التغطية الإعلامية الغربية للحرب على غزة

عام من العدوان.. التغطية بحسب عدسات الإعلام الغربي

7 أكتوبر 2024

بمرور عام على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما عانى منه الشعب الفلسطيني خلالها، يُتاح المجال للحديث عن الكثير من الأشياء التي غيرتها تلك الحرب سواء على مستوى الجغرافيا والسياسة، أو على مستوى الوعي. وقد خاض الفلسطينيون، تاريخيًا، العديد من معارك الوعي من أجل لفت انتباه الغرب إلى قضيتهم. ولكن ما الذي يعنيه الوعي الغربي لقضية فلسطين؟

لا تحتاج فلسطين إلى الاعتراف من الغرب بقضيتها لتنال شرعيّتها كقضية عادلة، وإنما إلى الزاد البشري من الجمهور الغربي لكونهم جماعات ضغط فاعلة ومؤثرة تستجيب لها حكوماتها وتتفاعل معها وتتشكل مواقفها من خلال مواقفهم كناخبين، وهو ما يُسهم في تقوية الموقف الفلسطيني من الناحية الدبلوماسية وإضعاف السردية الإسرائيلية، التي أنفقت حكومات الاحتلال ملايين الشيكلات من أجل الترويج لإسرائيل بوصفها واحة الديمقراطية، وحاضنة الحريّات الجنسية، في صحراء شرق المتوسط القاحلة التي تفيض بالدكتاتوريات. 

وكانت مساعي جذب ذلك الوعي الغربي على قائمة أولويات القادة الفلسطينيين منذ زمن طويل، فقد صرح أبو إياد "صلاح خلف" في حديثه إلى الصحافي الفرنسي إريك رولو، في كتاب السيرة الذاتية لأبو إياد الذي كتبه رولو "وطني، أرضي: رواية للنضال الفلسطيني"، بأن المحرك الرئيسي للعمليات الفدائية التي قامت بها جماعة أيلول الأسود في أوروبا، وعلى رأسها أحداث أولمبياد ميونيخ 1972، كان وضع فلسطين على قائمة اهتمامات المتابع الغربي في الوقت الذي كانت تُصرّح فيه غولدا مائير بأنه لا وجود مُحدد وحقيقي لـ"شعب فلسطيني"، وأرض اسمها فلسطين. لكن العمليات التي اتبعتها حركة أيلول الأسود، ونظيرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ممثلة في سياسة الدكتور وديع حداد "وراء العدو في كل مكان"؛ قدّمت النضال الفلسطيني على أنه "نضال مجموعة من الإرهابيين"، ولقد اعترف القادة بخطأ تلك السياسة فيما بعد.

لكن هذه الصورة تغيّرت تمامًا مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها، حيث قلبت صورة الطفل الذي يواجه دبابة بحجر صورة داوود الإسرائيلي في مواجهة جالوت العربي. 

قدمت الانتفاضة الأولى وتغطية الغرب الإعلامية لها توطئة لتغيير السردية الفلسطينية كما رصد العديد من الملاحظين، مثل جيل كيبيل في كتابه "الفتنة: حروب في ديار المسلمين"، وتزفيتان تودوروف في كتابه "الخوف من البرابرة"، وزكاري لوكمان في كتابه "تاريخ الاستشراق وسياساته".

وفي أعقاب اتفاق أوسلو وحل الدولتين (الذي فشل سريعًا باغتيال رئيس وزراء الاحتلال آنذاك يتسحاق رابين، وصعود بنيامين نتنياهو، في وقت نشطت فيه عمليات حركة حماس الاستشهادية)، رُسمت صورة أخرى عن القضية الفلسطينية لا بوصفها قضية بين ظالم ومظلوم، بل كصراع بين خصمين. 

