الشعبوية ظاهرة سياسية واجتماعية تتميز بتأكيد القيم والمصالح والمشاعر الشعبية، وتبرز عادةً في السياقات التي تشهد توترات اجتماعية واقتصادية وسياسية متصاعدة، حيث يتبنى الزعماء الشعبويون خطابًا يستهدف الطبقات الشعبية موجهًا ضد النخب والمؤسسات السياسية.
تتميز الشعبوية بشعارات مُباشرة تستهوي الجماهير وتشعل العواطف، وغالبًا ما تتناول قضايا مثل الهوية الوطنية، والهجرة، والعولمة، والتوزيع العادل للثروة والعدالة الاجتماعية. وتتباين ظاهرة الشعبوية في مختلف الثقافات والبلدان، لكنها عادةً ما تظهر كرد فعل على التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتَبرُز بشكل خاص في الأوقات التي تشهد فيها البلدان أزمات وتحديات داخلية وخارجية.
قد تتبنى الحكومات الشعبوية سياسات لحماية السيادة الوطنية والاقتصادية، مما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى التصعيد بين الدول. وتتأثر ظاهرة الشعبوية بعوامل عديدة، مثل الاقتصاد والثقافة والتاريخ والقيادة السياسية، وقد تكون مؤثرة في تشكيل السياسات الحكومية والعلاقات الدولية. وفي بعض الحالات، قد تكون قوة دافعة للتغيير والإصلاح، بينما تؤدي في حالات أخرى إلى التوتر والانقسامات في المجتمعات.
مفهوم الشعبوية
الشعبوية إذًا نهج سياسي يُمجد الشعب ويؤكد تفوقه، ويقوم على التعارض بينه وبين النخب والنظام القائم. وعلى الرغم من أنها إحدى أكثر المفاهيم السياسية المستخدمة اليوم، لكنه لا يوجد تعريف واضح ومتفق عليه لها. والسبب الأكثر أهمية وراء صعوبة تعريف الشعبوية هو أنها لا تملك إطارًا مكتوبًا أو برنامجًا مقبولًا مشتركًا. ولذلك، فإنها أكثر من مجرد أيديولوجيا أو حركة أفكار أو شكل من أشكال الحكم.
مهما كان المعنى الذي تُستخدم فيه، فمن الواضح أن الشعبوية هي ظاهرة تضع الشعب في مركز خطابها. وفي الأنظمة الديمقراطية، يجب أن تكون السلطة السياسية مبنية على الشعب. وفي هذا السياق، يستخدم السياسيون لغة من شأنها التأثير على الجمهور وجعله يدعمهم. لكن يبدو أن الشعبوية تقوم على فهم يتجاوز هذا بكثير، خاصةً أن الحركات الشعبوية تتبنى موقفًا يقوم على إقصاء وتهميش شرائح أخرى من المجتمع من أجل الدفاع عن شريحة واحدة، ما يخلق بيئة عداء تجاه الشعوب أو الفئات المجتمعية الأخرى.
تركز الشعبوية على التفوق القاطع للشعب في كل جانب، ولهذا يستخدم السياسيون الشعبويون، إلى حد ما، لغة تساعد الجميع، باستثناء أولئك الذين يقعون ضمن فئة الأعداء وغيرهم، على رؤية أنفسهم كجزء من الشعب. كما أنها، في هذا السياق، تخاطب عواطف الناس وتطلب منهم ملء هذا المفهوم، بدلًا من إعطاء تعريف محدد. ومن ناحية أخرى، يقال إن النخب في المجتمع منفصلة عن الناس وفاسدة، ولذلك تقوم الشعبوية على معارضة النخبة والنظام القائم الذي يتشكل تحت سيطرتهم.
يقول الخطاب الشعبوي إن النخب قد استولت على العديد من المجالات من السياسة إلى الإعلام، وسيطرت على الموارد الاقتصادية، ووجهت السياسة، بما يتماشى مع مصالحها الخاصة في كل هذه العمليات دون النظر إلى المصلحة العامة أو إلى عامة الشعب. وهناك اليوم، بالإضافة إلى ذلك، وخاصةً في الدول الغربية، تطورات عرقية ودينية ولغوية وثقافية وغيرها. كما يُلاحظ أن الحركات الشعبوية التي تستهدف شرائح المجتمع التي لا تُعتبر جزءًا من السكان، آخذة في الارتفاع.
