عندما صدرت مجلة "فصول" المصرية في ثمانينيات القرن الماضي، سُئل نجيب محفوظ (وكان أحد أعضاء الهيئة الاستشارية حسب ترويسة المجلة) عن رأيه في محتوى العدد، فقال جملته المشهورة: "لم أفهم حرفًا مما قيل فيها"، وتعجّب من أن النقد أصبح بهذا التعقيد والغرابة.
عبّر محفوظ، ببراءة، عن ضيقه من الألغاز التي يكتب بها الأكاديميون النقد، إذ إنهم وبتعبيره يكتبون "بمصطلحات نقدية توجع الدماغ". وقد تكون إجابة محفوظ التلقائية تلخيصًا لأسباب انصراف المبدعين عن نقد النقاد، والتأكيد في كل حواراتهم على وجود أزمة حقيقية في النقد.
السؤال هنا: ما النقد الذي كان يريده محفوظ وبحث عنه في المجلة المتخصصة، ولم يجده؟ الحقيقة أنه لم يكشف عنه صراحة. فكما هو معروف عنه وعن توفيق الحكيم، وفق ما ذكره فؤاد دوّارة عام 1946: "لم يكتبا سطرًا واحدا في نقد الإنتاج الأدبي".
لكنْ نجيب محفوظ مرر ما يوده وما يميل إليه في حواراته الصحافية، وهو ما كشف عنه كتاب صدر في القاهرة بعنوان "نجيب محفوظ ناقدًا"، وإن كان الكتاب لا يقدم محفوظ كناقد بالمعنى المعروف، وإنما يفحص حواراته ويستشف منها آراءه النقدية، وإلمامه بالنظريات النقدية الحديثة، ما يشير إلى وعي نقدي كان يلازمه دون أن يوجّهه إلى قراءة أعمال أدبية.
علاقة الروائيين بالنقد، رغم ما يكتنفها من الحذر والتحوط تارةً، والنفور والإعراض تارة أخرى، هي علاقة قديمة ومتجددة في الوقت نفسه، فقد مارسها روائيون كبار، من جنسيات، مختلفة قدّموا قراءاتهم لأعمال غيرهم، وكانت الذائقة هي المرجع الأول والأخير في التقييم.
يشترك الروائي المصري عزت القمحاوي في كتابه الجديد "الطاهي يقتل الكاتب ينتحر" (الدار المصرية اللبنانية، 2023) مع قائمة طويلة من الكتّاب الذين مارسوا النقد، أمثال: أورهان باموق في "الروائي الساذج والحساس"، وإيتالو كالفينو في "ست وصايا للألفية القادمة"، وأمبرتو إيكو في "ست نزهات في غابة السرد"، وميلان كونديرا في كتابيه "فن الرواية" والستارة"، وماريو بارغاس يوسا في "إيروس في الرواية" و"الكاتب وواقعه"، وغيرهم من الروائيين الكبار الذين قدّموا كتبًا تكشف عن خبرتهم العملية والنظرية للفن الروائي، دون التقليل من النظرية النقدية ومنظريها.
تكمن أهمية هذه الكتابات في أنها تُقدّم وجهة نظر "الروائيون النقاد" في هذا الفن، وما تعكسه هذه النظرة من خبرة جمالية وفنية بآليات الكتابة وطرائقها. فهذه الكتابات (مع كامل تقديري لكتابة النقاد الرسميين) تكاد تكون أقرب إلى روح النصوص، وتكشف عن جماليات ربما تغيب عن النظرية النقدية، بحكم أن النظرية تبحث عن علاقات وبنيات داخل النص قد لا تكون موضع اهتمام الكاتب - في الأساس - أثناء كتابته.
