبشكل أساسي، على الاتصال بالسفن. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، ظهرت أهميته وتزايدت فائدته بخدمته للجيوش التي استخدمته آنذاك كأداة تواصل لا تقدّر بثمن. وبعد الحرب، بدأت محطات البث في الظهور في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، وازدادت شعبية أجهزة الراديو بين المدنيين، سيما بعد تأسيس شركة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في لندن، وانتشر من بعدها البثّ بسرعة.
غيّرت الطريقة التي تم بها استخدام الراديو بعد الحرب العالمية الثانية العالم. فبعد أن كانت المحطات الإذاعية على شكل برامج متسلسلة، بدأت تركز أكثر على تشغيل الموسيقى فنالت المزيد من الشعبية، وغدت كلمتي الموسيقى والراديو مرادفتين لبعضهما البعض.
عاش الراديو عصره الذهبي خلال الفترة بين عشرينيات وخمسينيات القرن الفائت، حيث شكّل حينها ظاهرة اجتماعية جمعت ملايين العائلات في أميركا وأوروبا كل ليلة للاستماع إلى المسلسلات والبرامج المنوّعة الخفيفة، والبث المباشر للحفلات الموسيقية. وقد انتهت هذه الفترة في معظم المجتمعات مع بدء انتشار التلفاز وتألقه.
وكانت فترة الذروة الحقيقية الإبداعية للإذاعة الأميركية في الأربعينيات. وقال نورمان كورين، الكاتب والمنتج والمخرج الإذاعي، بأسف، إن عصر الراديو الأكثر إبداعًا: "كان أقصر عصر ذهبي في التاريخ".
أما عن بداية البث الإذاعي العربي، فكانت مصر والجزائر أولى الأقطار العربية التي عرفت الإذاعة المسموعة في عام 1925، ثم توالى ظهورها في الأقطار الأخرى.
أثر الراديو في البدايات
كان للراديو في بداياته أثر السحر، فقد غيّر شكل الحياة والتواصل البشري بمدّه جسور التواصل بين كل البيوت التي سمع سكانها ما يبثّه من أخبار ومعلومات وموسيقى، بالإضافة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي إتاحة الفرصة لعامة الجمهور للوصول إلى أعمال الدراما والموسيقى المحترفة والمسرح، التي كانت فيما سبق حكرًا على النخبة، فقد جلبت الشبكات الإذاعية الأعمال الفنية الخاصة بالفنانين الموهوبين إلى جمهور عريض من الناس كانوا بعيدين عن قاعات الحفلات والمسارح.
وقد وصفت الصحف الصادرة في سان فرانسيسكو الاختراع الجديد بالقول إنه: "هناك موسيقى راديو في الهواء، كل ليلة وفي كل مكان ويمكن لأي شخص أن يسمعها في المنزل عبر جهاز الاستقبال".
واستنادًا إلى الصوت البشري وحده، بما يحمله من دفء وما يستدعيه من خيال، يمكننا القول إن الإذاعة قد شكلت في فترتها الذهبية، قبل ظهور التلفاز، وجدانًا جمعيًا لدى جمهور المستمعين من خلال الدراما الإذاعية والمسرح الإذاعي والحوار الإذاعي الذي تلقّاه المستمعون وتفاعلوا معه بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية والاجتماعية.
وخلال فترة ذروتها القصيرة، ازدهرت الإذاعة الدرامية وانتقلت المفردات المستخدمة بشكل متكرر في البرامج الإذاعية الشعبية للغة العامية المحكية، وجدولَ الناس أعمالهم كما فعلوا لاحقًا مع التلفزيون، بالتوافق مع برامجهم المفضلة.
كيف نجا الراديو في ظل التطور التكنولوجي والرقمي؟
من البديهي أن يتراجع دور الراديو بعد تنوع وسائل الإعلام والتواصل والترفيه، بدءًا من التلفاز وصولًا إلى المنصّات المتعددة على شبكة الإنترنت، إذ لم تعد الإذاعة المصدر الوحيد للمعرفة والتسلية، بل إنها واجهت منافسة شديدة من الوسائل الجديدة التي امتلكت أسلحة جذب قوية لا يملكها الراديو، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي. لكن اللافت أن هذه الوسائل المتطورة لم تهدد وجوده، إذ استطاع الراديو الحفاظ على مكانته والصمود بقوة لأكثر من قرن، فما السر في ذلك؟ وما هي أسباب جاذبيته التي كانت السبب وراء وجوده إلى الآن؟
أعتقد أن هناك نوعين من الأسباب: أسباب تقنية عملية، وأخرى نفسية عاطفية.