يقول إرنستو لاكلاو إن الشعبوية هي سياسة تقسيم الجمهور إلى معسكرين. من جهة، هناك الأقلية النخبوية التي تحكم المجتمع، ومن جهة أخرى، هناك المضطهدون والمستبعدين، رغم أنهم أصحاب السلطة الحقيقيون. ويدعو السياسيون الشعبويون الناس إلى تغيير هذا الوضع، قائلين إن السياسة يجب أن تكون تعبيرًا عن إرادة الشعب. ولهذا الغرض، فإنهم لا يترددون في إعطاء أمثلة مبالغ فيها أو استفزازية، حتى تلك المتعلقة بالواقع المشكوك فيه. وبما أنهم يخاطبون مشاعر الجمهور، وليس عقولهم، فإن واقع وجدوى المشاكل التي يذكرونها أو السياسات التي يقترحونها تعتبر ثانوية.
في السياق ذاته، يُعرّف كاس مود الشعبوية بأنها أيديولوجيا تنص على أن المجتمع ينقسم إلى شريحتين: طبقة الشعب العامة، والطبقة الحاكمة. وينص على أن السياسة يجب أن تُعبر عن الإرادة العامة للشعب. ويرى مايكل كازين أن الشعبوية عبارة عن عقيدة أو استراتيجية سياسية أو عملية مراوغة أو مكر لتحقيق هدف أو غاية ما.
ظهور الشعبوية في العالم كأيديولوجيا
يذهب بعض العلماء، على رأسهم كل من كاس مود وكريستوبال روفيرا كالتواسر، إلى القول بأن جذورها تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيثُ جاء ظهورها تزامنًا مع ظهور بعض الحركات التي تحمل طابعًا شعبويًا كحركة "النارودنيكية" الروسية و"حزب الشعب" الأميركي الذي يُعرف بـ"الحزب الشعبوي"، والذي تأسس عام 1892.
كانت هذه الفترة نقطة البداية أو المرحلة الأولى لظهور الشعبوية في العالم. وقد ركزت الحركات الشعبوية في تلك الفترة على قطاع الفلاحين في كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا القيصرية، ويطلق عليها "الشعبوية الزراعية". وقد جاءت هذه الحركات استجابة لمطالب المزارعين، وتعبيرًا عن استيائهم من سياسات الحكومة المركزية آنذاك، حيث طالبوا بضرورة تحسين البنية التحتية للقطاع الزراعي وإعادة النظر في سياسة الضرائب المفروضة عليهم.
بالإضافة إلى ذلك، وقفت هذه الحركات في وجه الرأسمالية موضحةً بأن الظلم الذي يتعرض له الفلاح ناجم عن تآمر القوى الرأسمالية من خلال التحكم في الأموال العالمية، وحرمان طبقة الشعب الأصلية، أي الفلاحين، من حقوقهم الاقتصادية. وفي السياق ذاته، كانت هناك حركة "النارودنيكية" الروسية، وهي حركة سياسية معارضة للحكم القيصري ضمّت مجموعة من المثقفين المنتمين للطبقة الوسطى؛ كانت تعتقد بأن طبقة الفلاحين هم أفضل فئات المجتمع الذي يجب عليه الاعتماد عليهم في سبيل النهوض بالقطاع الزراعي في ذلك الوقت.
الموجة الثانية من ظهور الشعبوية كانت في منتصف القرن العشرين، حيث انتشرت في أميركا اللاتينية مع ظهور حركة البيرونية في الأرجنتين، وهي المثال الأبرز على الحركة "الشعبوية الاجتماعية – الاقتصادية"، حيث أجرى الرئيس الأرجنتيني خوان بيرون، في عام 1964، مجموعة من الإصلاحات التي ركزت على طبقة الفقراء والعمالة والقطاع الزراعي في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية الاقتصادية.