أما الروائي، فهو مشغول بأشياء جوهرية في بناء نصه، وفي كثير من الأحيان تفشل الممارسات النقدية، باستعارتها للنظرية، في استجلائها. وهو ما يتحقّق عكسه عبر نظرة الروائي للعمل، ذلك أن الأخير يقرأ العمل من منظور أنه مُنتجه، لا مستقبله كما هو الحال عند الناقد، ومن ثم فنظرته تبحث عن روابط بين عناصر دقيقة تكشف، بجمعها، عن رؤية كلية للنص.
فن السّبك
الكتاب الذي يأخذ عنوانًا إشكاليًا "الطاهي يقتل والكاتب ينتحر" يدفع القراءة إلى قراءة مضادة لهدفه (أو سلبية)، كما يثير الكثير من التساؤلات التي قد تنحرف (هي الأخرى إذا فُرّغت من المضمون العميق للكتاب) به عن الهدف الأساسي، على نحو: هل ثمة علاقة بين الكتابة والمطبخ؟ هل معايير الخلطة التي يحتاجها الطاهي لعمل وجبة، تماثل تلك المعايير التي يحتاجها الروائي لكتابة نص روائي جيد؟ كيف تسهم طقوس الخبيز وإعداد الطعام في خلق أسطورة الكاتب؟ هل يمكن أن يكون إعداد وجبة بمثابة لحظة تأمل للكتابة، أو تمرين على مراوغات الكتابة وسلطة القراء بما فيهم القارئ العدو؟ هل هناك أنواع نخبوية مثل الحلوى، وأخرى شعبوية، وما المعايير النقدية التي تسمح بإدراج نوع تحت هذه الفئة وتُقصي، في الوقت نفسه، أخرى؟ أسئلة كثيرة تثير القارئ وهو يتابع فصول كتاب القمحاوي.
يُعالج القمحاوي في كتابه هذه المسائل موازنًا بين عمل الروائي وعمل الطاهي، بل إنه يجد علاقة ما بين الكتابة والطبخ. والكتاب، رغم عنوانه غير الموفق من وجهة نظري، ومقدمته التي يُسهب فيها لبيان أوجه المشتركات بين الكاتب والطاهي؛ إلا أنه، في حقيقة الأمر، كتابًا نقديًا بامتياز لكونه يقدّم عبر فصوله المتنوّعة التي محورها الرواية وعناصرها الأساسيّة (اللغة، الزمن، المكان، الراوي، الحبكة، الاستهلال، التقديم والتأخير، وغيرها) تطبيقًا على نصوص كلاسيكيّة مثل "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، وأعمال روائية لكتّاب عالميين؛ تمارين تطبيقية على الكتابة وفنياتها.
يسعى القمحاوي، منذ استعارته للكثير من مفردات الطبخ تعبيرًا عن الكتابة، ومنها "التسبيكة" التي هي مأخوذة من تعبير الجرجاني "جيد السبك"، في إشارة إلى وصف نص بالجيد، ومن عالم المخبوزات "اللت والعجن" كاستعارة لوصف الثرثرة في الرواية أو وصفًا للرواية البدينة بتعبير سعيد يقطين؛ إلى لفت انتباهنا لماهية فعل الكتابة، وصعوبتها في الوقت ذاته، ومن ثم مدى احتياجها إلى خبرة ومهارة، وكذلك قدرة على التمييز بين الأنواع والأشكال، كطبيعة الطاهي الذي لا تفيده الخبرة إن لم يكن مُتذوِّقًا، وقادرًا على إحداث تجانس بين المواد التي يستخدمها في طبخته، دون أن يكشف السّر لجمهوره.
وبكل سهولة، يمكن القول إن ثمة عوامل مشتركة كثيرة تجمع بين الطاهي والكاتب. فعدا عن المهارة والذوق، هناك الحدس الذي هو مرشد لكليهما لكي يحدث تناغم الشكل والمضمون، وهناك الانسجام الذي إذا تحقق للطعام يُعطي مذاقًا شهيًا، وإذا تحقق للكتابة يُعطي لها الخلود.