لكن تلك الظروف توافقت أيضًا مع حدثين في غاية الأهمية، أولهما انطلاق حملة "إسرائيل براند" التي أطلقتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من أجل تقديم صورة مغايرة عن إسرائيل تحل مكان صورتها كـ"مجتمع معسكر"، وبهدف جذب الاستثمارات الاقتصادية في البلاد، والأحداث الفنية والمشاركات الثقافية بين الجامعات الإسرائيلية ونظيراتها في الولايات المتحدة وأوروبا. وثانيهما ما عُرف بالحرب على الإرهاب في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر التي قدّمت المنطقة العربية – الإسلامية، بما في ذلك فلسطين، كمجتمع في غاية التطرف والعدمية السياسية.

المتغيّر الجديد في المعادلة في وجه وسائل إعلام تقليدية

ابتداءً من أحداث حي الشيخ جراح في عام 2021، بدا وكأن شيئًا ما عن السردية الفلسطينية يمُكن أن يُصاغ من جديد، ويُكلِّل جهود جماعات الضغط من فلسطيني المهجر من أمثال حركة المقاطعة الثقافية "بي دي أس"، والمؤرخين المستقلين مثل نورمان فنكلستين وإيلان بابيه ونعوم تشومسكي، وحتى في مجال الصورة مثل المخرجين المستقلين جيمس لونجلي وجون بيلجر؛ لترميم التصور الغربي تجاه فلسطين في سنوات الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط.

ومن خلال حساب على تطبيق "إنستغرام"، أطلق التوأم منى ومحمد الكرد قوة الإعلام الموازي المتمثل في السوشيال ميديا كوسيلة يمكن تطويعها لخدمة السردية الفلسطينية وإعادة ترويجها من جديد لتخاطب الأجيال الجديدة عربيًا وغربيًا.

وتأكدت تلك القوة للإعلام البديل من خلال منصات "تيك توك" و"إكس" و"إنستغرام" مجددًا وبشكل أكبر وأوسع في مدى تأثيره، بعد عملية طوفان الأقصى، حيث أصبحت السردية الفلسطينية التي تُنشر بجهود شعبية عربية مستقلة تحرص على توثيق ونشر الويلات الفلسطينية بشكل يومي في تلك المنصات؛ أصبحت قادرة على التأثير في الرأي العام الغربي إلى درجة التحشيد، حيث رأينا وللمرة الأولى ربما على هذا النطاق، منذ غزو العراق، مظاهرات تضامنية مع غزة في الشوارع الغربية واعتصامات مناهضة لإسرائيل تُطالب بحقوق الشعب الفلسطيني في الجامعات.

وقد قادت تلك المظاهرات بعض الدول مثل إسبانيا إلى الاعتراف بدولة فلسطين، أو استعدادها للاعتراف مثل بلجيكا. بينما قادت أيرلندا، التي اعترفت بدولة فلسطين، حملات ضغط لا هوادة فيها لكشف الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني في غزة. 

ولكن على صعيد آخر، كانت وسائل الإعلام الغربية التقليدية لا تزال تعمل على تغطية القضية الفلسطينية، وإنتاج عشرات التقارير الإخبارية والوثائقيات بشكل أسبوعي عما سُميّ "الحرب في الشرق الأوسط"، وليس الحرب على فلسطين.

وعلى سبيل المثال، تؤرشف "أرتي" تقاريرها تحت عناوين مثل "Naher Osten: Eine Region unter Druck"، وكذلك"Krieg im Nahen Osten"، و"Der Nahe Osten: Eine Konflikt ohne Ende"، وهي العناوين التي تتُرجم على التوالي: "الشرق الأوسط: منطقة تحت ضغط"، و"الحرب في الشرق الأوسط"، و"الشرق الأوسط: صراع بلا نهاية".

أما منصة "BBC iplayer"، فإنها تقدم تغطيّتها في قسم تحت عنوان "Israel-Gaza War One Year On"، أي "عام على حرب إسرائيل - غزة"، ويبدو العنوان سافرًا جدًا في مساواته قطاعًا صغير جدًا، على مستوى المواجهة العسكرية والندية، بكيان كبير ومُجهز كإسرائيل. 