ومع الوقت، أصبحت أميركا اللاتينية بؤرة الشعبوية، وواحدة من المناطق الجغرافية الأكثر شعبيةً في سياق الحركات الشعبوية، حيث استخدم أشخاص مثل نيستور كينشنر في الأرجنتين، وإيفو موراليس في بوليفيا، وأولانتا هومالا في بيرو، وميشيل باشيليت في تشيلي، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وهوغو تشافيز في فنزويلا؛ الشعبوية كوسيلة لممارسة السياسة في بلدانهم. وتمحورت الشعبوية، التي نشأت في أميركا اللاتينية في ثلاثينيات وستينيات القرن العشرين، حول المحور الاقتصادي وتجلّت كموقف معارض ضد الرأسمالية، والليبرالية الجديدة، والإمبريالية، والاستعمار، والغرب.
يُنظر إلى الشعبوية اليسارية في أميركا اللاتينية بوصفها نهجًا يقوم على اعتقاد مفاده أن مشكلة الفقر نابعة من استغلال الدول الغربية وبعض الحكومات المحلية المتعاونة معها للموارد والمصادر الاقتصادية، أي أنها ضد الاستعمار والاستغلال الغربي.
وفي هذا السياق، وبينما تُعطى الأولوية لتنمية البلاد والقضاء على الفقر، يتم تحجيم الديمقراطية والحريات السياسية. كما يتم تبرير ممارسات النظام الاستبدادية بفرضية أن مشاكل البلاد وأولوياتها تختلف. وبناءً على ذلك، يمكن القول إن الشعبوية هي في الأساس محاولة للتأثير على نفسية الأشخاص غير الراضين عن الوضع الاقتصادي والسياسي. ومن الواضح أن الحكّام، مثل هوغو تشافيز ونيكولاس مادورو في فنزويلا، ورافائيل كوريا في الإكوادور، وألبرتو فوجيموري في بيرو؛ يستخدمون الخطاب الشعبوي بشكل مكثف للغاية.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين، ارتبط ظهور الشعبوية بالأحزاب اليمينية الراديكالية في أوروبا الغربية. ويمكن القول إن المشكلات الاقتصادية، مثل البطالة وتراجع الرفاهية التي شهدتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية مؤخرًا، بدأ يُنظر إليها على أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمال الأجانب والمهاجرين واللاجئين، وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور نوع جديد من الشعبوية في العالم، وهي "الشعبوية المعادية للأجانب".
في الواقع، كان للحركات السياسية العنصرية والمعادية للإسلام والأجانب قاعدة معينة في الدول الغربية لفترة طويلة. لكن هذه الحركات التي كانت تجتذب جمهورًا محدودًا من الناخبين وكان يُنظر إليها على أنها هامشية، قبل أن تزداد أصواتها وتصبح من بين الفاعلين الرئيسيين في البلاد. وتُلقي هذه الحركات باللوم على الشرائح الاجتماعية التي جاءت إلى تلك البلاد لاحقًا، أو التي تُعتبر أقلية، باعتبارها السبب في تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
من الجدير بالذكر أيضًا أن الحركات السياسية التي يقودها سياسيون، مثل مارين لوبان، وجيانفرونكا فيني، وخيرت فيلدرز، وأحزاب مثل "حزب البديل من أجل ألمانيا"؛ زادت أصواتها بشكل مطرد منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولعل المثال الأكثر أهمية على السياسة الشعبوية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
نجح ترامب، الذي ركز خلال حملته الانتخابية على المشاكل الاقتصادية في البلاد، خاصةً البطالة، مرجعًا هذا الوضع إلى الهجرة؛ في الوصول إلى البيت الأبيض على الرغم من أنه لم يكن يُنظر إليه على أنه المرشح الأوفر حظًا في بداية الحملات الانتخابية. ووصل ترامب - الذي ينتمي إلى الجانب المحافظ من الجمهور باللغة والأسلوب الذي يستخدمه - إلى السلطة من خلال وصف نفسه بأنه "صوت الشعب الذي لا يمكن قمعه"، إلى جانب معاداته للإسلام وكراهية الأجانب وخطاباته العنصرية. وبالنظر إلى تصريحاته، فإن ترامب يرسم لسياساته صورة فاشية تضعها في نطاق الشعبوية الاستبدادية.