تتعدى علاقة الرواية بالطبخ الاستعارات والتشبيهات إلى حضور الطبخ داخل الرواية نفسها. والروائيون الأوفياء لحواسهم ينتبهون إلى أهمية الطبخ داخل نصوصهم، ومن حضوره الأبسط في الإيهام بالتشابه بين الواقع والرواية، إلى الحضور الأعمق في كونه عاملًا مهمًا في بناء الشخصيات والحدث. الربط الأكثر أهمية عندما يقول: "إذا سلّمنا بأن الحلوى شعر؛ فالخبز، فالخبز هو الرواية؛ نثر الحياة، له سلطة العادي، سلطة الضرورة. لا يستغني عنه أحد"، بينما الحلوى: "بعكس الخبز - نخبوية مترفعة".
يُقارن القمحاوي بذكاء بين سلطة الشعر النخبوي والرواية المُشاعة. فالرواية عنده تستطيع الاستمرار لأنها تتسع لوصف البشر والكائنات والجو والأزياء والموسيقى والتشكيل والفلسفة بل وتفسح مكانًا للشعر بداخلها، وسلطتها ستتوازى مع سلطة الخبز إلى يوم القيامة، حتى لو نزلت الجنة إلى الأرض حسب تنبؤات الذكاء الاصطناعي. فمثلما يكون البشر بحاجة إلى الخبز لتخفيف وطأة اللحم، فإنهم في الوقت ذاته سيكونون بحاجة إلى الرواية لتخفيف وطأة الفراغ.
ومع هذا الفرق، فإنه يُقرُّ بالتقارب بينهما، ويعترف بانتفاء العداء بينهما، بل يعتبر الحديث عن العداء مبالغة كبيرة، ذلك أن التنافس بينهما هو تنافس نزيه على السلطة، إذ يطمح كلاهما إلى احتواء الآخر بداخله فحسب. إذ إن أحد طموحات، الرواية على حد قوله، هو: "الوصول بالعادي والتافه إلى مستوى الشعر". وفي المقابل، تتطلع القصيدة بدورها: "إلى منح شعريتها مذاق اليومي والعادي".
التفسير المنطقي لبروز الرواية واستمراريتها لا يكمن فقط في قدرتها على استيعاب الفنون الأخرى بداخلها، وإنما – وهو الأهم – في: "قدرتها على استئناس الزمن، وإبطال مفعوله بمغالطته"، وهو التفسير الذي جعلها: "تتفوق على الشعر وتَرث الملحمة".
يضرب المؤلف مثالًا على عملية الاحتيال التي تقوم بها الرواية لكسر حدود المكان والزمان من خلال حكاية السندباد الذي يقوم بسبع رحلات وما ينتابه خلالها من مغامرات وفقدان للأمان والسلام، ثم يعود بعد سبع دورات إلى بغداد ليستعيد هذه الحياة الكاملة بروايته لها لمستمع يفقد الإحساس بالأمان والسلام مع كل مغامرة، ثم يحدث الانسجام مع النهاية والعودة. والحكاية المستعادة التي يتلقاها المستمع وهو لم يغادر مكانه، ونحن نستعيدها الآن مع اختلاف أماكننا وزمن الاستعادة؛ دليل قاطع على خرق المكان والزمان.
إذًا، تأخذ هذه العلاقة الوثيقة بين الكتابة والطبخ طرائق مُتعدّدة، بعضها مباشر وبعضها الآخر مستتر موارب. ويؤكد عزت القمحاوي، بصورة مباشرة، أن جذور هذه العلاقة تكمن في استئناس البشر لبعضهم، إذ يقول: "بالحكاية والطبخ تمكّن البشر من استئناس بعضهم بعضًا، وصارت لدينا مجتمعات بشرية". فالأطعمة دائمًا ما تكون على رأس الاحتفالات، حيث تجتمع الحشود في المناسبات المختلفة لتحتفل وتأكل في الوقت ذاته ما لذ وطاب.
