عرفت جمهورية تشاد ممالك إسلامية عدة مكّنتها من التعرف على العلوم الدينية واللغة العربية باكرًا، فأنجبت علماء وشعراء عُرفوا في الأقاصي، أشهرهم الشاعر إبراهيم الكانمي وعبد الحق السنوسي. وكان أول تواصل معلوم تاريخيًا بين المجتمع التشادي واللغة العربية في القرن السابع الميلادي، وتحديدًا عام 666 ميلادية، عند وصول عقبة بن نافع إلى جبال تبستي شمال تشاد.
بدأ انتشار اللغة العربية في تشاد مع تحول الحكم إلى الفرع المسلم من الأسرة الحاكمة في مملكة كانم، وتحديدًا خلال القرن الحادي عشر، حيث ادعى ملوكها نسبًا عربيًا فانتموا إلى حمير، وجعلوا العربية لغةً رسمية للدولة التي تصدر بها المراسيم الملكية، عدا عن أنها لغة الثقافة والتعليم.
ومن بين كثير من السلاطين الذين كان لهم دور بارز في تثبيت اللغة العربية في تشاد، نذكر دونامه بن أومي، ودونامه ديلامي. وبعيدًا عن السلاطين، كان للعالم محمد ماني، الذي تتلمذ على يديه عدد من ملوك كانم وأخذوا عنه مبادئ العلوم والقرآن الكريم، دور أساسي في انتشار اللغة العربية التي ساعد في انتشارها أيضًا توافد القبائل العربية إلى تشاد واختيارها مناطق وسط البلاد للسكن.
لكن اللغة العربية في الممالك الإسلامية ظلت لغة البلاط، ولم يكن يتقنها سوى العلماء وكتّاب الملوك لأن الشارع كان يتحدث لغات محلية عديدة تأثرت بها حتى القبائل العربية. وعلى سبيل المثال، حين سافر الشاعر إبراهيم الكانمي إلى المغرب، استغرب المغاربة كيف أنه يقول الشعر وفي لسانه عجمة، وقد ذهب أغلب كتّاب تراجم السيَر إلى القول عند ذكره: "وكان أمره غريبًا، ولونه غربيبًا، وفي لسانه عجمة".
ويعود عدم انتشار اللغة العربية بين الناس إلى أن الممالك الإسلامية اعتبرت العربية لغة الدولة دون تعليمها للناس، واستمر الحال هكذا حتى وصول الاستعمار الفرنسي وتغيّر الأحوال سنة 1909، تاريخ سقوط مدينة أبشة عاصمة ممكلة ودّاي، آخر الممالك الإسلامية في تشاد، ودخول القوات الفرنسية إليها.
وبعد ثلاث سنوات، تمكن الفرنسيون من السيطرة على كامل الأراضي التي ستُعرف لاحقًا باسم "تشاد". وكانت اللغة العربية في ذلك الوقت هي لغة الدواوين والوثائق والرسائل المتبادلة بين الممالك الإسلامية الضعيفة، عدا عن أنها لغة العلم ورجال الدين وتلاميذهم الذين كانت لهم آنذاك مكانة نبيلة وسلطة في البلاط الملكي كذلك.
وعلى الرغم من أن الفرنسيين تمكنوا من فرض سيطرتهم العسكرية على البلاد، لكنهم كانوا مدركين بأن جزءًا كبيرًا من مشاكلهم سيكون مع رجال الدين، خاصةً حين يتعلق الأمر بمسألة التعليم، إذ استطاع الشيوخ نشر فكرة أن التعليم في مدارس المستعمر ليست سوى ذريعة لإخراج المسلمين من ديانتهم، ما دفع غالبية المسلمين إلى رفض التعلم في المدارس الفرنسية، بل وفرّ المئات إلى خارج تشاد، وذهب بعضهم إلى عمق الصحراء، هربًا من "الرجل الأبيض" الذي يستعمر أرضه ويريده أن يتعلم لغته.