"بي بي سي" تردد بريطاني كلاسيكي

إذا انتقلنا من دلالة المصطلحات الهامة إلى المضمون الذي تحتويه بداخلها، خصوصًا الريبورتاجات المطولة التي قد تصل مدتها أحيانًا إلى 60 دقيقة، والتي تنتجها تلك المنصات مثل "بي بي سي" البريطانية، و"أرتي" الفرنسية/الألمانية، و"زي دي إف" و"أيه أر دي" الألمانيتان؛ فإننا نلاحظ أن الحراك الإعلامي المستقل الذي استطاع أن يحشد لسردية فلسطين، لا يزال يواجه تحديًا يتمثل في تغطية تلك المنصات الإخبارية التي تملك مجموعة من المتابعين لا يجب الاستهانة بهم وبعددهم.  كما أنه لا يمكننا أن نستنتج من المظاهرات الضخمة أن هناك مزاجًا عامًا غربيًا أصبح أكثر ميلًا لصفوف الفلسطينيين. فحساب تلك الكتل وانتماءاتها أعقد من تلك الأحكام البسيطة، ولذلك يتحتم أن نرى كيف كانت تُغطى القضية الفلسطينية في الإعلام الغربي الرسمي على مدار سنة. 

قدمت "بي بي سي" تغطية للأحداث مشابهة للموقف البريطاني التاريخي الذي أسس قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بسلسلة من الأخطاء التاريخية، والتردد في موازنة الكفة بين الطرفين، والانحياز لليهود في أغلب الأوقات.

بدأت تغطية "بي بي سي" بفيلم مدته 20 دقيقة تحت عنوان "يوميات غزة"، وهو عبارة عن تسجيلات لمجموعة من الشبان الفلسطينيين المحاصرين داخل القطاع، والذين يعانون من أجل النجاة من أهوال الحرب، في تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

وفي أعقاب ذلك الفيلم، قدّمت فيلمًا مدته نصف ساعة تحت عنوان "7 أكتوبر: أحلك أيام إسرائيل" يصور الكيبوتسات المتضررة من هجوم "حماس"، ويدعي أن هناك العديد من الأطفال الذين راحوا ضحية ذلك "العدوان"، وإن لم يتحدث هذه المرة عن رؤوسهم التي قطعها المقاتلون، بالإضافة إلى الهجوم على حفل النوفا والمحتجزين لدى "حماس".

وفي كانون الثاني/يناير 2024، كانت لا تزال القناة قلقة على مصائرهم، وقد قدّمت تحقيقًا قصيرًا عن ما أسمته الإمبراطورية المالية لـ"حماس" التي تمول آلة الحرب الشرسة تلك وأذرعها البنكية المنتشرة حول العالم. 

وبحلول نيسان/أبريل، ومرور نصف عام على الحرب التي بدأت تتكشف مآسيها، حاولت القناة أن تتغلب على انحيازها منذ بداية الحرب لصالح إسرائيل، فقدمت من خلال المخرجة فارا شايكوسكي فيلمًا مدته ساعة تحت عنوان "الأيام المُظلمة: ست أشهر على حرب إسرائيل-غزة". وكما يبدو من العنوان، يتخذ الفيلم مسافة يظنها موضوعية من جميع الأطراف، وكذلك لناحية التنا،ا خلال الفيلم الذي يبدأ من خلال عرض دور صحافة الموبايل من الجانب الإسرائيلي التي وثقت من خلال كاميرا ما تعدهم ضحايا اعتداءات "حماس" في السابع من أكتوبر، ثم الانتقال للتصوير كذلك من خلال صحافة الموبايل من داخل مواقع خطيرة في قطاع غزة، وخاصةً في المستشفيات، لتصوير معاناة أهل غزة.