بل إن الأطعمة أصبحت مرتبطة، لدى الكثير من الشعوب، بالمناسبات الدينية والاجتماعية وغيرها. فعيد الأضحى عند المسلمين مرتبط بالأضحية، وعيد الفصح عند الغربيين مرتبط بالتفاف العائلة حول الديك الرومي، وعاشوراء مرتبطة بحلوى عاشوراء، والاحتفال بالمولد النبوي مرتبط بحلوى المولد.. إلخ.
أما استئناس الآخر وترويضه فهو الأخر وجد في الحكاية ملاذًا له، إذ استطاعت شهرزاد أن تروّض شهريار عبر الحكاية، وكتاب "كليلة ودمنة" أيضًا هو الآخر كان محاولة ترويض للحاكم بعد أن تجبّر وتكبّر وحاد عن نهج أسلافه، وبعد غضبة الملك المضرية، يعود الملك إلى صوابه ويستدعي بيدبا ويعتذر منه، ثم يطلب منه كتابًا: "يرتبط باسمه ويخلد ملكه، ويؤمن له على نحو ما النجاة بعد موته"، فيكتب له كتابًا مليئًا بالحكايات الأمثولة التي ضربها بيدبا الحكيم لدبشليم الملك.
العلاقة بين الكتابة والطبخ تتحقّق عبر المراوحة بينهما في تبادل مفردات كل منهما، ودور هذه المفردات في تحقيق الانسجام في الصورة النهائية، ذلك أن: "الانسجام والتناغم طموح الطبخ والإبداع الأدبي والفني"، فمثلما يعتني الطاهي بتجويد طبخته بإضافة العناصر بمقادير معينة، ثمّ في النهاية الاهتمام بتزيينها كي يجذب العين، فإن الشكل يمثل للكاتب في الوقت نفسه: "جزءًا أساسيًا من المضمون والمغزى النهائي للعمل". بل إن نظريات نقدية قامت على الاعتناء بالشكل الداخلي للنصوص، فالمضمون الجيد يُفرز شكلًا جيدًا كما هو عند البنيوية التوليدية.
وفي المقابل، إذا كان "اللت والعجن" وصفًا بالسلب للثرثرة في الروايات البدينة كما وصفها سعيد يقطين، فإنه روح "عالم المخبوزات" وضرورة فنية لا يمكن الاستغناء عنها وفق تعبير القمحاوي الذي يرى أن هذه الاستعارة غير موفقة: "حيث ينبغي تكرار بناء وهدم العجين وصولًا إلى السبك الجيد"، إذ إن: "عدد مرات اللت والفرد والثني تحدد ما ستكون عليه العجينة عندما تنضج".
ومن شدة التداخل بين الكتابة والطبخ، يعتبر صاحب رواية "غرفة المسافرين" أن الطبيخ أو بالأحرى دخول الرجل إلى المطبخ وإنفاقه بعض الوقت فيه، ضروري لبناء مهاراته في الكتابة، فهو وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة، ومن القارئ، وتحديدًا القارئ العدو.
أما الصورة غير المباشرة، فإذا كان الطبيعي كما يقول علماء الأنثروبولوجيا أصلًا للاجتماعي، وبالتالي النفسي أصلًا للاجتماعي (والعكس صحيح)، فإن الكتابة والخيال تجعلنا نعرف شيئًا عن الطبيعي، أي عن أجسادنا والعالم. وفي الوقت ذاته: "تُعمق إحساسنا بالموجودات من حولنا"، وهو ما يعني العيش بشكل أعمق، ومضاعفة حياتنا المحدودة.
ويستعير الكاتب من الطاهية، تحديدًا، تقنياتها في ترويض المعروض لديها من أطعمة وحسن استغلالها وأيضًا توفيرها بترحيلها من مواسم الوفرة إلى مواسم الشح. فالكاتب كما يقول القمحاوي: "ليس أقل احتياجًا من الطاهية إلى الصبر والحيلة وابتكار ما يدفع بالكتابة إلى آفاق أبعد مهما كانت الصعوبات".
