- "أصبح من المسموح البدء بقول الحقيقة: إسرائيل لم تعد دولة، منذ زمن طويل. إسرائيل هي قاعدة عسكرية. قاعدة عسكرية فقط".
الكاتب الإسرائيلي ب. ميخائيل
"حجم ما ترتكبه القوات الإسرائيلية في غزة الآن غير مسبوق، تمامًا مثل اللامبالاة الكاملة التي يبديها أغلب الإسرائيليين إزاء ما يجري باسمهم".
المؤرخ الأميركي - الإسرائيلي عومير بار توف
كان من بين الأبعاد التي يتناولها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في سياق الحديث عما يوصف بـ"اليوم التالي" للحرب على غزة، "تغيير وتعديل المناهج في غزة"، مشيرًا إلى رفضه دعم حكم السلطة الفلسطينية لغزة: "التي تقوم حاليًا بتمويل وتمجيد الإرهاب". وأضاف في موضع آخر: "لا بد من استئصال التطرف في غزة. ويتعين على المدارس أن تعلم الأطفال كيف يعتزون بالحياة بدلًا من الموت"، بحسب تعبيره.
وفي السابق، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أريئيل شارون: "التعليم والدعاية الفلسطينية أكثر خطورة على إسرائيل من الأسلحة الفلسطينية". وتولي إسرائيل، عمومًا، أهمية للمناهج الفلسطينية، إذ تستخدمها في التحريض على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ويوجد في إسرائيل منظمة غير ربحية تدعى "IMPACT-se"، التي تراقب المناهج الفلسطينية والعربية عمومًا.
وبينما يتحول التعليم والمناهج الفلسطينيَين إلى موضوع في الإعلام الإسرائيلي يحضر كل فترة فيه، ويطالب نتنياهو بتعديل هذه المناهج، وهي قضية حاضرة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية؛ فإن المناهج الإسرائيلية لم تحضر في الإعلام أو على لسان أي مسؤول، ولم تكن عاملًا في تفسير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ومن المعلوم أن المناهج والمدارس، بوصفها "أداة أيديولوجية للدولة"، تُعيد إنتاج أو اختراع التاريخ وقولبته في سياق خلق ذاكرة جماعية قادرة على تأسيس جماعة قومية موحدة تمتلك ذاكرة واحدة. وترى الكثير من الدراسات أن المناهج الدراسية الإسرائيلية لم تخرج عن الرواية الصهيونية التأسيسية، وتعمل على تنميط وجوهرة الفلسطيني، والأهم نزعة الصفة الإنسانية عنه وإقصائه.
وبعد أربعة أشهر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نُشر "استطلاع مؤشر السلام"، الذي تنفذه جامعة تل أبيب، وجاءت أبرز نتائجه على الشكل الآتي: 94% من الإسرائيليين يرون أن الجيش الإسرائيلي استخدم القدر المناسب من القوة النارية في غزة، إذ اعتبرها 51% كافية، أو غير كافية من قبل 43%. وثلاثة أرباع من الإسرائيليين، بما نسبته 88%، يعتقدون أن عدد الفلسطينيين الذين "تضرروا" خلال الحرب له ما يبرره لتحقيق أهدافها. ويقول ثلثا المستطلعين الإسرائيليين إن الخسائر البشرية في غزة مبررة بالتأكيد، بينمت يقول 21% فقط إنها "مبررة إلى حد ما".
المناهج الإسرائيلية.. نسخة عن الأصل
تقول الباحثة نوريت بيليد-إلحنان: "تنوب الكتب المدرسية المتداولة في إسرائيل.. عن الأيديولوجية الصهيونية ورسالتها الصريحة بشأن الحقوق التاريخية لليهود في أرض إسرائيل/فلسطين، وهذا هو شرط إجازة الكتب.. ولهذا يعتبر العديد من الباحثين أن الكتب التي تدرس في مدارس إسرائيل هي بمثابة نصوص مفرعة عن النص الصهيوني الأصلي في المقام الأول".
ويشير إيلان بابيه إلى أن: "أحد الجوانب المهمة في النظام التعليمي في إسرائيل، هو بث الروح العسكرية"، موضحًا وضع خطة عام 1998 عن خطة شاملة من قبل وزارة التعليم الإسرائيلية، تعزز ارتباط الطلبة بمؤسسة الجيش، ويضيف بابيه: "أمّا تحقيق ذلك فسيكون من خلال تكثيف الدروس الخاصّة بالصهيونية ودراسات أرض إسرائيل". كما لفت إلى أن الطالب في إسرائيل: "الآن يتعلم التاريخ الإسرائيلي وفق التفسير نيو-صهيوني، وتتشكل رؤيته للمستقبل وفق هذا التفسير".
ويوضح الباحث أورن يفتاحئيل أن المناهج الدراسية ومعظم مجالات الخطاب العام في إسرائيل، تبث: "برنامجًا شاملًا في تأميم الأرض، حيث تولدت رابطة غير قابلة للفصم بين اليهود الصهيونيين، ووطنهم المقام حديثًا، وبعد إقامة الدول اليهودية ذات السيادة، ظل الاستيطان بمثابة حجر الزاوية في بناء الأمة الصهيونية، وتمثل هدف هذا المشروع في الحماية من الخطر العربي على السيطرة اليهودية على الأرض".
ومنذ تأسيسه، كان النظام التعليمي في إسرائيل، مشغولًا في "التثقيف وإعادة التثقيف للأجيال الشابة"، ضمن بنى الهيمنة الصهيونية، مع محاولة خلق ذاكرة جماعية تساهم في عملية بناء الأمة، وإعادة إنتاجها على أساس سياسي ضمن التصور الصهيوني عن الحصول على الأرض والتوسع، وإقصاء ومحو الفلسطيني.
ويترافق ما سبق مع خطوات فعلية في إعداد مناهج تركز على "حكم الأغلبية، مع إضعاف حقوق الإنسان والحقوق المدنية"، إذ يتغلغل أقطاب اليمين في عملية صناعة المناهج. وفي عام 2019، طرح قانون القومية باعتباره من القضايا التي سيختبر فيها طلبة الثانوية العامة في مادة التربية المدنية، على سبيل المثال.
وحول المناهج، قال المعلم والمدون الإسرائيلي غيل غيرتل: "في التعليم العبري، منذ نشوء الصهيونية، لم يكن من الممكن تدريس الحقائق في الفصول الدراسية. كما لم يكن من الممكن نقلها إلى المجال العام، بما في ذلك وسائل الإعلام. ولم يكن الآباء والمعلمون والطلاب مستعدين بما يكفي لرؤية الحقيقة".
ووفق الباحثة نوريت بيليد-إلحنان: "يجري تأليف الكتب المدرسية المتداولة في إسرائيل للشباب اليافعين، الذي سيجري تجنيدهم في الخدمة العسكرية الإلزامية، كي ينفذوا السياسة التي تنتهجها إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية". مضيفةً: "تتعلق الرواية الصهيونية التي تغرس في عقول طلبة المدارس في إسرائيل، بصراع مستمر يخوضه اليهود ضد الغزاة من غير اليهود".
وفي تلخيصها للافتراضات المشتركة للكتب المدرسية في إسرائيل، ضمن عينة البحث التي تعمل عليها، من أواخر التسعينات وحتى العقد الأول من الألفية الجديدة، أشارت نوريت بيليد-إلحنان إلى أنها تدور حول: "الحقوق التاريخية لليهود في أرض إسرائيل، والتهديد الذي يشكله العرب وكراهيتهم ومعاداة السامية التي تستشري على مستوى العالم، وللعرب 21 بلدًا ونحن لنا بلد واحد فقط". وتوضح أنه يُنظر إلى الشعب الفلسطيني باعتباره مشكلة ديمغرافية، وتهديدًا دائمًا ينبغي السيطرة عليه. أمّا ما ينبغي أن يكون عليه الحال، بحسب الكتب التي درستها: فهو: "دولة يهودية، وأغلبية يهودية، وسيطرة إسرائيلية".
وتدور الكتب الإسرائيلية، ضمن التصور الإسرائيلي السائد، عن ضرورة محو وإقصاء الفلسطينيين العرب من بلادهم، بما يتضمن ذلك من السيطرة على أكبر كم من الأرض، بكافة السبل الممكنة، وينطوي على ما سبق نزع للإنسانية وجوهرانية وتنميط، واستعلاء، والتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم خطرًا أمنيًا دائمًا، بما يشمل حتى أمننة اللغة العربية. وليست النتائج السابقة للمناهج في إسرائيل عارضًا، بل هي ضمن نتيجة مخططة مسبقًا تتجه الآن نحو تطرف مُتزايد، مع دخول التيارات الاستيطانية الصهيونية الدينية بشكلٍ متزايد في عملية إنتاج المناهج.
وبالطبع، فإن الكتب المدرسية في إسرائيل ليست العامل والمساهم الوحيد في بناء هذه الصورة، ولكنها تعد إحدى أهم المصادر التأسيسية.
الإقصاء.. الدرجة الصفر
انطلقت الرواية الصهيونية عن فلسطين، في تيارها السائد، باعتبار فلسطين "أرضًا خالية"، ووصفت بـ"الصحراء واليباب"، ويتضمن هذا التصور أنها أرض "فارغة من أهلها"، وعلى هذا الأساس، كانت معظم الكتب المدرسية التي صدرت مع نشوء إسرائيل: "تتجاهل وجود العرب، مصورة فلسطين كأرض خالية" (بوديه، ص 114).
وبناءً على ما سبق، كان من الضروري حذف وجود أهالي البلاد من التاريخ، إذ تقول نوريت بيليد-إلحنان: "إن جهاز التعليم الإسرائيلي، الذي يختزل 2000 سنة من الحياة التي عاشها اليهود وعالمهم في الشتات، ويدعو إلى إنكارها، يطمس حياة الفلسطينيين التي استمرت على أرض فلسطين لفترة بلغت 1300 سنة". وعلى هذا الأساس، تُوضَع أفكار المحو والإقصاء للفلسطيني، الذي تطرحه الكتب المدرسية، بما يتوافق مع التصورات الصهيونية عن فلسطين.
وحذف الفلسطيني من السرد الصهيوني، ينعكس على الكتب المدرسية في إسرائيل، إذ: "لا تكاد الكتب المقررة لصغار الطلبة (من الصف الأول حتى الصف الرابع) تأتي على ذكر الفلسطينيين، سواء المواطنون المقيمون في إسرائيل، أو في الأراضي المحتلة" (كتاب نوريت، ص 19).
وهو ما يُرى باعتباره مقدمة لـ"المحو" من الأرض. وبناءً على فهم "النكبة باعتبارها بنية، وليست حدثًا"، فإن إمكانية تكرارها أو ضرورة ذلك هي فكرة مؤسسة ضمن المشروع الصهيوني وتتناقل، كما ترى نوريت بقولها: "بحسب ما يرد في الكتب المدروسة ضمن هذه الدراسة، فما يعتقد البالغون في إسرائيل أنه ينبغي على صغار السن معرفته عن جيرانهم الفلسطينيين، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقناعة هؤلاء البالغين بوجوب إبادة الفلسطينيين أو إقصائهم وتهميشهم وعزلهم وفرض القيود عليهم على الأقل" (كتاب نوريت، ص 116).
يترافق ما سبق مع: "اعتراف اليمين الصهيوني بالنكبة، والانتقال من إنكارها إلى الإقرار بها وبفظائعها، بغية التلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها"، لتكون: "النكبة من أدوات الحرب الإسرائيلية". وهذا كله يرتبط في تصور أساسي هو اعتبار الفلسطيني "عقبة" دائمة، تساهم في عدم اكتمال المشروع الصهيوني، بالسيطرة على كل الأرض وتحقيق الأغلبية في فلسطين التاريخية، كما توضح نوريت: "لا يمكن لأي شيء فلسطيني أن يوجد إلاّ بوصفه عقبة ينبغي التغلب عليها واجتثاثها في الرواية الإسرائيلية، وذلك على النحو الذي تعيد الكتب المدرسية إنتاجه" (كتاب نوريت، ص 147).
ومع الحروب العربية - الإسرائيلية، أي خلال الأعوام الـ30 الأولى تقريبًا ما بعد النكبة، ظهر العرب طوال الوقت في الكتب المدرسية الإسرائيلية باعتبارهم موضوعًا للحرب (بوديه، ص 62)، مما ينعكس على الكتب المدرسية المتداولة التي: "تشرعن في مضمونها، قتل الفلسطينيين، باعتباره أداةً ناجعةً تكفل المحافظة على أمن الدولة اليهودية ذات الأغلبية اليهودية" (كتاب نوريت، ص 236).
وبينما تحدثت دراسات عدة عن ظهور كتب "تقدمية" في إسرائيل من ناحية تعاملها مع الفلسطينيين أو النكبة، وسرديتهم التاريخية وصوتهم، فقد ظهرت مستويات جديدة من حذف وإقصاء الفلسطيني. فبعدما اقتبس أحد الكتّاب من المؤرخ وليد الخالدي وأبحاثه عن فلسطين، وتلك التي تتناول النكبة والتهجير تحديدًا، أُجبر على استبداله بالمؤرخ الصهيوني بيني موريس، وعدم استخدام مصطلح "التطهير العرقي" واعتماد مصطلح "الطرد المنظم" (كتاب نوريت، ص 53).
ويترافق ما سبق مع استمرار الكتب الدراسية في إسرائيل بإنكار المسؤولية عن النكبة وتهجير الشعب الفلسطيني، مواصلة تبرير رفض حق العودة مع وصف النكبة بأنها: "خروج وهرب، دافعه الخوف والفزع" (كتاب نوريت، ص 105). ومع مواصلة إنكار المسؤولية عن نكبة فلسطين، فإن الكتب المدرسية في إسرائيل عمومًا: "تظهر ميلًا أكبر نحو إعادة تبسيط هذه المشكلة، وإعادة تشكيل رواية حول الأشخاص الطيبين مقابل الأشخاص الأشرار، بحيث تبرر أساليبنا ’نحن’ دون أي تحفظات" (كتاب نوريت، ص 137).
وفي العموم، فإن الباحث أمل جمال يشير إلى أن حضور النكبة في المناهج الإسرائيلية لا يتحدى الخطاب السائد المهيمن للتاريخ الإسرائيلي، كما أن ذكرها يأتي ضمن سرد أحداث "حرب الاستقلال"، ويوضح: "في الوقت الحاضر، سوف تظل الفجوة الكبيرة قائمة بين الشكل الذي يتم به كتابة وتدريس مناهج التاريخ والاعتراف بالحقائق التاريخية كما يقدمها المؤرخون الإسرائيليون والفلسطينيون. وسوف ينشأ جيل آخر من التلاميذ في ظل الخطاب الإسرائيلي المهيمن الذي يشوه وينكر الأحداث التاريخية ونظامًا تعليميًا يعمل على تحويلهم إلى مواطنين منضبطين، على استعداد لمواصلة فظائع النكبة مع إنكار وجودها".
الجغرافيا كمشروع إقصاء
وبينما تساهم كتب التاريخ في تشكيل سردية سائدة، فإن كتب الجغرافيا تعمل على بناء تصور بصري ينعكس فيه ما سبق من تصورات تاريخية عن خلو فلسطين، وعن شكل الجغرافيا المتخيلة لإسرائيل، إذ ترى نوريت بيليد-إلحنان أن: "كتب الجغرافيا المقررة في مدارس إسرائيل، تعمل على تشويه الحقائق والمبادئ العلمية التي تشملها صور التمثيل البصري واللفظي من خلال الرسائل السياسية، والتزام هذه الكتب بتعزيز الهوية اليهودية الإقليمية والقومية، التي تستند في جانب كبير منها إلى إنكار الهوية الفلسطينية". وتضيف: "من شأن ’تهويد’ حقل الجغرافيا أن يعزز تشويه الحقائق الجغرافية، وأن يطمس أي حياة لها معنى إلى جانب حياة اليهود، ناهيك عن حالة العداوة وإعادة إنتاج ’النخبة العنصرية’" (كتاب نوريت، ص 153).
وذكر معلم إسرائيلي مقطعًا من كتاب "أرتزي" [بلادي] المدرسي، الذي نُشر في عام 1950، كُتب فيه: "من الجيد جدًا أننا وجدنا أرضًا خربة مهجورة. ومن الجيد أن تكون كل قطعة أرض حصلنا عليها لنا [...] لا يمكن لأي من أولئك الذين يكرهوننا (وعددهم كبير) أن يشتكي من أننا أخذنا أرض شخص آخر".
ويتزاوج هدف المحو مع الاستيطان بطبيعة الحال، إذ لا تُذكَر البلاد العربية الفلسطينية على الخرائط، وعدم إظهار الخط الأخضر، والاعتراف بمستوطنات الضفة الغربية، دون ذكر البلدات العربية في داخل إسرائيل، وهو دلالة: "على عدم اكتمال المشروع الصهيوني الذي يستهدف تهويد الأرض" (كتاب نوريت، ص 91).
كما تسعى كتب الجغرافيا في المدارس الإسرائيلية إلى تعميق الفوقية والسيطرة على العرب، إذ تبرر هدم منازلهم بعدم الالتزام بالترخيص، وتشير إلى رفض العرب منح أراضيهم من أجل المنفعة العامة، وكل ما سبق يأتي دون تناول للسياق التاريخي للفلسطينيين الذي ساهم في خلق واقع شائك في تعاملهم مع "فخ الدولة الاستعمارية"، وسلب الأرض منهم. وتوضح الكتابة البحثية ذلك بالقول: "تعمل كتب الجغرافيا المقررة، في كثير من الأحيان، على تبرير وتعزيز أنظمة التمييز ومصادرة الأراضي والافتقار إلى شبكات البنية التحتية في القرى العربية" (كتاب نوريت، ص 103).
وفي خطة المناهج الإسرائيلية، التي طرحت بعد 50 عامًا من احتلال الشق الشرقي من القدس، أعدت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية مسودة المناهج بشكلٍ يتجاهل "الحقائق على الأرض"، بما في ذلك: "وجود 30% من سكان المدينة من الفلسطينيين"، بالإضافة إلى أن المنهج يخلق استمرارية بين: "قدس الملك داود والمدينة في الحاضر، باعتبارها عاصمة إسرائيلية".
وارتباطًا في الجغرافيا، بعدما أمرت وزارة التعليم الإسرائيلية بإزالة الخرائط التي تظهر حدود عام 1967 من المناهج، قال الكاتب الإسرائيلي إيتان نيشين في تعقيبه على الأمر: "يعود استبعاد الفلسطينيين من الكتب المدرسية إلى حد كبير إلى حقيقة مفادها أن النظام التعليمي الإسرائيلي لا ينتهي بالجامعة، بل بالخدمة العسكرية. ويتحدث الإسرائيليون عن الجيش باعتباره واجبًا اجتماعيًا، ومكانًا لتحقيق الذات، والمدرسة هي مكان لصياغة جنود المستقبل. وتتمثل الروح السائدة في الخدمة العسكرية باعتبارها إجماعًا، وتتعلق بالخطر الوجودي، الذي يُنظر فيه إلى الفلسطينيين باعتبارهم العدو".
نزع الإنسانية
تساهم "مجهولية" الفلسطيني التي يترافق معها نزع الصفة الإنسانية عنه، من خلال إلصاق عدة صفات فيه، بتسهيل "مهمة" محوه أو طرده وتنفيذ عملية إقصاء بحقه، وتأتي نتيجة سلسلة من التراكيب، التي تصب في هذا الاتجاه.
ويشير إيلي بوديه إلى أن صفات: "متوحش ومحتال ومخادع ولص وسارق وإرهابي، كانت كثيرًا ما تستخدم لوصف العربي.. ووصف العرب بأنهم النسخة الحديثة من العماليق، ألد أعداء الإسرائيليين في التوراة" (بوديه، ص 56). وقصة العماليق استخدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال حديثه مع جنود الجيش الإسرائيلي، قبيل دخولهم إلى قطاع غزة في الحرب الحالية.
كما حضر الربط بين العرب والأنظمة الفاشية والنازية، وكان كل ذلك بهدف: "تجريدهم من شرعيتهم وإنسانيتهم" (بوديه، ص 137). يضاف إلى ما سبق "نزع الاسم" عن الجماعة سواء العربية أو الفلسطينية، بما "هو نزع للصفة الإنسانية" (كتاب نوريت، ص 100).
ويصل نزع الصفة الإنسانية إلى ما هو أبعد، مثل نزع الفاعلية والحق بالمقاومة، وكيفية تفسير الأفعال الفلسطينية، إذ إن الكتب المدرسية في إسرائيل: "تمجد أفعال القوات والعصابات الصهيونية، وتصف الأعمال نفسها التي ينفذها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال في ثوب اصطلاحات إجرامية" (كتاب نوريت، ص 61).
وهناك جانب آخر يتقاطع ما بين الإقصاء ونزع الإنسانية، وهو غياب الصور الفوتوغرافية للفلسطيني، بحيث يُمَثَّل في: "أيقونات عنصرية أو صور تصنيفية تحط من شأنه وقدره، وتسمه بصفات من قبيل الإرهابي واللاجئ والمزارع والبدائي، وهذه هي المشاكل التي يمثلها الإنسان الفلسطيني بالنسبة لإسرائيل" (كتاب نوريت، ص 90).
كل ما سبق يعود إلى نقطة أساسية وهي نقطة الأمن التي تتقاطع معها أفعال المحو والإقصاء ونزع الإنسانية، بحيث يُنظر إلى الفلسطيني طوال الوقت كخطر أمني على إسرائيل، فيما تساهم الكتب المدرسية في إخفاء الخطاب الذي: "يشرعن الأمن والحماية والعدوان، ويجد الأعذار التي تبرر الأعمال الوحشية، من خلال توظيف الحجة التي تقول إن إسرائيل تفعل ما هو ضروري لـ’حماية مواطنيها من الإرهاب’" (كتاب نوريت، ص 109).
مشاهد في الحرب
بعد تحريض إسرائيلي على منصات التواصل الاجتماعي، واحتجاج من أولياء أمور الطلبة، قررت مدرسة إسرائيلية ووزارة التربية والتعليم الإسرائيلية إبعاد المعلمة الفلسطينية صابرين مصاروة عن عملها نتيجة المشاركة في فعاليات إحياء الذكرى الـ76 للنكبة، التي تزامنت مع الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة.
بمظاهرة وعناصر شرطة، وصرخات: "يا ابن العاهرة! أمك عاهرة! نتمنى أن تكون مصابًا بالسرطان! سنغتصب ابنتك!"، استقبل طلبة مدرسة إسحاق شامير الثانوية في بتاح تكفا، أستاذ التاريخ الإسرائيلي مائير باروخين، الذي عاد إلى عمله بعد اعتقاله لعدة أيام على خلفية نشر منشور على فيسبوك، يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر، بعد يوم من هجوم الفصائل الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، جاء في أحدها: "صورة لجثث خمسة أطفال فلسطينيين قتلى ملفوفين ببطانيات بيضاء، من عائلة أبو دقة في غزة"، وفي التدوينة الثانية كتب أن: "مذبحة دموية وقعت في الضفة الغربية أيضًا، ففي ذلك اليوم قُتل نحو خمسة فلسطينيين، بعضهم من الأطفال".
واتهم باروخين: "بإدانة جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، وإدانة دولة إسرائيل، ودعم الأعمال الإرهابية"، و"الكشف عن نية خيانة البلاد"، لكن القضية أغلقت، وتمكن من استعادة عمله في المدرسة.
كما أن جزءًا من قضيته ارتبط في رسائل على تطبيق "واتساب" على مجموعة خاصة في معلمي المدرسة، كتب فيه: "إننا نؤذي الأبرياء، ونقتل أعدادًا هائلة من النساء والأطفال، ومن المستحيل قبول هذا". وأضاف: "ثم رد أحدهم بأن [الفلسطينيين] يستحقون ذلك بعد ما فعلوه بنا، وزعم أن جنودنا لم يغتصبوا نساء فلسطينيات قط. لذا صححت هذا الادعاء. لدي على هاتفي لقطات شاشة من مذكرات ديفيد بن غوريون ويسرائيلي جليلي [رئيس أركان الهاغاناه] تصف حالات اغتصب فيها جنودنا نساء فلسطينيات في عام 1948".
ويقول أستاذ التاريخ الإسرائيلي مائير باروخين: "إن الأمر لا يتعلق فقط ببناء واقع جديد، بل يتعلق أيضًا بالتلاعب المتعمد بالوعي. فعندما تسيطر على نظام التعليم والجيش ووسائل الإعلام، فإنك تمتلك قوة هائلة بين يديك، ويمكنك التلاعب بالسكان بأي طريقة تريدها. وكل من لا يمتثل لهذا الأمر فهو خائن ومعادٍ لإسرائيل وعدو يجب التعامل معه كما نتعامل مع العدو".
وعلى مدار أشهر الحرب على غزة، كان هناك أكثر من 200 طالب وطالبة من الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، يخضعون للتحقيق داخل الجامعات، أو اعتقلوا لدى الشرطة الإسرائيلية، بالإضافة إلى ملاحقة أساتذة في الجامعات، كان من أبرز الحالات اعتقال الأستاذة نادرة شلهوب كيفوركيان، على خلفية وصف الحرب على غزة بـ"الإبادة الجماعية".
في عام 2014، عام واحدة من الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، قال المؤرخ إيلان بابيه: "يعلم كل من قضى وقتًا كافيًا في إسرائيل - مثلي أنا - أن أسوأ عملية إفساد للشباب الإسرائيلي هي التلقين الذي يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم. حين يرى الجندي الإسرائيلي طفلًا فلسطينيًا، فإنه لا يرى رضيعًا بل يرى عدوًا.. في إسرائيل منذ عام 1948، التطهير العرقي ليس مجرد سياسة، بل أسلوب حياة، واستمراره يجرم الدولة بأكملها لا سياستها فحسب".