ورغم تلك المساواة غير المنطقية، إلا أن الفيلم يحوي صورًا هامة عن الجرائم الإسرائيلية ولكنه يبدو مماثلًا لتلك التقارير التي أصدرتها منظمة العفو الدولية عن عدوان عام 2014، والتي وانتقدها الكاتب نورمان فنكلستين في كتابه "غزة: بحث في استشهادها"، إذ إنها توزع الضحايا على مدار التقرير بشكل خادع يبرز فيه أن هناك ضررًا مساويًا واقعًا على الطرفين، حيث يفرد التقرير صفحتين لطفل إسرائيلي لقي حتفه على يد "حماس". وإذا كانت تلك الحسبة هي الأصح، فكان من الواجب أن تُفرد 1100 صفحة لتناول قصة الـ550 طفلًا الذين قتلوا في غزة جراء الهجمات الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة للأضرار المدنية التي تبلغ 1:18000، وتعرضها المنظمة كأنها مساوية، إضافةً إلى أن ترتيب التقرير يوحي بذنب حركة "حماس" كمحرك رئيسي للأحداث، وهو ما يبدأ منه الفيلم أيضًا وينتهي إليه. 

انطلقت "بي بي سي" من ذلك الفيلم لتقدم عددًا متواليًا من الأفلام والريبورتاجات التي سعت من خلالها إلى تقديم وجهة نظر فلسطينية، ولكن من خلال الانتقال إلى الضفة الغربية كمسرح للأحداث والابتعاد عن غزة وفضائح الإبادة الإسرائيلية.

قدّمت في البداية فيلمًا مدته ساعة ككشف صحفي لما أسمته "الحرب الأخرى"، إذ يدرس الفيلم الأوضاع في الضفة الغربية وانتهاكات الشرطة والجيش الإسرائيليين المستمرة بحق الفلسطينيين في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، ما يُنذر بانفجار حرب أخرى قادمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ولكن في الضفة الغربية.

وفي أعقاب ذلك الفيلم، قدمت أيضًا فيلمًا عن المستوطنات خارج القانون في فلسطين، وقد قُدم من ذلك الفيلم نسخة عربية كذلك عن طريق "بي بي سي عربي". والفيلم يبحث في وضع إسرائيل غير القانوني في المناطق التي احتلها وتعد غير خاضعة لسيادتها وفقًا للأمم المتحدة، وهي مناطق ينشط فيها الاستيطان الذي يقوده اليمين الصهيوني المتطرف وينفذه بأشكال عدة، منها الرعي الجائر في مناطق أراضي الفلسطينيين ومناطق هي حقهم، مت يؤدي إلى نزوحهم إلى فضاء لا تحميه فيهم أية سلطة من تلك الانتهاكات.

ولكن "بي بي سي"، وبمناسبة مرور سنة على الحرب، سرعان ما عادت لتبني السردية الإسرائيلية من جديد وأنتجت فيلمًا هو الأطول في تغطيتها للأحداث، حيث تصل مدته إلى ساعة ونصف، تحت عنوان "النجاة من 7 أكتوبر: سنرقص مجددًا"، الذي يعرض لأولئك الذين حضروا حفلة النوفا ونجوا من القتل أو الأسر، ومعاناتهم في أعقاب تلك النجاة وعلى مدار سنة ما زالت الحرب فيها مستمرة، والعيش بين الأمل في المستقبل واضطراب ما بعد الصدمة "تروما"، لتنقلنا بذلك إلى تغطية كانت الأكثر فجاجة على مدار عام من الحرب. 