الأسباب التقنية لنجاة الراديو
يُعد الراديو، بموجاته ذات التمويل المقبول والتي تبثّ بكل اللغات ومن أي مكان، متخطيةً حواجز أميّة المتلقي أو عزلته؛ وسيلة التسلية والترفيه الأكثر شعبية كونها تصل إلى مليارات الأشخاص حول العالم.
وتتعاظم أهمية الراديو في حالات الكوارث، حيث يكون العثور على الموجات الإذاعية أمرًا سهلًا، مقارنةً بغيرها، في القرى البعيدة أو في المناطق النائية أو المنكوبة التي تشهد حروبًا أو صراعات. كما أن يسر كلفته وسهولة التعامل معه جعلا منه متاحًا للتنقل بسهولة.
وعلى عكس وسائل التواصل المرئية التي تتطلب من الشخص المتابع كامل انتباهه وتركيزه، وتحول دون قيامه بعمل آخر، يمكن الاستماع للراديو أثناء القيام بأعمال مختلفة، بل إن الوقت المفضل لدى أغلب الناس للاستماع إلى الراديو هو أثناء انهماكهم في إنجاز مهامهم أو في الطريق إلى أعمالهم، أو في أوقات الانتظار. ومما ساهم في بقائه وسيلةً ذات شعبية كبيرة، هو سمة التخصص في مضامين ترفيهية متعددة - خدمية وإخبارية ومعرفية ودينية وموسيقية..إلخ - تتناسب مع أذواق واحتياجات المستمعين المتعددة.
ومما لاشك فيه أن أحد أهم أسباب نجاة الراديو التقنية هي خاصية التطور الرقمي التي ساهمت في انتشاره، بعد أن تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات ناقلة للأثير الإذاعي وازدادت أعداد الموجات التي تستخدم الإنترنت، وبذلك أصبح الإنترنت منقذًا للراديو لا مهدّدًا له.
الأسباب العاطفية لنجاة الراديو
خلال قرنٍ من عمر الراديو، تكاد لا تخلو ذاكرة إنسان عاش خلال هذه الفترة من ذكريات متعلقة به. وإن حُفرت هذه الذكريات عميقًا في الوجدان في فترته الذهبية عندما كان الراديو يتربع على عرش وسائل الإعلام، فإن ذاكرة أجيال الإعلام المرئي لا تخلو أيضًا من ذكريات عذبة صنعها الراديو الذي صاحبهن في أوقات عديدة لم تسرقهم فيها الشاشات، وأحس فيها المستمع بأنّ هذا الجهاز رفيقه عندما تؤنسه الأصوات الدافئة والألحان العذبة وتسامره الأغاني العاطفية، وبهذا حافظ على وجوده العزيز في حياتهم عندما ارتبط بالحنين إلى زمن جميل أو ذكرى عذبة.
وبسبب قدرة الراديو الفريدة على الوصول إلى جمهور واسع، ولأن تواصل المذيع مع المستمعين من وراء الميكرفون تواصل سمعي فقط، فإنه خلق فضاءً من التواصل المريح سيطرت عليه حالة من الشعور بالألفة وعدم الخجل، وهذا ما يدفعهم لمناقشة قضاياهم ومشاكلهم الاجتماعية بحرّية وبلغة غير متكلفة وقريبة منهم. فبوسع الراديو، هذا الساحر الأثيري، أكثر من أي وسيلة إعلامية أخرى، تهدئة المستمعين من خلال حوار مريح أو موسيقى عذبة.
كما يمكنه أيضًا، في الوقت نفسه أن يعيدهم إلى الواقع من خلال الأخبار العاجلة أو الجدل حول قضية حالية، وقد يكون هذا الفرق الأساسي بينه وبين المنصات السمعية الحديثة الأخرى، كالبودكاست واليوتيوب وغيرهما، الذي يختار فيها المستمع بالضبط ماذا ومن يسمع.
إنّ للنظر سحرًا يأسر النفس. وفي عصر الصورة والفيديو وتطور تقنياتهما التي أسرت الإنسان المعاصر وأرغمته لا شعوريًا على متابعة هذه الصورة، سواء كانت مريحة للنظر أم مفزعة، جميلة أم قبيحة، جديدة أم قديمة، مرغوبة أم منفّرة؛ فإنّ هذا الصّخب البصري وهذه المتناقضات البصرية الكثيرة تُوصل لمرحلة تضني النفس، فتلجأ حينها إلى السمع، فهو الحاسة التي غالبًا ما تكون رفيقة تأملٍ فكريّ أو حسيّ يغوص بالنفس للتعمق والإحساس والهدوء، كما أن غياب الصورة يثري الخيال ويطلق له العنان لتشكيل الصور التي يرغب المستمع في خلقها حول ما يسمع.
