في نيسان/أبريل الماضي، اختفى الفتى بنيامين أحيمئير (14 عامًا) بعد خروجه لرعي الأغنام في بؤرة استيطانية تدعى "ملآخي هشالوم"، المقامة على أراضي قرية المغيّر الفلسطينية قرب رام الله. عادت الأغنام وحدها إلى المزرعة، ليتم العثور على جثة الفتى في المنطقة لاحقًا. أشعل هذا الحدث موجة من الاعتداءات الانتقامية شنها المستوطنون على أكثر من 36 قرية فلسطينية تمتد من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها.
تسلط حادثة اختفاء الفتى بنيامين الضوء على جانب أعمق من مشروع "الاستيطان الرعوي"، الذي يُستخدم للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية المصنفة "ج" تحت غطاء النشاط الزراعي.
بهذه الممارسات يعزز المستوطنون قبضتهم على الأرض، ويضيّقون الخناق على الفلسطينيين في مناطقهم، وكل ذلك تحت حماية وتشجيع سلطات الاحتلال.
بنيامين أحيمئير هو أحد المستوطنين "الرعاة" بالضفة الغربية، الذين يسعون للاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي، تحديدًا تلك المصنفة "ج" (تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، بحسب اتفاقية أوسلو)، لجعلها خالصة لهم وطرد الفلسطينيين منها. ورغم أن الاستيطان الرعوي يحمل في باطنه السيطرة غير المحدودة على الأراضي، إلا أنه يسعى أيضًا للترويج لصورة "الفلاح" المستوطن المرتبط بالأرض عبر ممارسة سلوك الفلاح الفلسطيني فيها.
في هذا السياق، أشار المختص بالشأن الإسرائيلي أنس أبو عرقوب إلى أنه منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، كان هناك هاجس لدى منظري الحركة لخلق ما يصفونه بـ"اليهودي الجديد" بتحريره من صفة اليهودي المتجول الذي، بحسب اعتقاداتهم، ليس له علاقة بالأرض ولا ارتباط بمكان أو وطن.
وأراد الجيل الجديد من مستوطني اليمين، وفق أبو عرقوب، التخلص من هذه الصورة النمطية وإيجاد هوية جديدة قائمة على فكرة أن هؤلاء المستوطنين لهم علاقة بالأرض وأنها لم تنقطع، مع الترويج لها.
هذا الترويج لعلاقة المستوطن بالأرض، وعدم انقطاعه عنها، يمنحه "شرعية" الهجوم على الأرض كي يرثها باعتباره "وريث" أسلافه السابقين. وهنا لا بد من الإشارة إلى تصريحات وزيرة البيئة في حكومة الاحتلال، عيديت سيلمان، عندما قالت مؤخرًا: "في محور فيلادلفيا وفي جنين وفي نابلس، يجب أن نهاجم لكي نرث الأرض، يجب استخدام هذا المصطلح وليس مصطلح احتلال الأرض". لا سيما أن الأول يمنح هذه "الشرعية" للهجوم وتوسعة الوجود اليهودي في الضفة الغربية، بينما الأخير لا يمنح هذه الشرعية ويؤكد على حقيقة الأمر الواقع في فلسطين بمعناه اللغوي، (الاحتلال: دخول البلاد والاستيلاء على أراضيها قهرًا وغزوًا).
ويُلاحَظ هذا أكثر في قول أحد المستوطنين من بؤرة "تلة أهوفيا" الاستيطانية، يقطن فيها نحو 6 مستوطنين ولديهم 200 رأس من الغنم، إن: "رعي الأغنام قد يبدو أنه مصدر رزق، لكن الفكرة من ورائه ليست اقتصادية وهذا واضح للجميع.. وإنما هي حاجة استيطانية للاستيلاء على المكان. نحن نريد أن يكون هناك يهود في الضفة الغربية وليس عربًا"، وفق تقرير للباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، وليد حباس، بعنوان "الاستيطان الرعوي في الضفة الغربية: (نريد أن يكون فقط يهود في الضفة الغربية وليس عربًا)".