وبهذا المعنى، نراه ينتقد ما يعرف بكتابات الـ"بيست سيلر"، التي لا ينتظر كتّابها نضوج الفكرة. أما الاحتيال الذي يقصده، فليس على مستوى التقنيات وإنما أيضًا على مستوى اللغة، حيث الاحتيال على حرّاس الاستبداد الواقفين للكلمة بالمرصاد، وهو ما يكشف بذكاء عن المعوّقات التي تعترض طريق الكاتب، ومن ثم يحتاج إلى مهارات للبقاء والصمود والمقاومة. ومن هذه الصورة الشغف الذي هو مصدر الإجادة في الكتابة، بمعنى: الجَلَد، الاستعداد، الذكاء، الإنصات العميق للروح، خبرات القراءة.. إلخ. كل هذا بمثابة مصباح ديوجين غير المرئي الذي يكشف تفرعات الطريق أمام الكاتب. وبالنسبة للطاهي، فلن يستحق لقب مُبدع إلا بالشغف الكبير والإنصات العميق للروح والجرأة وحرية الخيال الذي يسلحه بالحدس الجيد.
القارئ العدو
يبدو كتاب عزت القمحاوي للقارئ العادي كتابًا ثقافيًا يتناول فيه موضوعات متعلّقة بالرواية والمطبخ، وفي جزء منه ثقافة الطعام، والتغيرات التي حلّت على المطبخ وعاداته وعكست تغيرات في نمط الاستهلاك والتحولات الاجتماعية التي كانت انعكاسًا للمتغير الاقتصادي والسياسي، وثقافة العولمة.
كما يبدو في بعض جوانبه قراءات لأعمال روائية مهمّة من وجهة نظر المؤلف، وقد يقيم علاقات تَماس وتقاطع بين روايات عربية وأخرى عالمية. أو، بشكل أوضح، بين نصه الأثير "ألف ليلة وليلة" والنصوص الغربيّة التي تماهت مع عوالمه، بالاقتباس والتضمين والتناص سواء بشكل مباشر، أو بدون قصد أو عمد.
كل هذه التيمات موجودة لا ينكرها أحد، لكن بنية الكتاب العميقة، أو إذا أخذنا بمفهوم القارئ العدو الذي يتربص للكاتب، وهو ليس "القارئ العدو" كما هو عند الجاحظ وكيليطو الذي يترصد للكاتب ويبحث عن الخطأ، وإنما العدو أي الحسّاس الذي يتوقع حيل الكاتب وفخاخه، ولا يأبه بالكلام السهل وإنما يفتش تحت سطح الكلام، عدا عن أنه دائمًا ما يكون في حالة شك وريبة ويبحث عن الدلالات المخفيّة والعلاقات بين المتن والهامش للخروج بجوهر النص؛ نكتشف أن الكتاب نقدي بامتياز ولكن بأسلوب روائي مميز، وهي خلطة صعبة في ظني، بل أصعب من تلك الوصفات التي قدمها عبر مكونات ثابتة للطبخ. والوصفة هنا تتجاوز الكتب التي قرأها إلى آليات الكتابة ذاتها، وعلاقة الرواية بالشعر، وإجابة عن أسئلة: لماذا الرواية هي خبز الحياة؟ واستمرارها؟ ومَن هو الروائي الجيد؟ وما مقاييس الكتابة الجيدة؟ وما مهارات الكتابة؟
كلها أسئلة في المنهج، في صميم الرواية وطبيعة عمل الناقد. لكن القمحاوي يجيب عنها بأسلوب الروائي، أو، بالأحرى القارئ الحساس، فيقدم نصًا نقديًّا ممزوجًا بشبه سيرة ذاتية ممرّرة داخل النص عن علاقته بأمه، وعلاقته ببنته، وحبه للسفر، ورحلاته إلى أماكن مختلفة الجامع المشترك بينها الطبخ، وهوايته التي تجمع بين القراءة وممارسة الطعام.