وبحلول عام 1915، بلغت التوترات بين الفرنسيين والعلماء أشدها، وعلت الأصوات المطالبة بإسقاط سلطان المملكة وتبديله برجل آخر يخاف الله ومقرب من العلماء، وكانت تلك الأصوات تخرج من المساجد وحلقات العلم.
مذبحة كبكب
بعد عامين، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، دُعي نخبة من علماء مدينة أبشة، عاصمة مملكة ودّاي، كي يقرأوا القرآن ويباركوا اختيار المستعمر لمرشحهم – عقب نفي السلطان أصيل وبقاء السلطنة بلا سلطان – ليدخل القصر الملكي ويحكم بـ"التي هي أحسن". وهكذا وصلوا من كل الحارات، بل إن البعض وصل من مدن مجاورة لحضور هذه المناسبة المهمة.
وبعد ساعات من السهر والإعياء، وقبيل الشروق، أمر القائد الفرنسي الذي رتّب الأمر برمته بإطلاق رصاصة على رأس من اختاروه ليكون سلطانًا، وهكذا ثقبوا جمجمة العقيد محمد دكوم، وكانت الطلقة بمثابة صفارة الإنذار كي تنزل السواطير على أعناق الحضور، ومعظمهم من العلماء، وتدقها حتى تفصلها عن الرأس.
أسفرت المجزرة عن مقتل أكثر من 400 عالم، بينما فر من نجا منهم إلى السودان وليبيا، كما توقف حينها التعليم باللغة العربية، ورضخ السلاطين والكونتونات وشيوخ العشائر للفرنسيين وأرسلوا أبنائهم إلى مدارسهم بعد أن دبّ الذعر في قلوبهم.
هكذا تمكّن الفرنسيون من فرض سيطرتهم الشاملة على تشاد، كما كوّنوا مع كوادر جنوبية وأقلية من الشماليين، المحصورين في أبناء السلاطين وأصهارهم، حُكمًا اعتبر اللغة الفرنسية لغة رسمية للبلاد إلى جانب العربية، التي بدأ تهميشها منذ ذلك اليوم حتى تاريخ كتابة هذه المقالة.
اللغة العربية والصراع مع الفرنسية
أسست فرنسا أول مدرسة ابتدائية نظامية في تشاد عام 1911 بمدينة ماو حاضرة إقليم كانم. ولم يكن الهدف من تأسيسها هو تعليم التشاديين وتثقيفهم، وإنما تسهيل عملية الاستعمار. وهنا أتذكر ما قاله مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال": "البواخر مَخرتْ عُرضُ النيل أول مرةٍ تحملُ المدافعَ لا الخُبز، وسككُ الحديد أُنشأت أصلًا لنقل الجنود، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلُغتهِم".
نعم، كان هذا هو الهدف. وقد افتتح الفرنسيون مدارس أخرى بعد ذلك، إذ قاموا بإنشاء مدرسة ثانية في مدينة ماسينيا عاصمة مملكة باقرمي، وهي المدرسة التي درس فيها انقرتا تمبلباي، أول رئيس لتشاد عقب استقلالها. ثم أخرى في بنقور، وهكذا توالت وتكاثرت رويدًا رويدًا.
لكن فرنسا لم تكن تريد منهم أن يتعلموا أكثر، بل أرادت أن يتمكنوا من قول "نعم" بلغتها، لذا كانت توظفهم في المكاتب بُعيدَ حصولهم على الشهادة الابتدائية أو الإعدادية. أما الذين أرادوا المواصلة، فكانوا يسافرون إلى برازافيل، عاصمة الكونغو، لإكمال دراسة الثانوية لأنه لم تكن هناك ثانوية في الأراضي التشادية.
وفي عام 1957، سارعت فرنسا إلى تأسيس مدرسة في مدينة أبشة وسمتها "الثانوية الفرنسية العربية"، من أجل استمالة سكان أبشة الذين كانوا لا يزالون رافضين تعلّم اللغة والدراسة في مدارس الفرنسيين. لذلك أعلنوا أن ثانوية "فرانكو آراب" تدرّس باللغتين.