"حماس" كاستجابة تاريخية أو شر نازي مطلق

واحد من أبكر الريبورتاجات التي ظهرت في تغطية "الحرب في الشرق الأوسط" أعدته قناة "أرتي" من خلال المخرجة والصحافية المغربية الفرنسية صوفيا عمارة تحت عنوان "حماس: صناعة وحش". ورغم أن العنوان يبدو فجًا إلى حد ما، إلا أن الفيلم ذاته يميل إلى عرض نشأة حركة "حماس" من خلال وضعها في سياقها التاريخي كردة فعل على الإحتلال الإسرائيلي والمستوطنات في الضفة الغربية وشريط غزة.

ويعتمد الفيلم في مصادره على أصوات فلسطينية كمنى الكرد التي يلفت النظر إلى نشاطها الإعلامي الذي سبق وأن أشرنا إليه في أحداث الشيخ جراح، وكذلك نبيل أبو ردينة المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، وأحد مقاتلي "حماس" الملثمين يُدعى "أبو عز"، ويتحدث عن سبب انضمامه للفدائيين، والعديد من الفلسطينيين الذين تضرروا من المستوطنات الإسرائيلية، ومن الذين فقدوا أبناءهم خلال مواجهات عدة ممتدة مع الكيان الصهيوني.

ولكن المشهد الافتتاحي للفيلم قد حدد أن زاوية العرض تستهدف عرض القضية كقضية مواجهة أنداد، حيث يُفتتح الفيلم بصور للخراب وأنقاض أحد المنازل التي هاجمها مقاتلو "حماس" في صباح السابع من أكتوبر، ثم صور أرشيفية للأسرى النساء العجائز الذين تم إطلاق سراحهم في الشهور الأولى من الحرب، والتي تجري صوفيا عمارة مقابلة مع إحداهن لتحدثها عن وضعها في الأسر كيف كان وكيف عُوملت، قبل أن تنتقل لعرض الفيلم الذي يُقسّم في خلال 53 دقيقة إلى ثلاثة مقاطع: الاحتلال، خطأ إسرائيل، خاتمة.

وأهم ما يُركز عليه الفيلم في شرح الفكر الجهادي لمقاتلي "حماس" هو شخصية الشيخ القرضاوي، إذ يلعب يوسف القرضاوي، وقناة الجزيرة، في الفيلم دورًا أكبر من دوره في الواقع بالنسبة لـ"حماس"، بل أكبر من دور الشيخ أحمد ياسين بحد ذاته، حيث يُقدّم على أساس أنه منظر الإرهاب المُوجه ضد المدنيين الإسرائيليين، والذي ألهم مقاتلي "حماس" للقيام بعدد من العمليات التي سقط فيها مدنيون إسرائيليون كان آخرها أحداث السابع من أكتوبر. 

ورغم ذلك التضخيم لدور القرضاوي، إلا أن الفيلم نجح في أن يبرر ذلك الموقف الذي تتخذه "حماس" من إسرائيل كرد فعل لاغتصاب إسرائيل المستمر للأراضي الفلسطينية، والقتل التعسفي للفلسطينيين. وتقدم نهاية الفيلم مشهدًا في أحد المزارع لجمع الزيّتون التي يعمل فيها فلسطينيون وإسرائيليون من معسكر "حمائم السلام" معًا على حد سواء، ويأكلون على طاولة واحدة، ويلعب أبنائهم معًا في صورة كليشيهية، ويُعبرون عن أمنيّاتهم في أن يتجاوز شعبيّهما تلك الكراهية والماضي الدموي والأمل في مستقبل جديد وبلد يتسع للجميع. 

ومن الأفلام التي تُعرض على منصة "أرتي" بالشراكة مع "زي دي إف" الألمانية، هو فيلم "نظام حماس" الذي يقدم للحركة صورة تأسيسيّة تضاهي تلك التي تُقدم للفكر النازي واستطاعته أسر قلوب الشعب الألماني بكل سهولة، وقد عُرض كتقرير قصير على قناة "أيه أر دي" من قبل تحت عنوان "حماس: السلطة من خلال الإرهاب". فحماس في هذا الفيلم منظمة جهادية تقوم بغسل أدمغة الأطفال من أجل تجنيدهم، كما أنها متشعبة وذات أذرع بنكية تنتشر في العالم كله من أجل تمويل ترسانة حربها الشريرة. 