الاستيطان الرعوي جوهر اليمين الإسرائيلي
سيطر الاستيطان الرعوي على نحو 410 آلاف دونم من الأراضي المصنفة "ج"، أي نحو 7% من مساحتها، بإقامة قرابة 95 بؤرة زراعية رعوية عليها منذ بدايات هذا الشكل من الاستيطان في العام 1984 ولغاية نهاية النصف الأول من العام الجاري 2024، وفق توثيق "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، علمًا أن المنطقة المصنفة "ج" تشكل نحو 60% من مساحة الضفة الإجمالية (البالغة حوالي 5660 كيلومترًا مربعًا).
في هذا الشأن، قال أمير داود، مدير عام النشر والتوثيق في الهيئة، إن الاستيطان الرعوي يأخذ المسار غير الرسمي في المشروع الاستيطاني بالضفة الغربية، حيث تسمح حكومة الاحتلال للمستوطنين بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية من خلال إنشاء بؤر زراعية رعوية وأخرى سكنية، والتي لا تختلف عن المستوطنات "المعترف بها" سوى أنها أقيمت دون ترخيص رسمي من الحكومة أو خطة تسمح لهم بالبناء.
وأضاف أن حكومة الاحتلال تساعد هذه البؤر الرعوية وغيرها عبر توفير الحماية للمستوطنين، وشق الطرق وتزويدهم بالكهرباء والماء وتقديم الدعم لهم عبر قنوات حكومية ومجالس المستوطنات، ومنح أفضلية لمشاريع اقتصادية ومنشآت زراعية ودعم مزارعين، وحماية قانونية ضد الالتماسات التي تطالب بإخلائهم.
يأتي ذلك في سياق أهداف الاحتلال للسيطرة على الأراضي بالضفة التي لم تستطع الطرق الرسمية سلبها، وتحويل هذه البؤر الرعوية إلى أمر واقع، علمًا أنه "شرعن" نحو 25 بؤرة من إجمالي عددها المذكور أعلاه، ما يعني تحويلها إلى مستوطنة معترف بها بحسب داود.
وبخصوص تحولات المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، لا سيما الاستيطان الرعوي، أشار داود إلى سياقين في هذا الأمر، يرتبط الأول بـ"حزب العمل" الإسرائيلي (يساري علماني) الذي تولى رئاسة الحكومة منذ قيام "إسرائيل" عام 1948 وحتى نهاية السبعينيات، والذي كان يرى في إقامة المستوطنات اعتبارات استراتيجية مرتبطة بالحفاظ على أمن دولة الاحتلال. لكن مع قدوم "حزب الليكود" اليمني (تولى الحكم أول مرة عام 1977)، كان هناك تغير كبير على هذه المعادلة بالسيطرة على أراضي الضفة الغربية بشكل كامل، واعتبارها جزءًا من دولة "إسرائيل".
ويدلل على ذلك اختيار المستوطنين لأماكن بؤرهم الرعوية الاستيطانية بأن تكون بالقرب من بؤرة سابقة مقامة في المكان ذاته، للسيطرة على الأراضي الواقعة بينهما، أو بالقرب من مستوطنة "معترف بها" مع توسعة الأخيرة لحدودها بما يشمل البؤرة الجديدة، وتصبح لاحقًا حيًّا بداخلها. أو بإقامة البؤرة الرعوية بالقرب من التجمعات الفلسطينية لمنعهم من التمدد وحشرهم في مناطق ضيقة، وهذا ينعكس بطبيعة الأمر الواقع على الوجود الفلسطيني والعبث بالجغرافيا، بما يحول دون إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، وفقًا للمصدر ذاته
وتتعزز هذه الرؤية ومخاطر الاستيطان على الفلسطينيين بالأهداف التي يؤمن بها وزير مالية الاحتلال المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي يولي اهتمامًا كبيرًا للمشروع الاستيطاني، ومنع قيام دولة فلسطينية. وهذا أمر ليس غريبًا على زعيم "الصهيونية الدينية" انطلاقًا من الأيديولوجيا التي يؤمن بها.
وتوصف "الصهيونية الدينية" بأنها: "حركة صهيونية دينية معارضة للتيار العلماني. وتحولت إلى حزب سياسي باسم (همزراحي) العام 1902"، بحسب المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار".
