اعتقدت دائمًا أن أحد هموم الحركة الوطنية الفلسطينية هو التفكير الجدي في الصهيونية ومعانيها، وفي عملية صناعتها وإحيائها لعرقٍ وشعبٍ قديم في تكوينه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهذا بالفعل أحد إنجازات الحركة الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
هذا الملف ليس ترفًا فكريًا للفلسطينيين، بل يصب في أساس مشروعهم السياسي ومساعيهم للتحرر الوطني، إذ إن الحركة الصهيونية أصبحت عائقًا أمام دخول الفلسطينيين، وربما العرب جميعًا، إلى العالم الحديث وجوهره العالم القومي.
يحضر سؤال "ما هو مستقبل اليهود في هذه البلاد؟" بشكل ملح. وبالتأكيد فإنه ليس مطروحًا بشكلٍ حيادي، وغالبًا ما يأخذ طابع الاستقطاب السياسي والفكري. وبينما هناك اتفاق على أن الفلسطينيين هم أصحاب الحق الوطني والسيادي في هذه البلاد، يرى كثيرون، محقين، أنه من المهم التأكيد على شرط الديمقراطية تطبيقًا وممارسةً، مما يعني إتاحة هذه البلاد للجميع.
في هذا الصدد، يوجد "إيمان" سياسي بأن المستوطنين اليهود حينما يتخلون عن الصهيونية فإن هذا التخلي سيجعل منهم مباشرةً مواطنين ديمقراطيين يعترفون بحقوق الفلسطينيين والعرب وسيادتهم. لكن هل هذا الإيمان ممكن؟ والسؤال الأهم: ما هي الصهيونية إذن؟ وهل يستطيع المستوطنون التخلي عنها من خلال سيرورة فكرية كما يتخلى البعض عن الدين والتدين ويصبح ملحدًا على سبيل المثال؟ أو كما نتذكر موجة انتقال بعض الماركسيين العرب إلى الإسلام السياسي في ثمانينيات القرن الماضي؟ هل الأمر مع الصهيونية كذلك؟
القومية اليهودية وخصائصها الاستعمارية
أحد المهام على عاتقنا، نحن الفلسطينيين، هو فهم هذه المجموعة الاستيطانية وأسسها القومية وتكوينها الجماعي في إطار الإمبريالية الأوروبية، وكيف من الممكن التمييز بين وجودهم كمستعمَرين وبين كونهم أقلية دينية - قومية في فلسطين؛ كي نستطيع فهم مآلات المستقبل ومعاني التحرير والنضال، وما هو كفاحنا، وضد من، ومن أجل ماذا؟
خصائص الصهيونية وتكوينها القومي اليهودي هو في صلبه استعمار فلسطين. لنستهل النقاش مع الفكر الصهيوني ذاته، بدايةً خلال قراءة مقالة قصيرة للكاتب والطبيب ماكس نورداو، وهو من أهم منظري الصهيونية، لفت فيها إلى أن: "الصهيونية هي نتيجة لدافعين جاءا من الخارج: الأول، مبدأ القومية، الذي حكم الفكر والشعور في أوروبا لمدة نصف قرن، وحكم سياسة العالم؛ ثانيًا معاداة السامية، التي يعاني منها اليهود في جميع البلدان بشكل أو بآخر". في جوهر هذا التعريف، طرح تعريف للحركة الصهيونية من خلال العوامل الخارجية، ضمن الشروط السياسية الأوروبية، دون ذكر عاملٍ داخلي، وهو العامل الاستعماري الاستيطاني، والرغبة في التماثل مع جوهر الحضارة الغربية الأوروبية وتفوق الأوروبيين والشعوب البيضاء على العالم، وبالتالي الانخراط في مشروع "نشر الحضارة" و"تنوير الشعوب"، على الأقل عند القيادة المؤسسة للمشروع الصهيوني التي تبنت هذا العامل الداخلي قيمة وممارسة.
