في الصراعات بين المتدينين والعلمانيين، والجمهوريين والديمقراطيين، والعنصريين ودعاة حقوق الإنسان، وشتى الصراعات المختلفة الأخرى السياسية والفكرية والدينية؛ تبرز ظاهرة الاصطفاف الحاد والتعنت في المواقف كمعضلة مُعقدة. ومع تزايد الضخ الإعلامي ونشر المعلومات، كثيرًا ما تزداد الأطراف المختلفة تمسكًا بخياراتها السابقة، كما لو أن كل معلومة جديدة هي دليل على صحة مواقفها السياسية والدينية والفكرية، وبالتالي الأخلاقية، مما يحدث حولها.
مع الوقت، يعيش الأفراد في جزر منفصلة، ويتعرضون لوسائلهم الإعلامية الخاصة التي تعزز سردياتهم وقناعاتهم عما يحدث حولهم، كما لو أن تلك الوسائل تحكي على مسامعهم "قصة ما قبل النوم"، وتؤكد لهم بأن القرارات التي اتخذوها هي الصحيحة. وفي المقابل، يحمل لهم التعرض لأي نوع من "البروباغندا" التي تناقض موقفهم درجة كبيرة من الغضب والقلق والشعور بالتهديد.
كيف يمكن في الحقيقة تفسير هذا النوع من الظواهر؟ وكيف يستطيع الناس تطوير دفاعاتهم النفسية لمواجهة أي معلومات أو أحداث تشكّك بأفكارهم وقراراتهم وقيمهم؟ ليس فقط فيما يتعلق بالقضايا الكبرى التي تواجههم، بل حتى على نطاق القرارات الصغيرة التي يتخذونها في حياتهم اليومية، والتي تتمحور حول صراع الخطأ والصواب والخير والشر؟
في الحقيقة هناك، من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، مداخل مثيرة للاهتمام يمكن عبرها النظر إلى هذا النوع من الصراعات الداخلية/الخارجية التي يعيشها الناس، منها مثلًا ما يُعرف بنظرية "تأكيد الذات".
تأكيد الذات والانسجام معها
في ثمانينيات القرن الفائت، أنجز بروفيسور علم النفس الاجتماعي الأميركي كلود ستيل دراساتٍ حول ما أسماه نظرية "تأكيد الذات" (Self-affirmation)، التي تُركز على كيفية تكيف الأفراد مع المعلومات أو الخبرات التي تهدد تصوراتهم الذاتية حول أنفسهم والعالم.
انطلق كلود ستيل في أبحاثه بدايةً من دراسة السلوك الإدماني للمدخنين، لأنه كان مأخوذًا بفكرة أن التنافر الحاصل بين فعل التدخين كسلوك، وبين معرفة المُدخنين بالدراسات والأدلة التي تؤكد ضرره الكبير على صحتهم. وأمام ذلك التنافر بين الفعل والمعرفة، لاحظ ستيل أن المدخنين يلجؤون إلى استراتيجيات دفاعية تخفف من شعورهم بالتهديد، كالتشكيك بصحة الدراسات أو إنكارها أو التركيز على إيجابيات يحققها التدخين لهم، كالاسترخاء مثلًا. وهذا ما يفسر استمرار المدخنين بالتدخين رغم الصور المُفزعة والبشعة التي توضع على علب السجائر التي يشترونها اليوم. وهم، ومع مرور الوقت، طوروا قدراتهم على تجاهل تلك الصور، بل إنهم باتوا ببساطة لا يرونها.
تؤكد نظرية تأكيد الذات أنه إذا فكر الأفراد في القيم التي تتوائم مع شخصيتهم، فإنهم أقل عرضة للشعور بالضيق والتفاعل بشكل دفاعي، مقارنةً بالوقت الذي يواجهون فيه معلومات تتعارض مع إحساسهم باستقامتهم الذاتية أو تهدده. ووفق ستيل، هناك مبادئ رئيسية لنظرية تأكيد الذات، أولها أن الأشخاص يحاولون حماية تصوراتهم الذاتية عن أنفسهم. فالاستقامة الذاتية تعني تصور الفرد لنفسه كشخص جيد وأخلاقي يتصرف بطرق تتوافق مع الأعراف الثقافية والاجتماعية التي يؤمن بها.
زعم ستيل أن الذات تتكون من مجالات مختلفة: الأدوار، والقيم، وأنظمة المعتقدات. تشمل الأدوار المسؤوليات التي يتحملها الشخص، مثل كونه والدًا أو صديقًا أو مهنيًّا ناجحًا. في حين أن القيم هي التطلعات التي يعيش الناس وفقًا لها، مثل الشجاعة ومعاملة الآخرين باحترام. أما أنظمة المعتقدات، فتشمل الأيديولوجيات مثل المعتقدات الدينية أو السياسية. وبالتالي، قد يحصل أن يواجه الفرد تهديدًا خارجيًا يشعره بأنه ليس جيدًا كفاية في إحدى تلك المجالات. وعندما يحصل ذلك، يكون متحمسًا للحفاظ على صورة عامة إيجابية عن نفسه.
