في الـ4 من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أعلنت جمهورية تشاد استدعاءها القائم بأعمال سفارتها في تل أبيب احتجاجًا على "قتل المدنيين الأبرياء في قطاع غزة"، بحسب ما جاء في بيان الخارجية التشادية، الذي أضاف: "تدين تشاد الخسائر في أرواح المدنيين الأبرياء وتدعو إلى وقف إطلاق النار بما يؤدي إلى حل دائم للقضية الفلسطينية. ونتيجة لذلك تقرر استدعاء القائم بالأعمال في إسرائيل للتشاور".
طبَّعت تشاد وإسرائيل علاقاتهما عام 2019، بعد قطيعة دامت لأكثر من أربعين عامًا، أي منذ عام 1972، عقب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى أنجمينا عاصمة تشاد في كانون الثاني/يناير من العام نفسه. وكان الرئيس التشادي الراحل، إدريس ديبي، قد زار تل أبيب في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، ليصبح ثاني رئيس تشادي يزور إسرائيل.
مات ديبي في معارك مع المعارضة المسلحة في نيسان/أبريل سنة 2021، وخلفه في رئاسة تشاد ابنه محمد الذي واصل السير على خطى والده بخصوص العلاقات مع إسرائيل، التي زارها هو الآخر في شباط/ فبراير 2023، ليُعلن من هناك افتتاح سفارة تشادية في تل أبيب، والتعاون بين البلدين في مجالات الأمن والزراعة والمياه وغيرها.
لا ينعكس هذا التوجه الرسمي على المستوى الشعبي، فقد شهد الشارع التشادي تضامنًا واسعًا مع فلسطين في مواقف عدة. ففي الـ2 من آب/أغسطس 2024، نظم مجموعة من الناشطين صلاة الغائب على روح الشهيد إسماعيل هنية في ساحة من ساحات الدائرة الثامنة بالعاصمة أنجمينا. وبمبادرة عدة أئمة، وحدت عدد من المساجد خطبة الجمعة لتناول موضوع العدوان على غزة.
وهذه ليست المفارقة الوحيدة، إذ تطبع مفارقات كثيرة تاريخ العلاقات التشادية الإسرائيلية، على رأسها أن الرئيس المسيحي أنقرتا تومبالباي هو الذي قطع العلاقات مع إسرائيل، بينما الذي أعادها هو المسلم إدريس ديبي.
وصلٌ فقطيعةٌ فتطبيع
حين استقلت جمهورية تشاد من الاستعمار الفرنسي سنة 1960، سارعت إسرائيل إلى بناء علاقة معها، كما فعلت مع معظم الدول الافريقية، بحجة أنها بلاد صغيرة استقلت من الاستعمار البريطاني. وهكذا فتحت سفارتها في أنجمينا عام 1964. وبعدها بعام، قام أول رئيس تشادي، أنقرتا تومبالباي، بزيارة لتل أبيب. لكن العلاقات قطعت في عام 1972 بسبب العدوان الإسرائيلي، وبجهود سعودية ومصرية.
وعقب ذلك القرار، زار الملك فيصل بن عبد العزيز تشاد في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، وهو ما اعتبر وقتها زيارة تاريخية، حيث وضع حجر أساس لبناء أكبر مركز تعليمي وأكبر مسجد وأكبر سوق في العاصمة الصغيرة. في المقابل، لم تعد هناك أي علاقة بين تشاد وإسرائيل، خاصةً أن الرئيس تومبلباي المسيحي أدرك حساسية أنه يحكم دولة تتكون من غالبية تدين بالإسلام، ومجاورة لبلدان عربية مثل ليبيا والسودان.
وفي عام 1982، وعقب حروب أهلية طويلة عرفتها تشاد، وصل الرئيس حسين حبري إلى حكم البلاد، وكان شيوعيًا وثوريًا، فسعى إلى تقوية العلاقات مع فلسطين والوقوف بشكل كامل مع القضية الفلسطينية.
وبعدها بسبع سنوات، عام 1989، زار القائد الفلسطيني ياسر عرفات تشاد والتقى بالرئيس حبري. وقال عرفات في خطاب بتلك المناسبة: "يسعدني أن أقول إننا حريصون على تمتين هذه العلاقة الفلسطينية التشادية، وكذلك العلاقات الإفريقية العربية، لأنها علاقات تاريخية وحضارية، وعلينا جميعًا أن نبذل كل الجهد من أجل تقوية هذه العلاقات على كافة الأصعدة وعلى كافة المستويات، نحن لا ننسى هذا الموقف الأخوي الذي يقفه الشعب التشادي وأخي الرئيس بجانب قضية فلسطين العادلة".
كما شكر عرفات نظيره حبري على موقفه الداعم للشعب الفلسطيني في كل المنابر، في الأمم المتحدة أو القمة الإفريقية وغيرها من المحافل. وختم ذلك اللقاء بإهداء ياسر عرفات نسخة من القرآن الكريم المكتوب يدويًا والمرصع بشعار القدس والمسجد الأقصى.