يُعد الفيلم من أشد الأفلام تحيّزًا للسردية الإسرائيلية، فهو يقدم أحداث السابع من أكتوبر كحدث مشابه للهولوكوست، ويعبر عن الذهنية السياسية الألمانية التي ترى في نشر صورة من قطاع غزة أو الكوفية الفلسطينية نوعًا جديدًا من أنواع معاداة السامية الذي يجب الانتباه إليه مبكرًا قبل أن يقود إلى تغلغل فكرة معاداة السامية من جديد داخل أوروبا. 

إن تلك الفكرة جذابة جدًا للتغطية الإعلامية الألمانية، إذ لم تتوانى قناة "أيه أر دي" عن تقديم تقريرين تبلغ مدتهما ساعة، تربط فيهما بين اليسار السياسي والمظاهرات من أجل فلسطين في ألمانيا ومعاداة السامية.  جاء الفيلم الأول تحت عنوان "يسار، راديكالية، معاداة سامية: من أين تأتي كراهية اليهود؟"، والثاني "اليسار ومعاداة السامية؟". وعندما لا تقرر القناة أن تُدين الفلسطينيين، فإنها تقدم أفلامًا عن إمكانية التحاور بين الطرفيّن والتعايش كفيلم "حوار في الشرق الأوسط"، أو تعايّشهما داخل المجتمع الألماني كفيلم "مجتمع ممزق؟ ألمانيا والحرب في الشرق الأوسط".

ومؤخرًا، تعرض قناتيّ "أيه أر دي" و"زي دي إف" الألمانيتان مسلسلًا وثائقيًا تحت عنوان "مسرح الجريمة: إسرائيل"، الذي يقدم رواية معتادة عن الحرب في ثلاث حلقات، تنطلق كمعادلة رياضية بسيطة: هجوم حماس على الحفلة الغنائية، رد إسرائيلي شرعي، حرب يذهب ضحيتها مدنيون أبرياء كأضرار جانبية، ورهائن لم يتضح مصيرهم بعد سنة من الحرب.

"التروما" بوصفها ملاذًا آمنًا 

في أيلول/سبتمبر، قبل "طوفان الأقصى" بشهر، قامت قناة "دويتش فيله" الألمانية بعرض فيلم "أطفال وراء القضبان" الذي يتناول عمليات الاعتقال التعسفي التي تقوم بها الشرطة الإسرائيلية بحق أطفال فلسطينيين أبرياء، ثم تقديمهم للمحاكمة العسكرية والحكم عليهم بأحكام قاسية. 

من حسن الحظ أني شاهدت الفيلم وحفظته على حاسوبي الشخصي، وأن موقع القناة بالعربية والإنجليزية لا يزال يحتفظ بالمقطع الترويجي للفيلم ومواعيد عرضه على القناة.

فبعد بداية الحرب في الشهر الذي أعقب عرض الفيلم، لم يبق من الفيلم سوى مقاطعة الترويجية، حيث قامت القناة بحذف الفيلم تمامًا لتقديم تغطيّتها المنحازة بشكل كامل إلى إسرائيل على مدار سنة من الأحداث، وبشكل مشابه جدًا للتغطية الألمانية بصفة عامة. 

وبعد شهريّن على الحرب، قدمت القناة فيلمًا تحت عنوان "العيش بعد الهجمات الإرهابية" يناقش في نصف ساعة مأساة "صوفي"، الناجية من "الهجمات الإرهابية لحماس"، والتروما التي تعانيها كما تعرض القناة. وطيلة سنة من الحرب، لم تُعد القناة لتقدم أي شيء سوى فيلمًا عن أحد القرى التي يتعايش فيها العرب مع الإسرائيليين كجيران وبسلام، ليكون ذلك حصيلة القناة ذات الإنتاجية الضخمة للأعمال الوثائقية على مدار سنة من الحرب. 