وينادي الحزب بشعار "أرض إسرائيل لشعب إسرائيل بموجب شريعة إسرائيل"، مع إيمانهم بـ"أن اليهود أُمّة مميزة عن بقية الأُمم وذلك يعود إلى أن الله بنفسه أوجدها، فهي - الأمة اليهودية - تخص الله، وأن اتحاد الكيان اليهودي الحقيقي يكون فقط بتوجيه الفكر اليهودي نحو التوراة وفلسطين باعتبارهما ركنين مهمين للغاية في تاريخ وحياة الأُمة اليهودية." وفقًا للمصدر نفسه.
وما يدعم هذه الرؤية الاستيطانية لسموتريتش ما أشار إليه الكاتب الإسرائيلي ناحوم برنياع في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إلى أن هدفه الذي حدده منذ 2017 ثابت، وهو: "انهيار السلطة الفلسطينية، ومنع قيام دولة فلسطينية، وفرض 3 خيارات على 7 ملايين عربي يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط: إمّا الموت في المعركة، أو الهجرة إلى الخارج، أو البقاء كمواطنين من الدرجة الثانية"، وفقًا لترجمة "الترا فلسطين" لمقاله الذي حمل عنوان "الضمّ الفعليّ: هكذا سيطر سموتريتش على الحياة المدنيّة خارج الخط الأخضر".
مشاهد من الاستيطان الرعوي بالضفة الغربية
يُلاحظ في الاستيطان الرعوي في الضفة الغربية مساحة الأراضي الواسعة التي يسيطر عليها مستوطن مسلح واحد أو عدة مستوطنين، كما فعل المستوطن "الراعي" جدعون بسيطرته على أكثر من 20 ألف دونم من أراضي قرى عورتا ويانون وبيت فوريك وعقربا في نابلس، تمتد من مستوطنة "إيتمار" وحتى مستوطنة "جتيت"، وفق توثيق مدير مركز أبحاث الأراضي شمال الضفة محمود الصيفي.
ويضاف إلى ذلك سيطرة الاستيطان الرعوي في قرية بيت دجن شرق مدينة نابلس على أكثر من 25 ألف دونم، من شمال وشرق القرية وحتى حدود مستوطنة "الحمرا" المقامة بالكامل على أراضي بيت دجن وفروش بيت دجن، رغم محاولات الأهالي منع ذلك وتوقيفه ونجاحهم في هذا الأمر أكثر من مرة، عبر تشكيل لجنة الدفاع عن الأراضي، وفق الصيفي.
ويضاف إلى هذه البؤر الاستيطانية الرعوية عدد المستوطنات المقامة في الضفة، حيث وثق مدير مركز أبحاث الأراضي شمال الضفة إنشاء حوالي 198 مستوطنة في الضفة الغربية تسيطر على نحو 33% من أراضي "ج". ومن هذه المستوطنات 107 مقامة غرب الضفة على طول الخط الأخضر، و53 مقامة في قلبها، و38 مستوطنة مقامة شرقها، بما فيها الأغوار.
ومن الأمثلة الأخرى على الاستيطان الرعوي ما قاله الناشط ضد الاستيطان، مراد الدروبي من قرية شوفة بطولكرم، بأن مستوطنًا واحدًا، ليس من مستوطني مستوطنة "أفني حيفتس" المقامة على أراضي القرية ومناطق أخرى، بدأ منذ قرابة العام 2017 برعي أغنام بحدود المستوطنة أو بالقرب منها، وتوسع لاحقًا إلى تجريف أراضٍ وبناء "بركس" (تستخدم حظائر للماشية) خارج حدود المستوطنة.
ويحاول المستوطن "الراعي"، الذي ضم إليه خلال السنوات السابقة نحو 11 مستوطنًا "راعيًا"، الهيمنة على نحو 200 إلى 300 دونم خارج حدود "أفني حيفتس"، عبر اتباعه سياسة التخويف وطرد الأهالي ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم لتكون فارغة. ورغم الاعتداءات، استطاع الأهالي الحفاظ على 200 دونم من المساحة المستهدفة (وهي أراضٍ زراعية في قرية شوفة)، بوصولهم إليها وزراعتها.