وحين وصل إدريس ديبي إتنو إلى السلطة بدعم من السودان وليبيا، كان واضحًا أن عليه الابتعاد عن مساعي إسرائيل في بناء علاقة مع تشاد نظرًا لقربها من الدول العربية، ولوجود مكون إثني وثقافي عربي كبير في البلاد، كما أنّ العربية لغة رسمية فيه.
استمر الحال على ذلك إلى حدود عام 2016، حين بدأت مفاوضات سرية بين تل أبيب وأنجامينا، وأتى ذلك وفق الشعار الذي رفعته "إسرائيل تعود إلى إفريقيا.. إفريقيا تعود إلى إسرائيل"، بهدف بناء علاقات جديدة مع الدول الإفريقية عقب تمكنها من التقارب مع عدد من بلدان شرق القارة السمراء.
كان إدريس ديبي وقتها بحاجة إلى أسلحة وعتاد من أجل صد هجمات المعارضة المسلحة في الشمال. وعلى الناحية الأخرى، روج الموساد بأنه قادر على إمداده بها. لكن تلك المفاوضات ظلت عند نقطة تبادل زيارات وفود من حين لآخر، حتى شعر إدريس بالخطر من قوة المعارضة المسلحة، وتزامن ذلك مع ظهور بوادر تطبيع دول عربية لعلاقاتها مع تل أبيب، الأمر الذي شجع ديبي إلى زيارة تل أبيب، وإقامة علاقة بعد قطيعة استمرت لأكثر من أربعة عقود.
ومع وصول محمد إدريس ديبي للحكم، كرئيس انتقالي للبلاد بعد مقتل والده في معارك مع مقاتلي "جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد"، المعروفة اختصارًا بـ"FACT"، شعر الرئيس الجديد بأنه بحاجة إلى أدوات وأساليب أمنية متقدمة تحفظ له حكمه، فنصب أخاه عبد الكريم إدريس ديبي كمدير لوزارة الخارجية، ودفعه إلى السفر بشكل سري إلى إسرائيل في مرات عديدة قابل خلالها رئيس الموساد، حسب ما كشفت مجلة "لو جون أفريك".
رفض شعبي مستمر للتطبيع
بدأت العلاقة التشادية مع فلسطين في بدايات القرن العشرين، إذ اعتاد الحجاج التشاديون زيارة القدس الشريف عقب الحج إلى مكة. فبحسب العادات المعمولة بها آنذاك، كان التشادي في رحلة حجه يسافر على الدّواب إلى السودان كي يعبر البحر الأحمر متوجهًا إلى مكة، وبعد ذلك عليه أن يكمل طريقه إلى القدس الشريف كي "يبارك حجه"، وهكذا وصل البعض منهم إلى القدس وبقوا فيها.
ففي مقالة بعنوان "تشاديون عشقوا القدس واستقروا فيها" للصحفية جمانة أبو عرفة، نقرأ عن أسر تشادية تعيش في القدس. وتحفظ سجلات التاريخ أن فاطمة البرناوية، أول أسيرة في سجون الاحتلال، هي فتاة تشادية رغم ذهاب أغلب المصادر إلى أنها من أصول نيجيريا. فالحقيقة أن والدها ينتمي إلى قبيلة البرنو التي تتواجد في تشاد ونيجيريا، وكان قد غادر قريته الواقعة في تشاد قبل تقسيم الحدود للحج، ثم استقر في القدس وحارب في الثورة العربية في فلسطين 1936-1939، عُرفت لاحقًا بـ"الثورة الكبرى".
أما فاطمة البرناوية، فقد اعتقلت في العام 1967 عقب زرعها قنبلة في مسرح يهودي في القدس الغربية، وحكم عليها بالمؤبد ثم أفرج عنها بعد عشر سنوات وأبعدت إلى لبنان. فيما تكشف العديد من المعطيات التاريخية أن التواجد التشادي في فلسطين يعود لما قبل عام 1948، وأن التشاديين قرروا العيش هناك والوقوف مع القضية الفلسطينية رغم الإغراءات. وبحسب الفلسطيني من أصول تشادية، موسى قوس، المدير التنفيذي لجمعية الجالية الإفريقية؛ فإن معظم الأفارقة الذين وصلوا إلى القدس في بدايات القرن العشرين كانوا ذكورًا وأنهم عاشوا في القدس العتيقة، واتخذوا من "باب المجلس"، أحد أبواب المسجد الأقصى، مكانًا للسكن.