يجب أن ندرك أن القومية أو معاداة السامية ليست الدافع الداخلي للصهيونية، بل هناك دوافع أخرى قد نجدها في كتابات نورداو السابقة للصهيونية أثناء تبنيه مشروع التيار الاندماجي (Assimilation)، الذي انتهى به التفكير إلى أن أوروبا ستتحول إلى مساحة ينتمي إليها الإنسان المتحضر والحداثي، والآخر هو "البدائي والمتخلف"، وبدورهم فإن اليهود سيكونون جزءًا من هذه التشكيلات الحداثية.
ومن المهم الانتباه إلى أن آماله السياسية السابقة للصهيونية هي معتمدةً أساسًا على هيراركيات أو هرميات داروينية ترى أن الأوروبي متقدم على سائر الشعوب بوصفه رائد مشروع التنوير والعقل والحداثة، ويتأتى من ذلك انهيار الهويات الضيقة ومنها اليهودية. وهذا ملفتٌ للنظر في تطور النظرية الصهيونية في عقلِ نورداو؛ أي عبر مخزونٍ ثقافي عنصري استعماري مؤمنٌ بنظريات التفوق العرقي، وفي الوقت ذاته يجد أن دور اليهود في أوروبا تدعيم المشروع التحضيري، وعند إقصائهم على أساس القومية ومعاداة السامية، برزت دعوة العودة إلى فلسطين لاستكمال مسارهم الطبيعي.
مقولتي هي أن الصهيونية في تطورها الداخلي، ومنبعها، ليست متعلقة يإنشاء قومية يهودية وكيانية تجمع اليهود، حيث إننا نجد أمثلةً كثيرة لمختلف المبادرات والمشاريع التي أبدت روحًا جماعية قومية يهودية، ليست صهيونية بل في أحيان معادية للصهيونية وتجتهد في النضال ضد هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، والمثال على ذلك موسى مونتيفيوري وهو عمدة لندن، ويهودي بريطاني يمتلك رؤية يهودية عابرة للقوميات منذُ أواخر القرن الثامن عشر. وما يهمنا في مبادرات هذا الرجل هو تقديمه خدمات واهتمامه في الجماعات اليهودية في كل العالم وتطوير وتحديث إمكانياتهم وتشجيع استقلالهم والخروج من "الجيتو"، وقد ساهم في إنشاء مستوطنات زراعية لتطوير الجماعة اليهودية داخل فلسطين وخارجها. وفي الوقت نفسه، لم يكن صهيونيًا ولم يؤمن بإنشاء حركة استعمارية استيطانية داخل فلسطين، مع العلم أن الحركة الصهيونية احتفت بهِ باعتباره صهيونيًا.
السردية التي تؤسس لها الصهيونية لليهود حول العالم وتاريخهم لم تبتلع فقط موسى مونتيفيوري بل ابتلعت أيضًا موسى بن ميمون مثلًا، الفيلسوف اليهودي المعروف صاحب التكوين الحضاري العربي الإسلامي. وهذا يعتبر أحد خصائص الحركة الصهيونية، أي ابتلاع اليهود واختلافاتهم وتاريخ جماعاتهم المتعددة في العالم، إلى كائن واحد استعماري استيطاني حداثي، تحت سردية: "قرون من النضال بهدفِ العودة إلى أرضهم".
إذن، الصهيونية هي أكثر عمقًا من مجرد التماثل مع القيم الأوروبية، مع "مهماتها التنويرية"، وهي ليست فقط حركة استعمارية استيطانية أخرى، بل تمتلك نظريًا تراثًا ثقافيًا - دينيًا مغايرًا عن تراث المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، أو تراث المستوطنين في الولايات المتحدة، لأن جميع المستوطنين في هذه الحالات يعبرون ويتداولون ويمارسون نشاطهم من خلال التراث والمخزون الثقافي - الديني المسيحي الغربي الروماني. أما الصهيونية، فهي تعبر عن تمازج جماعات كاملة من الشرق والغرب، من الجنوب والشمال، في ظل منظمة استعمارية استيطانية.