ويعد الاستيطان الرعوي من أخطر أشكال الاستيطان بالضفة لأن لا حدود له، فالمستوطن، بعدة رؤوس أغنام، يعمل على نشر سياسة الخوف للسيطرة على الأراضي وطرد أصحابها منها، بحسب الدروبي.
وحول حدود الاستيطان الرعوي المفتوحة، قال وليد حباس في تقريره: "هذه التخوم، التي يرسمها الاستيطان الرعوي، ليست ثابتة؛ فالمستوطنون الرعاة يتحركون باستمرار مع توسيع المراعي، مما يقلص أراضي السكان الأصليين ويحصرها، وغالبًا ما يجعلها جيوبًا مغلقة ومحاصرة. في الوقت نفسه، لا يزال "الخارج" (المنطقة "ج" تحديدًا) فضاءً مفتوحًا للتوسع الاستيطاني المستمر".
أبقار "رعاة" المستوطنين تصل الأرض وأصحابها لا
روى المزارع سعد عواد من قرية عورتا جنوب نابلس ما يفعله المستوطنون "الرعاة" في أراضي عائلته بالقرية، والبالغة نحو 80 دونمًا تقع ضمن تصنيف "ج"، حيث لا يستطيعون الوصول إليها إلا بتنسيق مسبق مع الاحتلال، لا سيما في موسمي حراثة الأرض أو قطف أشجار الزيتون.
وإذا نسق لهم للوصول إلى الأرض، لا يمنحون المدة الكافية للعناية بها أو قطف أشجار الزيتون في الموسم، بإعطاء ثلاثة أيام لحراثة الأرض رغم الحاجة لنحو أسبوعين لإتمام ذلك، والمدت ذاتها لقطف الزيتون، مع استغراق الأمر بالوضع الطبيعي لنحو شهر. وفي المقابل، يسمح الاحتلال لـ"رعاة" المستوطنين الوصول إلى أراضي عائلة عواد ورعي المواشي فيها، والتضييق عليهم.
ونتيجة الاستيطان الرعوي في هذه الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون، ومنع المستوطنين والاحتلال أصحابها من الوصول إليها والاعتناء بها وحراثتها، تراجع إنتاجها إلى نحو 25 تنكة زيت العام الماضي، مقارنةً بحوالي 120 تنكة كانت تنتجها سنويًا.
ويستولي الاستيطان الرعوي على نحو 5 آلاف دونم من أراضي قرية عورتا، البالغة نحو 23 ألف دونم، منها قرابة 15 ألف دونم مصنفة "ج"، وفق عواد الذي هو أيضًا نائب رئيس المجلس القروي.
ويمارس "رعاة" المستوطنين نشاطهم الاستيطاني خارج حدود مستوطنة "إيتمار" وبؤرة "جدعون" اللتين تستوليان أيضًا على نحو 8 آلاف دونم من أراضي "ج" بالقرية.
ويترك الاستيطان الرعوي آثاره المدمرة على البيئة وأشجار الزيتون وأنواع من النباتات، حيث شاهد عواد أبقار المستوطنين وهي ترعى في أرضه وتأكل أغصان الزيتون، الذي بات مشهدًا مكررًا، كذلك فقدان أنواع من النباتات نتيجة الرعي الجائر في الأرض، وتدفق المياه العادمة إليها من مستوطنة "إيتمار".
لا تنتهي صور "الاستيطان الرعوي" في الضفة الغربية المحتلة، وما زالت ماشيتهم ترعى في الأراضي، وسط سعي مفتوح للاستيلاء عليها، بالتزامن مع الاعتداء على أصحابها لمنعهم من الوصول إليها. ويظهر ذلك في توثيق مركز أبحاث الأراضي، حيث أشار إلى وقوع نحو 320 اعتداءً مباشرًا من المستوطنين "الرعاة" على المزارعين الفلسطينيين وأراضيهم خلال النصف الأول من العام الجاري 2024، وتشمل هذه الاعتداءات اقتلاع أشجار الزيتون أو قصها، وكذلك حرقها أو تسميمها أو قطعها.