ويسترسل قوس في مقابلة قائلًا إن معظم الذين هاجروا من الدول الإفريقية كانوا رجالًا عاشوا في القدس العتيقة وتزوجوا من أهلها، وسكنوا في أرجائها. لكن الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس خلال فترة الانتداب البريطاني، استخدم نفوذه حينذاك وأجّرهم المبنيين المقابلين لباب المجلس، ويدعيان الرباطين المنصوري والصليبي. كانا عبارة عن سجنين خلال فترة الحكم العثماني لمدينة القدس". ويضيف: "هذان السجنان كانا يدعيان خلال فترة الحكم العثماني (سجن الرباط) و(سجن الدم)، لكنهما تحولا فيما بعد إلى مركز لسكن المقدسيين الأفارقة بأجور رمزية، بسبب علاقتهم القوية بالمفتي الحسيني. كما أنّ الأخير تعمد القيام بذلك حتى يكونوا قريبين من المسجد الأقصى بهدف حمايته".
وبحسب المدير التنفيذي لجمعية الجالية الأفريقية، فإن أول شهيد مقدسي أفريقي كان الحاج عثمان التكروري، الذي قتل بيد الاحتلال البريطاني داخل المسجد الأقصى، وهو يحاول منع اعتقال مفتي القدس أمين الحسيني. وأضاف: "كان للمفتي الحسيني ستّة من الأفارقة المقدسيين كحراس دائمين له. لثقته بقوتهم وولائهم وحبهم للمدينة والمسجد الأقصى".
ويستهل الباحث في علم التاريخ والعلوم الاجتماعية بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، ياسر قوس، مقاله المعنون" أفارقة القدس: الغربة والغربة المضادة"، بالحديث عن أصوله بالقول: "في منتصف السبعينات ولدْت في مدينة القدس لعائلة من سبعة أفراد كنت ثامنهم. أبي "إفريقي" قدم من مدينة ماسينا في تشاد، وأمي "بيضاء" فلسطينية من مدينة أريحا في غور الأردن. كبرت وترعرعت في الحي الأفريقي كطفل "مُولّد"، هذا المُصطلح الذي تعارف أفراد الجيل الأول للمهاجرين الأفارقة المقدسيين على إطلاقه علينا، نحنُ الأطفال المولودون نتاج زواج مختلط أفريقي - فلسطيني".
وينقل صاحب المقال عن حسني شاهين، الباحث الفلسطيني من أصول إفريقية، أن: "الأفارقة المسلمون ينحدرون من عدة بلدان إفريقية منها: نيجيريا، تشاد، السودان الفرنسية - مالي حاليًا - والسنغال. وأنهم كذلك، مجموعة تنحدر من عدة قبائل أفريقية عربية، تتضمن كل من: قبائل الهوسا، السلامات، البرقو، الزغاوة، البرنو، الكانمبو، والبلالة".
فالملاحظ أن احتكاك الشعب التشادي مع فلسطين والقضية بدء باكرًا، علمًا أن معظم هذه القبائل التي ذكرها الباحث عاشت وتعيش فيما سمي لاحقًا بجمهورية تشاد. لكن الموقف الشعبي المناصر للقضية تبلور أيضًا من خبرة الشعب التشادي بتجربة الاحتلال المريرة، لأنه تذوق المرارة والعنف على يد فرنسا. واليوم هناك منظمات وجمعيات مدنية تشادية تناصر فلسطين، وتنظم مهرجانات ووقفات داعمة للشعب الفلسطيني، خصوصًا في الوقت الذي يعيش فيه إبادة في غزة.
وعلى رأس هذه المنظمات مؤسسة "تجمع تحالف جميعات المجتمع المدني من أجل القدس"، التي تقيم مهرجانات وتصدر بيانات استنكارية في كل مرة يحصل تصعيد أو مجازر في فلسطين، كما أنها تمكنت من توحيد المنابر والمساجد في تشاد لجعل الخطاب كله عن القضية الفلسطينية تزامنًا مع الحرب الجارية.
وفي 25 كانون الأول/ديسمبر 2023، نظمت منظمة "النهضة الشبابية التشادية" مسابقة "أقلام الأقصى" التي تبارى فيها المشاركون على كتابة مقالة حول القضية الفلسطينية، ودعي إليه الطلاب وأصحاب الأقلام الإبداعية كي تكون وقفة ودعمًا للقضية. كما نظمت مؤسسة تدعى "رؤيا" ملتقى خاص بفلسطين، تضمن فعالية تخييم أطلق عليها اسم "مخيم العودة"، حيث قدمت الكثير من المحاضرات والدورات التحسيسية حول القضية والمقاومة وكيفية مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل.
علاوة على هذا، وفي كل مناسبة تسعى فيها الحكومة إحداث تقارب في العلاقات مع إسرائيل، تظهر هاشتاغات تطالب بقطع تلك العلاقات، آخرها هشتاغ "تشاديون ضد التطبيع" الذي وصل إلى أرقام تداول هائلة.
يدفعنا ما سبق للقول إن للشعب التشادي، ومنذ القدم، موقف راسخ تجاه القضية الفلسطينية يتأكد حين تنزل إلى الشارع وتسأل، فتدرك حينها أن الجميع يقف مع الفلسطينيين وحقهم في العيش بسلام في بلادهم، على الرغم من تحرك الحكومات وفق مصالحها والتغييرات السياسة في الشرق الأوسط.