حاضر ومستقبل الراديو
تواصل الإذاعة مسيرتها بوصفها واحدة من أكثر الوسائط الموثوقة والأكثر استخدامًا في العالم، وهذا ما دفع الدول الأعضاء في "اليونسكو" إلى إعلان اليوم العالمي للإذاعة عام 2011، واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2012، فأصبح يوم 13 شباط/فبراير هو اليوم العالمي للإذاعة. وعن ذلك تقول اليونسكو: "إنّ الإذاعة تعد وسيلة قوية للاحتفال بالإنسانية بكلّ تنوعها، كونها تشكّل منصة للخطاب الديمقراطي، ولها قدرتها الفريدة على الوصول إلى جمهور واسع وتشكيل تجربة المجتمع في التنوع وخلق ساحة للجميع للتعبير عن آرائهم وإسماع أصواتهم".
ولا تزال الإذاعة من أكثر وسائل الإعلام ثقة واستخدامًا في العالم وفقًا لتقارير دولية مختلفة. فبحسب الأمم المتحدة، هناك ما يزيد عن 44 ألف محطة إذاعية تبث برامجها إلى أكثر من 5 مليارات شخص، أي ما يقارب 70% من سكان العالم.
وتشير إحصائيات اليونسكو، لعام 2016، إلى أن عدد مستمعي الإذاعة قد تجاوز عدد مشاهدي التلفزيون ومستخدمي الهواتف الذكية، وأنه يوجد أكثر من 800 محطة إذاعية في البلدان النامية بينما نصف سكان العالم (3.9 مليار شخص) لا يزالون غير قادرين على الاتصال بشبكة الإنترنت. وإذا كانت أهمية الراديو جليّة وتواجده الحالي في البلدان النامية قويّ، فهل يشهد تراجعًا في الدول المتقدمة؟
وبحسب إحصائيات "جيتنوكس" (Gitnux) لعام 2023، يعد الراديو أحد أقوى الوسائط في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يبلغ معدل وصوله أسبوعيًا 82.5% بين البالغين بأكثر من 15445 محطة إذاعية.
%78.8 من الاستماع الصوتي اليومي يعزى إلى الراديو.
%46 من المستمعين فكروا في شراء منتج ما بعد سماع إعلان تجاري على الراديو.
عدد الأميركيين الذين يستمعون إلى الراديو 293 مليونًا، وهو عدد يفوق عدد مستخدمي فيسبوك بـ180 مليون كل أسبوع.
خاتمة
لم يكن ليتخيل مخترعو الراديو ما الذي سيصبح عليه الأخير لاحقًا، ولا دوره المؤثر والمستمر الذي سيلعبه في حياة الأفراد والشعوب، خاصةً بعدما أظهر قدرته العجيبة على التكيّف مع التكنولوجيا الحديثة، التي طوّعها لتثبيت وجوده بل وانتشاره بشكل أوسع.
لقد تطور الراديو بشكل مطرد عبر الأقمار الصناعية ومحطات الراديو الرقمية. وبدلًا من الاستماع من جهاز الراديو التقليدي، أصبح الناس يستمعون إليه عبر أجهزة الهاتف والتلفاز وإذاعات الإنترنت والبرودكاست والسيارات وغيرها، الأمر الذي يشير إلى إمكانية بقائه وانتشاره أكثر، وبالتالي قدرته على تخطي تحديات لم تستطع وسائل إعلامية أخرى تخطيها كالصحف الورقية وحتى التلفاز الذي تخلّى عنه الناس في أماكن كثيرة حول العالم، لكنهم لم يتخلّوا عن الراديو.
انطلاقًا مما سبق، تتعاظم أهمية دعم الإذاعة لتتحمل مسؤوليتها الإعلامية، والاهتمام بتدريب الإذاعيين الاحترافي المهني المواكب لتغييرات العصر السريعة، وخصوصًا في ظلّ الفوضى السائدة في وسائل التواصل الاجتماعي، ووجود ملايين الحسابات والمواقع التي تعمل بلا ضوابط مهنية أو اجتماعية أو أخلاقية.
وهكذا، فإننا نصل إلى حقيقة أنّ الإنسان المعاصر، كما أسلافه، لا يزال يحبّ الراديو، ولا يزال ملائمًا لحياته اليومية أينما سكن، سواء في الدول المتقدمة أم النامية. فبدون استخدامه لمحتوى أو تصوير باهظ الثمن، يظلّ الراديو منصّة قيّمة للتواصل والترفيه.