في حين يركز مبدأ آخر من مبادئ النظرية على أن هذا النزوع لحماية الاستقامة الذاتية في مواجهة التهديدات يتخذ شكلًا دفاعيًا، وقد يشمل ذلك إنكار مضمون المعلومات المهددة أو تجنبها أو تغيير تقييم الفرد لها ما يجعلها بنظره أقل تهديدًا. لكن النظرية ترى أيضًا أن هذا الإحساس بصورة الذات مرن؛ فإذا ما تعرض المرء لتهديد يستهدف أحد جوانب شخصيته (الأدوار، القيم، المعتقدات)، فإنه قد ينقل تركيزه إلى جانب آخر. فالشخص، مثلًا، قد يبرر لنفسه أنه أب سيئ بالقول إنه ناجح مهنيًا أو ملتزم دينيًا، وتلك المرونة هي التي تتيح له احتمال هذا الشعور بالتهديد وتجاوزه.
أما المبدأ الأخير، فيتحدث عن أن الانخراط في أنشطة تعزز القيم والمعتقدات والأدوار التي تُعتبر أساسية لهوية الفرد، يمكن أن يكرّس إحساسه بنفسه كذات متكاملة. وهذا بالضبط ما يخفف من شعوره بالتهديد، لأنه يحوّل الانتباه بعيدًا عن التهديد الحاصل لجانب واحد من شخصيته باتجاه النظر إلى السياق الأكبر للهوية ككل.
وباختصار، تشير المبادئ الأربعة مجتمعةً إلى أنه وعندما يواجه الشخص معلومات تهدد مفهوم الذات لديه، فإنه يشعر بالضيق ويتحفّز للدفاع عن النفس. ومع ذلك، فإن ردوده الدفاعية قد تعيق تكيّفه ومقدرته على حل المشكلات أو تغيير ما يجب تغييره.
استخدامات النظرية
في السنوات التي تلت بلورة ستيل لأفكاره حول "تأكيد الذات"، تم اعتماد نظريته كمدخل أساسي لدراسة العديد من القضايا السياسية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية، مثل الموقف من الهجرة، ومن الاحتباس الحراري، وسياسات أميركا الخارجية في العراق، والموقف من الإجهاض، وأوضاع العرب في أمريكا بعد 11 سبتمبر.
كما أن النظرية استُخدمت حتى في مجال دراسات التسويق. ففي دراسة تجريبية تم تشكيل مجموعتي دراسة؛ تستخدم الأولى منتجات شركة "أبل" بينما لا تفعل الثانية ذلك. وفيما بعد، تم تعريض المجموعتين لمقالات تتحدث عن الأوضاع السيئة للعمال الصينيين في معامل شركة "أبل". وقد وجدت الدراسة أن الفئة التي لا تستخدم منتجات هذه الشركة تفاعلت بصورة إيجابية وخفّضت نواياها بشراء منتجات الشركة مستقبلًا، بينما تجاهلت الفئة التي تستخدم "أبل" مسبقًا مضمون المقالات التي تم التعرّض له، ما يدلل على درجة دفاعيتهم تجاه المعلومات.
أما على صعيد الدراسات الاجتماعيّة، حاولت دراسة تجريبية أخرى دراسة الوصم اتجاه العرب الأميركيين في أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر، وكيف أن اعتماد استراتيجيات في التواصل قائمة على نظرية تأكيد الذات، قد يخفف من دفاعية بعض الأميركيين الذين يُظهِرون درجات عالية من التحيز تجاه الأميركيين من أصول مسلمة.
اختبرت التجربة الافتراض القائل بأن: "الأفراد الموصومين يمكنهم تجنب رد الفعل العنيف عند مواجهة الآخرين بشأن التحيز الذي يتعرضون له، إذا استخدموا مداخل قائمة على نظرية تأكيد الذات". ومن أجل اختبار الافتراض صمم الباحثون نماذج مختلفة من حسابات مُزيّفة لشخص أميركي مسلم على موقع "ماي سبيس" (موقع شبيه بالفيسبوك)، وطلبوا من المبحوثين التعبير عن درجة رغبتهم بمصادقة هذا الشخص أو مقابلته مستقبلًا.
أظهرت التجربة أن المبحوثين شديدي التحيّز عبروا عن رغبة أكبر في مقابلة الشاب المسلم عندما تضمن حسابه أسئلة نشّطت عملية تأكيد الذات لديهم. فعبر حسابه، طرح الشاب سؤال: "من عاملت بإنصاف هذا الأسبوع ومن عاملك بإنصاف؟"، ومن ثم عرض قضية للنقاش طلب فيها من الآخرين أن يضعوا أنفسهم مكانه كشخص مسلم إثر 11 سبتمبر، وعبّر عن شعوره بالظلم لأنه يحاسب على أخطاء اقترفها أشخاص غيره لم يعرفهم يومًا".