ولكن كان هناك أيضًا هدف آخر هو منافسة معهد جديد يسمى "معهد أم سويقو" أسّسه شيخ أزهري جاء من السودان، واسمه محمد عليش عووضة. إذ لاحظ الفرنسيون أن الإقبال على المعهد كبير، وأن حب الناس للعربية وعلومها بدأ يزداد قوة مع هذا المعهد، فأسسوا مدرسة ثنائية اللغة لمنافسته.
ويعتبر المعهد الديني الذي أنشأه الشيخ عليش عووضة من ركائز التعليم العربي في تشاد، إذ تخرج منه المئات ممن سيرفعون راية اللغة العربية في تشاد التي أصبحت دولة من الجمهوريات التي استعمرتها فرنسا وتستخدم لغتها في الإدارة، بينما بقيت العربية في الشارع والأسواق.
ومن الاستقلال إلى عام 1979، ظل السكان الجنوبيون الذين درسوا بالفرنسية وآمنوا بالمسيحية يحكمون تشاد. وخلال هذه الفترة، واجهت العربية تهميشًا مثل الذي شهده أغلب سكان الشمال الذين ينتمون إلى الديانة الإسلامية، ويتحدثون بدارجية عربية. وقد حصل هذا التهميش رغم أن أول دستور لتشاد اعتبر اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب الفرنسية. لكن الواقع شيء آخر تمامًا، فالرئيس تمبلباي لم يؤسس مدارس عربية، ولم يسمح للدارسين بالعربية بالحصول على الوظائف في الدولة، بل تعامل معهم وكأنهم رجال دين.
ولّما ولدت ثورة فرولينا في نهايات الستينيات، وضعت ضمن أهدافها اعتبار اللغة العربية لغة رسمية مساوية للغة الفرنسية. وفي حقبة الرئيس حسين حبري، وفي سنة 1987 تحديدًا، تم السماح بامتحان الشهادة الثانوية باللغة العربية في تشاد، كما سمح بدمج الذين درسوا في السعودية وليبيا والسودان ومصر وغيرها في الوظيفة العامة.
لكن الدولة لم تستثمر في التعليم بالعربية، سواء ما بعد الاستقلال أو بعد تحول تشاد إلى دولة بترولية عام 2003.
وخلال سنوات حكمه، قدّم الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي دعمًا كبيرًا للغة العربية، وأنشأ وزارة معنية بالثنائية ومساواة العربية مع الفرنسية، وصدرت قوانين تجبر المؤسسات الحكومية على إصدار كل القرارات والوثائق الرسمية باللغتين، وإنشاء أقسام عربية في جامعة أنجمينا، وأيضًا أقسام عربية في المدارس الحكومية كالمدرسة العليا للتعليم، والمدرسة الوطنية لعلوم الصحة، والمدرسة الوطنية لتكوين القضاة وغيرها.
وعقب تلك القرارات، تم توظيف الآلاف من الدارسين بالعربية في بضع وزارات على رأسها وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، وأيضًا الصحة والعدل. لكن معظم المدارس التي تدرّس بالعربية كانت قد أسستها منظمات تابعة لدول عربية، من بينها المملكة العربية السعودية التي بنت مركز الملك فيصل، وكذلك مصر والكويت وليبيا التي أسست مدارس عربية يدرس فيها الذين اختاروا اللغة العربية لغةً للدراسة.
واليوم، يسعى الدارسون بالعربية إلى إيجاد موطئ قدم لهم في مؤسسات الدولة، لكن الأمر ما زال صعبًا، فمن بين أربعين وزيرًا في الدولة هناك اثنان فقط من الدارسين بالعربية، كما أن المعضلة تكمن في أن اللغة العربية بقيت لغة للشارع، بينما احتلت الفرنسية مؤسسات الدولة وأصبحت لغة الإدارة.