تكوين العامل الداخلي: بين الشرق القديم والغرب الحديث
"فاليهودي المتحضر يهاجر إلى آسيا، كما يهاجر الإنجليزي المتحضر إلى أستراليا. إنه يقود أوروبا معه إلى معركته وسيواصل [اليهودي] تطوير تقاليده الأوروبية القريبة من قلبه في أرض إسرائيل، والمنغرسة في دمائه التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين وأكثر. وبالنسبة لجيراننا في آسيا، نتمنى نفس الشيء: القضاء على 'المزراح' (الشرق) في أسرع وقت ممكن".
زئيف جابتونسكي، مقالة "هاميزراح" (الشرق) مجلة "رازاسويت" 26/09/1926.
جاءت هذه الكلمات في نهاية مقالة جابتوسكي، المنظر الصهيوني الشهير، التي ساهمت في تأسيس التوجهات الاستشراقية الصهيونية، من خلال مسارات مغايرة لما اعتدنا عليه في المفردات والصياغة والتحليل الاستشراقي الغربي. بدءًا من تفكيك المصطلحات "الشرق" و"الغرب" باعتبارها مصطلحات جامدة ومنغلقة على آراء وأساطير مسبقة، واهتم في كسر هذه القوالب موضحًا أن الشرق والإسلام رائدين في مجال العلوم والحريات والتقدم في الماضي، وبالتالي لا يوجد مقولات ثابتة "الشرق روحاني" و"الغرب عقلاني"، إذ بدأ بتحطيم مثل هذه المقولات إزاء النقاش داخل الصهيونية حول "هل الشعب اليهودي هو شرقي". حيث يرى أن الشعب اليهودي ليس شرقيًا ولا غربيًا، لأن هذه المصطلحات هي قوالب وهمية.
كما نعلم، فإن جابتونسكي لم يهدف بذلك إلى نقدِ الامبراطورية والاستشراق ودعم الديمقراطية والقيم الإنسانية المشتركة، بل على العكس لتكوين منهجية أكثر اتساقًا للاستشراق، التي خلصَ بها إلى ذاتِ المقولة بأن الشرق اليوم هو "بدائي ومتخلف" لكن ليسَ بشكلٍ جوهري، ويعكس ذلك على الغرب الذي يرى أنه ليس عقلانيًا ومتقدمًا بشكلٍ جوهري، بل يؤكد التحولات التاريخية والتقلبات التي تلحق في الشعوب والجغرافيا.
وبالتالي، تعبر رؤية جابتونسكي في النص عن غايات الحركة الصهيونية وأهدافها التاريخية بشكلٍ ضمني في فلسطين، وهي المقولة ذاتها كما نقرأها في الاقتباس، الاستيطان، من خلال إيمانهِ بأن الشعب اليهودي ساهم في تأسيس الحضارة الأوروبية الحديثة مما يؤهله لخوضِ مهام التحضير الحضارية، ولكن ليس تعبيرًا عن "الغرب" بل عن الحضارة ذاتها، مع رفض الجوهرانية.
إهمال العامل الداخلي للصهيونية هو إساءة فهم الحركة الصهيونية والانغلاق في متاهة العوامل الخارجية، وهي صعود الفكر القومي في القرن التاسع بالتزامن مع تصاعد نشاط العنف المنظم ضد اليهود خصوصًا في شرق أوروبا. هذه العوامل ليست مرتبطة عضويًا بصعود الحركة الصهيونية، بل هي الشروط التاريخية التي تأسس فيها الفكر الصهيوني وعلى إثره المنظمة العالمية، ولكن يجب أن ندرك بوضوح أن معارضتنا للصهيونية لا يجب أن تنبع من رفض الشعور القومي اليهودي، أو الشعور بوحدة جماعية ثقافية تتخطى الشعور الديني التقليدي.