لقد احتل موضوع "التروما" تغطيات عدة، أبرزها فيلم المخرج الإسرائيلي "دوكي درور" الذي لا يعد نفسه صهيونيًا، وقدمته قناة "زي دي إف" الألمانية وعرضته بالشراكة مع قناة "أيه أر دي" و"أرتي" تحت عنوان "تروما في الشرق الأوسط: السابع من أكتوبر وعواقبه". 

ينطلق الفيلم في تحليله للحرب من تحليل مفهوم "التروما" الذي يؤثر على الفلسطينيين والإسرائيليين معًا، وينتج هذا السلسال من التاريخ الدموي بينهما. والنقطة المُشرقة فيه أنه يعرض بالنسبة للجانب الفلسطيني مفهوم "النكبة" وعودته إلى جذور حرب 48، ولكنه في المقابل يعرض التروما لدى الإسرائيلي تجاه الهولوكوست وحاجة اليهودي إلى العيش بأمان. وتكمن المشكلة الرئيسية أن الفيلم يتجاهل حقيقة أنه لم يكن للعرب أي دور في الهولوكوست، وكذلك سؤال: لماذا إذن عليهم أن يدفعوا هذا الثمن لحاجة اليهود للعيش في أمان؟

لقد لفت نورمان فنكلستين النظر من قبل إلى الاستسهال في الحديث عن التروما، حيث رأى أنه من السهولة اللجوء إلى تصنيف التوتر والصدمات على قدم المساواة ضمنيًا مع الموت والدمار الذي عانى منهما المدنيون، وبين الأعمال التي تسعى الإنسانية حتى الآن إلى إلغائها. فإذا انطلقت صفارات الإنذار من جراء صاروخ منطلق من غزة وأدى ذلك إلى شعور الإسرائيليين بالقلق، فهذا لا يعني أن "حماس" انتهكت قوانين الحرب، ولكنه يعرض في تقارير المنظومات الحقوقية بصفته انتهاكًا لقوانين الحرب.

إن تلك التقارير التي تحاول دائمًا أن تدين "حماس" تلجأ إلى إضفاء التكافؤ على ظروف المعاناة التي سعت قوانين النزاع أن تفرق بينها، فإذا عانى الإسرائيليون من الكرب لأنهم لم يتمكنوا من مغادرة منازلهم، فقد عانى الفلسطينيون لأنه لم تعد لديهم منازل ليعودوا إليها. وإذا عانى الإسرائيليون الخوف من التعرض لإصابات في طريقهم للملاجئ، فقد عانى الغزيّون الخوف لأنه لا يوجد لديهم أي مكان يمكنهم اللجوء إليه في وسط جحيم من النيران المتعمدة التي تصب عليهم.

وإذا وجدوا ملجًأ، فالخوف يتجدد من الأسلحة الدقيقة لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف الملاجئ. يؤكد فنكلستين أن مُعدي تلك التقارير يدركون هذه التمييزات الأساسية ولكنهم اختاروا نبذها لا بدافع الحساسية الأخلاقية نحو جميع أنواع المعاناة الإنسانية، أو بسبب الرفض المستنير لتصنيف المعاناة الإنسانية، ولكن فقط من أجل المحافظة في هذه التقارير على مظاهر مزيّفة بالاتزان وعدم التحيز. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

جنود من الدروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي

كيف نفهم خدمة الدروز والبدو في الجيش الإسرائيلي؟

انخرط الدروز والبدو الفلسطينيين في جيش دولة الاحتلال بسبب سياساتها الاستعمارية القائمة على تقسيم المجتمع الفلسطيني، واستغلال حاجة الأقليات/الجماعات الصغيرة للأمان والبقاء

هبة حمارشة

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني