شعراء الأناضول الشعبيون

العشاق.. حكاية شعراء الأناضول الشعبيين

2 سبتمبر 2024

غالبًا ما يؤدي الحضور المكثف للشعر المكتوب باللغة "الرسمية" إلى نسيان الشعر الشعبي المكتوب باللهجات المحلية، رغم كونه واحدًا من أكثر المصادر الموثوقة التي يمكننا من خلالها معرفة أنماط حياة المجتمعات وقيمها الاجتماعية والثقافية. وفي العديد من الثقافات، كان للتقاليد الشفهية أهمية كبيرة في الحفاظ على عادات المجتمع، ونقل تراثه الاجتماعي والثقافي من جيل إلى جيل.

ولم يختلف الأمر كثيرًا مع الشعر الشعبي التركي، الذي تزايد الاهتمام به بعد قيام الجمهورية التركية لأسباب قومية بالتأكيد، إذ حاول مثقفو الجمهورية الوليدة أن يبحثوا عن جذور أشعارهم بعيدًا عن الأدب العثماني الرسمي المتأثر بالثقافتينِ العربية والفارسية، فلم يجدوا غير شعرهم الشعبي في الأناضول المكتوب بلغة تركية خالصة وبسيطة، رغم قلّة ما تبقى منه لأن الشعراء الشعبيين كانوا يتناقلونه شفويًا. 

ولم يقتصر نسيان الشعر الشعبي التركي على المؤرخين لأدب الديوان "الرسمي" فقط، لكن شعراء الديوان أنفسهم كانوا ينظرون باستخفاف للشعر الشعبي وشعرائه "البسيطين" من وجهة نظرهم، رغم تأثر بعضهم بالشعر الشعبي في أساليبه وأوزانه. وليس المقصود هنا التقليل من قدر شعر الديوان الذي أنتج شعراءً مهمين في مراحل مختلفة، بقدر تسليط الضوء على أهمية الشعر الشعبي التركي الذي أُهمل لمئات السنين لصالح شعر الديوان. 

بدايات الشعر الشعبي التركي 

أثبت الباحثون الأتراك أن الشعر الشعبي كان منتشرًا بين قبائل الأتراك منذ أن كانوا في آسيا الوسطى. وقد قام الشعراء الشعبيون بوظيفة مهمة بالتعبير عن مراحل الحياة البشرية وفقًا للتقاليد والعادات، وكشف البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات. كما تناولوا في ملاحمهم القضايا المتعلقة بالحياة اليومية، والأحداث التي أثرت بشكل عميق في المجتمع، والحركات الاجتماعية الكبرى.

وبحسب المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبرولو، فقد ارتبط الشعر التركي القديم منذ نشأته بالموسيقى، وكان الشعراء الشعبيون في آسيا الوسطى ينشدون أشعارهم على آلة موسيقية تسمى "قوبوز"، وهي آلة وترية شديدة الشبه بالعود عند العرب، استخدمها الترك منذ أقدم العصور في شتى الممالك والدول التركية. وكان الشعراء الشعبيون آنذاك يترنَّمون بحكايات "داده قورت"، وهي ملحمة شعبية تعبِّر عن عادات وقيم قبائل الأوغوز.

ونظرًا لحياة الترحال التي عاشتها تلك القبائل، كان الشعر آنذاك وجدانًا جمعيًا يرددونه في الاحتفالات قبل الخروج إلى الصيد، وفي مراسم الجنازة والولائم العامة. وقد أُطلق على الشعراء آنذاك اسم "أوزَان"، وحُفظت أشعارهم عن طريق التداول الشفهي قبل انتشار الكتابة، وأُطلق على الشاعر الشعبي في الأناضول بعد ذلك اسم "عاشق"، وهو الاسم المستخدم في تركيا حتى اليوم.

البنية الاجتماعية التي ظهر فيها "العشاق"

ولأنه من غير الممكن أن نعزل المنتجات الفنية عن بنية المجتمع الذي نشأت فيه، فمن الضروري معرفة الظروف الاجتماعية التي نشأ الشعراء الشعبيون فيها من أجل فهم ظاهرة انتشار العشاق، ومن الضروري أيضًا أن نأخذ في الاعتبار جميع الظروف المادية والروحية للبيئة الاجتماعية التي خلقته.

وفي هذا السياق، يصف أفلاطون جيم غوني، الباحث في التراث الشعبي التركي، البيئات الاجتماعية التي نشأ فيها الشعراء الشعبيون على النحو التالي: "المصدر الحقيقي للعشاق هو الناس. يولد العاشق في القرية، وينتقل إلى البلدة ويتجول فيها، ثم يصل إلى المدينة. أو يولد في المدينة، ويتجول من قرية إلى قرية، يجمع العسل من كلِّ زهرة مثل النحلة. يحمل العشاق آثار الأماكن التي ولدوا فيها والأماكن التي انتقلوا إليها".

وقد تواجد الشعراء الشعبيون بين القبائل البدوية، ومن المعروف أن الأتراك غيَّروا موطنهم بشكل متكرر وعاشوا في حضارات مختلفة تحت تأثير العديد من الثقافات والأديان. ولا يختلف الباحثون الأتراك على أن الشعر الشعبي هو أقدم الأنواع الأدبية في الأدب التركي، وأنه ارتبط في بداياته بأعمال السحر والشعوذة في آسيا الوسطى قبل أن يعتنق الأتراك الإسلام.

الشعر الشعبي بعد انتشار الإسلام في تركيا

بعد أن اعتنق الأتراك الإسلام، حدثت تغيّرات كبيرة في المجالات العلمية والاجتماعية للأتراك. وبينما كانت اللغة العربية هي لغة العلوم، فقد كان للغة الفارسية حضور بارز في المجال الأدبي. وإلى جانب اللغة، اعتمد الشعراء الأتراك أيضًا أوزان العروض الشعرية التي يستخدمها العرب والفرس، وهكذا بدأت فترة الأدب الكلاسيكي تدريجيًا في الأناضول التي انتقل الأتراك إليها من آسيا الوسطى، وقد تأثر هذا الأدب الذي عُرف بـ"أدب الديوان" باللغتين العربية والفارسية، وابتعد تدريجيًا عن الشعب، وأصبح أدبًا خاصة بالقصر والنخبة.

إلا أن الشعراء الشعبيين، خاصةً في المناطق الريفية، استمروا في إنشاد الشعر بوزنهم الخاص، أي بالوزن المقطعي. ولذلك، ظهر في الأناضول أدبان منفصلان: الأدب التركي الكلاسيكي (الديوان)، والأدب الشعبي. وقد أطلق الأتراك على الشاعر الشعبي في تلك المرحلة في الأناضول اسم "العاشق"، كما تم استبدال آلة "القوبوز" تدريجيًا بآلة "الساز". ووفقًا لبعض الباحثين، فإن كلمة "عاشق" قد استُخدمت لأول مرة في الأدب التركي من قبل الشاعر علي عاشق باشا، الذي تأثر في شعره بالشاعر والمتصوف التركي يونس أمره، وعاش في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر.

وكان العشَّاق يُلقون أشعارهم بشكل ارتجالي مع "الساز". كما كانوا، في بداية القرن العشرين، يرتدون ملابس خاصة ويتجولون من مكان إلى آخر، ويبقون في الأماكن التي يذهبون إليها لفترة معينة، ويلتقون بعشاق ذلك المجتمع، ويتعرفون على ثقافتهم، عدا عن جذب انتباه الناس بالحكايات الشعبية التي يحكونها إلى جانب الأشعار المرتجلة.

وغالبًا ما يتناول العشاق في أشعارهم موضوعات الحب، الشوق، الشجاعة، الرثاء، التصوف، الشكوى من الزمن، الصداقة، ووصف الطبيعة، والقصائد الاجتماعية الساخرة. ويذكر الباحث التركي جيم ديلت أن أكثر أشكال الشعر الشعبي انتشارًا هو "الماني"، وهو عبارة عن رباعية سباعية المقاطع على قافية واحدة.

وفي الفترة الأولى للأتراك في الأناضول، منذ القرن الثاني عشر حتى القرن الخامس عشر، كان العشاق يركزون أكثر على الموضوعات الصوفية. وقد اكتسب الشعر الشعبي شكلًا وجوهرًا يتكيف مع تغيرات الحياة في الجغرافيا الجديدة. وخلق الشعراء الشعبيون هوية فنية جديدة جمعت بين قيمهم الثقافية القديمة في آسيا الوسطى وقيم الحضارة الإسلامية في الأناضول. وتم التخلي عن الموضوعات المتعلقة بالسحر والشعوذة التي كانت مقترنة بالشعر الشعبي للأتراك قبل الإسلام في آسيا الوسطى. 

العشاق في الطرق الصوفية المتمردة

لقد ضمَّت الطريقة البكتاشية الصوفية (أتباع الحاج بكتاش ولي، مؤسس وممثل العلويين البكتاشية في الأناضول) عددًا كبيرًا من الشعراء الشعبيين، أبرزهم الشاعر كايجوسوز أبدال الذي اتسمت أشعاره بالمزاح وانتقاد العقائد الجامدة.

ومنذ القرن السادس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، كان الشعراء المنتمون إلى الطريقة البكتاشية يشكلون الأغلبية بين العشاق. ومن بين أبرز الشعراء الشعبيين في القرن السادس عشر بير سلطان أبدال، الذي تزعم تمردًا للفلاحين في شرق الأناضول ضد الدولة العثمانية. وما زال شعر البكتاشية والعلويين متداولًا على لسان العشاق في تركيا حتى اليوم. 

ومن بين العشاق الذين عُرفوا بتمردهم أيضًا دادال أوغلو، شاعر القرن التاسع عشر وابن مجتمعات الرحَّالة الذي تناول في أشعاره حياة وتجارب ومشاعر المجتمع المتنقل من مكان إلى آخر، ومن هنا ربما جاءت معارضته للإدارة العثمانية التي فرضت سياسة الاستيطان على هذه المجتمعات الرَّحالة. ويحتل دادال أوغلو مكانة مهمة في الأدب الشعبي التركي، وقد وتناول في أشعاره موضوعات الشجاعة والقتال. كما ظهرت أيضًا مجموعة من العشاق بين جيوش الإنكشارية العثمانية، الذين كانوا يحرضون الجنود على القتال بأشعارهم. 

وتنتمي إلى الشعر الشعبي أيضًا القصائد الأسطورية أو الملحمية مجهولة المؤلف، التي جرى اعتبار أبطالها التاريخيين مؤلفين لها، مثل القصيدة الملحمية التي حظيت بمكانة كبيرة في نتاج الشعر الشعبي، والمنسوبة للشاعر كور أوغلو المعروف بـ"اللص الشريف" الذي ينتزع الحقوق المهضومة، والذي أصبح زعيمًا لثورة كبرى ضد العثمانيين في القرن السادس عشر. 

"عصر التنظيمات" وانحسار الشعر الشعبي

ومن بين أبرز أسباب انحسار الشعر الشعبي في الأناضول إلغاء الإنكشارية التي انتشر الشعراء الشعبيون بينهم، وقمع الإدارة العثمانية للبكتاشية التي ضمت عددًا كبيرًا من العشاق. 

ومع التغيّرات التي شهدها المجتمع العثماني فيما يُعرف بـ"عصر التنظيمات 1839-1876"، وسعي العثمانيين لتحديث المجتمع على الطريقة الغربية، لم يستطع الشعراء الشعبيون مقاومة هذه التغيّرات، واللحاق بالتطورات الجديدة. وعندما بدأ المثقفون العثمانيون يتعرفون على الأدب الغربي، وحلَّت الصحف والروايات محلَّ الحكايات الشعبية، قلَّت قيمة الشعراء الشعبيين خاصةً في المدن، وانحسر دورهم في القرى والبلدات. 

ومن بين الشعراء الشعبيين الذين حاولوا الحفاظ على هذا التقليد في القرن العشرين عمر لطفي الملقب بـ"درديكوتش"، وقد اعتبره النقاد أحد أهم الشعراء الشعبيين في القرن العشرين، إلا أنه لم يحظ بشعبية كبيرة في حياته، وقد تناول في أشعاره موضوعات الحب والفراق والحنين إلى الوطن.

ولعل أبرز وأشهر العشاق الذين أدخلوا الشعر الشعبي إلى "متن" الأدب التركي في مرحلة الجمهورية هو العاشق وايسال (1894 - 1973)، الذي شارك في أول مهرجان رسمي للشعراء الشعبيين في تركيا عام 1931، وكانت الانطلاقة الحقيقية له قبل أن يتجول بسَازه في أغلب المدن التركية بعد ذلك، وقد تناول في أشعاره موضوعات حول الطبيعة وقيم الحبّ والتسامح والصداقة.

وفي الذكرى العاشرة للجمهورية التركية عام 1933، قام عاشق وايسال بغناء ملحمة شهيرة أمام أتاتورك، وأصبح من أبرز الشعراء الشعبيِّين في تركيا. وقد وتنوَّعت موضوعات أشعاره لتشمل التغيّرات الاجتماعية في تركيا وموضوعات أُخرى مثل الدين والسياسة. ولعلَّ أبرز ما يميّز تجربة وايسال هو جمعه بين الثقافة الشعبية التركية وشعر التصوُّف.

مباريات الارتجال الشعري 

لم يتوقف الشعر الشعبي عن التطور خلال مراحله المختلفة، ولعل أبرز عوامل تطوره ترجع إلى "مباريات الارتجال الشعري"، حيث يجتمع العشاق أمام الجمهور في الأماكن المفتوحة، ويقومون بتحدي بعضهم البعض في ارتجال الأشعار.

ويعد هذا التحدي من أهم الطقوس التي يتم فيها التواصل الثقافي والاجتماعي بين العشاق والجماهير، وما زالت هذه التقاليد تُقام في شرق الأناضول حتى اليوم. وفي هذا الطقس، يُظهر العشاق مهاراتهم ومعارفهم وقدرتهم على الحفظ، كما يختبرون بعضهم بعضًا في التصوف ومناقب الإسلام. 

وجدير بالذكر أن العشاق ما زالوا يجتمعون في مواعيد محددة كلَّ عام، حتى اليوم، في ما يُعرف بـ"مهرجان العشاق" في مدينة فان التركية. 

وفي النهاية، يمكن اعتبار الشعر الشعبي التركي هو شعر "الخروج عن المألوف" في مقابل "الشعر السائد" لأدب الديوان الذي ارتبط بالقصر والنخبة وشعراء البلاط من حيث موضوعاته والتزامه وقربه من السلطة، في الوقت الذي لعب فيه الشعر الشعبي، على مدار تاريخه، دورًا مهمًا في التمرد. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

هديل عطا الله

الحاوي
الحاوي

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

محب جميل

طيف جيم كرو

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

محسن القيشاوي

غزة تحت الإدارة المصرية

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

يستعرض النص أبرز المحطات التاريخية بارزة للعلاقات المصرية الفلسطينية في ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة، التي بدأت بعد نكبة 1948، واستمرت حتى نكسة 1967

عبد الرحمن الطويل

الإسلام المغربي في إفريقيا

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

عبد المومن محو