لا تقتصر الحركات الشعبوية التي تتطور في العالم الغربي على الأحزاب والتحالفات السياسية المعادية للأجانب، إذ هناك أيضًا الحركات الشعبوية اليسارية. ومن الممكن اعتبار "حزب سيريزا"، الذي تولى السلطة في اليونان لفترة من الوقت، و"حزب بوديموس" في إسبانيا، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا"، أمثلة على الحركات الشعبوية اليسارية التي تركز بشكل أساسي على مناهضة العولمة ومعاداة الرأسمالية، واستغلال استياء المجتمع من بعض المشاكل، وخاصةً تلك الناشئة من المشاكل الاقتصادية.
في أوروبا الغربية، تعتبر الشعبوية شائعة في الغالب بين أوساط الأحزاب اليمينية المتطرفة، والمثال الأكثر شعبية للشعبوية في فرنسا، والذي أصبح تدريجيًا تيارًا سياسيًا رئيسيًا في نهاية القرن العشرين، هو حزب "الجبهة الوطنية الفرنسية" (التجمع الوطني حاليًا)، الذي تأسس في عام 1972، وحقق نجاحًا لافتًا في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024 من خلال تقديم صورة "معادية للمهاجرين". وتمكنت لوبان، رئيسة الحزب، التي خسرت أمام ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، من الدخول في سباق انتخابي بسبب خطابها الشعبوي المعادي للمهاجرين الأجانب.
ومع الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم في أيلول/سبتمبر عام 2008، وما نتج عنها من تغيرات وتحولات على المستوى الاجتماعي والثقافي؛ واجهت الولايات المتحدة الأميركية موجة شعبوية جديدة تصدرتها حركات يمينية مثل حركة "حزب الشاي" التي ظهرت عام 2009، و"احتلوا وول ستريت" عام 2011.
وكانت هذه الحركات الشعبوية تنادي، جميعها، بضرورة البحث عن نهج جديد مختلف ضد النظام السياسي والاقتصادي القائم. وفي ظل التغيرات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، وجدت الشعبوية دعمًا كبيرًا في بيئة ما بعد الليبرالية وما بعد الاشتراكية من خلال سد الفجوة في سياسات الهوية في المجال السياسي. وقد أضفى ترامب الشرعية على سياسات مثل القومية والعنصرية عبر محاولته ضمان السيادة الثقافية، من خلال الهويات العرقية والطائفية، ضد التدهور التدريجي للسيادة الاقتصادية.
الخاتمة
أدت صعوبة تحديد مفهوم "الشعبوية" إلى ظهور مقاربات مختلفة تسعى إلى فهم هذه الظاهرة واسعة الانتشار. وتوفر هذه المقاربات منظورًا شموليًا للشعبوية من خلال تحليلها الأيديولوجي والخطابي والسياسي، مما يكشف عن تباينها في المحتوى والشكل والوظيفة.
وفي سياق الشعبوية، التي تقسم المجتمع إلى "الشعب" و"النخبة"، تنظر كل حركة سياسية وأيديولوجية إلى هذا المفهوم من منظورها الخاص بحيث يلبي مصالحها الخاصة ويحدد أجندتها. والنظر إلى الشعبوية كأسلوب للسياسة يعمل على تحويلها إلى مفهوم فوضوي وغامض إلى حد ما، ويصير من الممكن اعتمادها واستخدامها في أي وقت ومكان.
الشعبوية إذًا ظاهرة سياسية واجتماعية تتميز بالتركيز على الطبقة الشعبية والتأكيد على حقوقها ومصالحها. ويتميز الشعبويون بخطابهم البسيط والمباشر، حيث يستخدمون لغة العامة وخطابات عاطفية للوصول إلى جماهيرهم. وتنشأ الشعبوية في سياقات تتسم بالتوتر الاقتصادي والاجتماعي، حيث يتم استغلال المشاعر السائدة من القلق والاستياء لبناء قاعدة دعم قوية. وتتبنى الحركات الشعبوية مواقف سياسية قوية ضد النخبة السياسية والاقتصادية، وتعارض التقاليد السياسية السائدة.