الصهيونية: الاستعمار مقلوبًا
لم تكن الحركة الصهيونية مجرد مجموعة من المحاربين والمغامرين، الذين أرسلتهم الإدارة الاستعمارية لدولة أوروبية بهدف سلب الأرض/ الموارد/ البشر ومراكمة قوة الدولة والإمبراطورية، ثم تصبح جزءًا من صراعات الأوروبيين وحروبهم كما حصل في الأميركيتين، حيث أصبحت مستعمرات الأوروبيين جزءًا من "غنائم الحرب"، وشهدنا تبادلًا بين الإدارات الاستعمارية خلال الحروب التي شنتها الجمهورية الفرنسية بقيادة نابليون مثلًا وانهيار إسبانيا، إذ استطاعت فرنسا أن تدير المستعمرات وتجني ثمارها بدلًا عن إسبانيا، وعلى هذا المنوال مع صعود بريطانيا وهولندا.
في المقابل، فإن الحركة الصهيونية واليهود لم يكونوا تابعين لدولةٍ بعينها، ولم يكونوا مشروعًا بريطانيًا فقط، حيث إن نجاح مشروع التخلص من اليهود وفقًا لرؤيةِ الأوروبيين اللاسامية يجب أن تكون شاملة: محو اليهود من أوروبا بمجملها (للاستزادة دراستي عن الصهيونية والإمبراطورية).
إذًن، لاقت الصهيونية النجاح بعدما أصبحت عالمية وأسست علاقات مع الجماعات اليهودية في أوروبا بأكملها بدايةً ثم الجماعات غير الأوروبية. الترابط الظرفي الخارجي، مع الدوافع الداخلية للحركة الصهيونية، ساهم في أن تصبح برعاية أوروبية كاملة. ورغم أنه كان هناك إجماع متفاوت على حجم الدعم وطرقه وأساليبه، لكن صار الجميع مؤمن بهذه الفكرة، بعدما تأسست نظريًا وفكريًا وتنظيميًا.
في هذه اللحظة بالضبط، نجد الاستعمار مقلوبًا، إذ إن تطور الصهيونية وتجسيد شكلها النهائي المؤسساتي جاء بصورة معكوسة لحركات استيطانية أخرى. رأينا تشكل حركة مستوطنين سياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر تمتلك أهدافًا ورؤية وتوجهات وطرحت أساليب للعمل، وذخيرة أيديولوجية أوروبية، وبدأت في العمل والاستيطان بشكلٍ خافت لوحدها، عبر علاقات ودبلوماسية وفسادٍ إداري وشبكة رأس مال واستثمارات داخل الامبراطورية العثمانية، وعند هزيمتها وفرض الأحكام العسكرية على يدِ بريطانيا من القُدس، نلاحظ بشكلٍ فعلي علاقةٍ وثيقة بين المنظمة الصهيونية العالمية وبريطانيا. وهذا ما أقصد بهِ الاستعمار مقلوبًا، وهذا يعنينا أيضًا من حيثُ فهم مكونات وديناميكية الصهيونية وعلاقتها مع أوروبا، وكيف من الممكن فعليًا تفكيك الاستعمار.
المقدمات هذه حول الصهيونية ليست نصًا في التاريخ، بل أيضًا من أجل الحاضر والمستقبل. تعيننا هذه الاختلافات في الحركة الصهيونية على استيعاب أن هزيمة الصهيونية مرتبطة كما يدرك الجميع في تخلي أوروبا عن رعاية المشروع باعتبارهِ مشروعًا استعماريًا، لكن أيضًا إيجاد سبل جذرية لكفاح الصهيونية يهوديًا، وتصاعد دور اليهود في الولايات المتحدة خصوصًا وأوروبا في العمل والنشاط ضد الصهيونية. وهو ما يعبر عن نزع الاستعمار مقلوبًا، وهذا ما يجب التعويل عليه وما يوضح ضرورة تقديم الدعم والإسناد للشبابِ اليهودي المناهض للصهيونية. وكما يلاحظ باروخ كيمرلينج بشكل ثاقب في كتابهِ "الدولة والمجتمع الإسرائيلي: الحدود والتخوم"، فإن "الشتات اليهودي" يمثل دور المتروبول (الدولة الأم) بالنسبةِ للمستوطنين اليهود، والدولة الصهيونية نفسها.