ووجدت الدراسة أن المبحوثين عبروا عن استعداد أكبر لمقابلة الشخص الذي بُنيت صفحته وفق مبادئ نظرية تأكيد الذات بدلاً من الشخص الذي كتب: "متى وكيف قمت بتجاهل الآخرين أو تجاهلك الآخرون؟"، لأن الصيغة الأولى، بصورة أو بأخرى، خفضّت الدفاعية المسبقة والعدائية نحوه بسبب خلفيته الدينية ولم تتضمّن اتهامًا مبطّنًا للآخرين بالعنصريّة أو التميّيز.
ورغم أن الأفكار التي طرحتها الدراسة جديرة بالاهتمام، لكنها في العمق تروج لفكرة إشكالية تدعو فيها الناس إلى التلاعب ضمنيًا بالآخرين، كما لو أن تقديمهم لنفسهم بأسلوب معين قد يرفع النسب في قبولهم وتخفيف الوصم والصورة النمطية التي يتم جزّهم ضمنها.
الذات في مواجهة المرآة
ورغم أن الكلام الأكاديمي الجاف حول نظرية "تأكيد الذات" قد يبدو للبعض غير ذي صلة بحياتنا اليومية، لكن العكس هو الصحيح. فهذه النظرية والمبادئ التي تقوم عليها، هي التي تجيبنا عن أسئلة بسيطة مثل: "كيف يستطيع هذا الشخص الاستيقاظ كل صباح ومواجهة صورة وجهه في المرآة بعد كل ما فعله؟". أو: "كيف يستمر هذا الشخص في دعم هذا الطرف السياسي في ضوء كل المعلومات التي يتعرض لها حول الفظائع التي ارتكبها؟"، أو: "كيف ينكر الفرد كل المعلومات العلمية المؤكدة التي تخبره بخطر المواد المدمنة على حياته؟"، أو: "كيف يتصالح المرء مع كونه عنصريًا؟".
كل ذلك يحصل نتيجة الدرجة الكبيرة من الدفاعية في مواجهة المعلومات والقيم التي يتعرض لها هؤلاء، ونتيجة المرونة العالية التي تجعلهم يركزون على جزء لامع وحيد من شخصياتهم في تجاهل للجوانب المظلمة الأخرى.
وبالتالي، يمكن القول إن مبادئ نظرية تأكيد الذات موجودة ومؤثرة في حياتنا أكثر مما نظن، وهي تقدّم، بصورة أو بأخرى، تفسيرات حول تعنت الأشخاص اتجاه المعلومات التي تهدد قناعاتهم. كما أنها، من منظور الإعلاميين والقائمين بالاتصال، تقّدم بعض الأدوات التي تساعد هؤلاء في صياغة أفكارهم بصورة تحمل قدرًا أقل من التهديد للآخرين، بما يضمن السماح لأفكارهم بالوصول والتغيير.
ففي قضيّة مثل قضية الولاء السياسي، وتحديدًا في البلدان التي تعاني من أزمات معقدة، قد يصعب على بعض الناس مواجهة معلومات تخبرهم بأنهم راهنوا على الأطراف الخاطئة من الصراع، أو أنهم دعموا حلولًا سياسية عقّدت الأزمات بدلًا من حلها. في حين يكون على المقلب الآخر من المريح جدًا الانصهار ضمن جماعات يشارك فيها الفرد الآخرين قناعاته، وينخرط في أفعال وأنشطة تشغله عن المعطيات التي تجبره على إعادة التفكير بخياراته السياسية أو بعضٍ منها.
في المُحصلة، قد يكون من السهل على القنوات الإعلامية بناء قصص مؤثرة تكرر على مسامع أفراد جمهورها الضيّق، ما يحبون سماعه، وتأكد لهم بأنهم أخلاقييون ومحقّون في خياراتهم السياسية والدينية والاجتماعية. ومن السهل أيضًا نشر معلومات عدائية ومخيّفة تهاجم المختلفين دينيًا أو سياسيًا وتتهمهم بالعمالة والتخلّف والعنصريّة بما يدفعهم، دون تردد، إلى تغيير القناة أو حظر موقع إلكتروني معيّن والامتناع عن قراءة مقالات كاتب ما. في حين أن المعادلة الصعبة تكمن حقًا في توسيع فئات الجمهور وطرح أفكار تُسائِل الناس وتدفعهم في إعادة تقييم قراراتهم وقيمهم وأفعالهم. والمعادلة الصعبة تكمن حقًا في مساعدة الناس على مواجهة المرآة وإطالة النظر فيها.