وكذلك هي سيرة للقراءة من زاوية أخرى، كمن يقدم لنا ترشيحات لأجمل الأعمال، مع بيان أسباب اختياراته بتفصيل لجمالياتها، وهو بهذا يسير على منوال كُتّاب عظام قدموا للقراء مختاراتهم من أهم الأعمال، لكن الفارق هنا الذي يحتكم إليه القمحاوي في عملية الانتقاء والاختيار، هو المقياس النقدي الدقيق الممزوج بذائقة عالية ورفيعة.
عبر إشارات دالة وممرّرة بذكاء شديد، يلعب القمحاوي دور الناقد الفاحص المُبصر لأدق الفروقات بين الأعمال، فيعمد إلى فضّ التشابكات بين الأعمال الروائية على اختلاف لغاتها، ومنها: "بيت الجميلات النائمات" لياسوناري كاواباتا، و"ذاكرة غانياتي الجميلات" لغابرييل غارسيا ماركيز، و"فردوس" لمحمد البساطي، و"امتداح الخالة" لماريو بارغاس يوسا.
ولا يتوقف القمحاوي عند شكل معين من الأشكال التي يلجأ إليها الروائيون كالعجائبية والواقعية، وإنما يقدم أطروحاته لكافة الأشكال، ومدى تناغم أشكال معينة مع موضوعات بعينها. فعلى سبيل المثال، يقول إن ما يدفع كتّاب الرواية التاريخية لكتابتها ليس إثارة الحنين فقط بل لأنها وسيلة لانتقاد أشياء في الواقع لا يستطيع مواجهتها مباشرةً. وهناك أيضًا من يرى في التاريخ دراما حدثت بالفعل يمكن أن يرويها بوصفها حكايات مُسليّة، ويُعتبر هذا النوع من الكُتّاب من أسوأ الروائيين. فالمغزى الحقيقي من وراء الكتابة التاريخيّة، بحسب لجورج لوكاتش، هو: "الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث".
ويَعتبِر القمحاوي أن الإيقاظ الشعري هو أحد المهام التي نهضت بها "ألف ليلة وليلة"، وقد فعلت هذا عبر: "استخدامها الحساس للخيالي والمازح"، ذلك أن الليالي عندما استعارت شخصية هارون الرشيد، الذي بلغت الدولة العباسية في عهده شأنًا عظيمًا، لم تقف عند معاركه وانتصاراته التاريخيّة، بل ابتكرت له: "وجهًا مازحًا جعل حضوره يفوق حضور شهريار في الليالي"، والشيء الإيجابي أن سيرته في الليالي هي التي ساهمت في بقاء سيرته حية في الوجدان الشعبي، ذلك أن: "ما يبنيه الأدب يستحيل هدمه، بينما يتهدم بنيان التاريخ الرسمي بتاريخ بديل يكتبه منتصر جديد".
بين التكتم والإعلان
يقدّم القمحاوي تقنيات وآليات الكتابة الروائية بعيدًا عن المقولات النظريّة، وباستشهادات من أعمال روائية وإن كان يرتكز بصورة أكبر على أعمال نجيب محفوظ و"ألف ليلة وليلة" وأعمال دوستويفسكي، عبر المقارنة بين التيمات وطرائق الكتابة، والأساليب بين النصوص (على نحو الجُملة القصيرة التي تُناسب السرعة والتحولات في الليالي، مقابل حالة الجملة الطويلة التي تناسب إيقاع السكونيّة في متاهة "البحث عن الزمن المفقود" لمرسيل بروست)، وكيف عمد الروائيون إلى هذه الحيل لإحداث نوع من الانسجام داخل أعمالهم، فنراه يُفرّق بين الكاتب البوّاح الذي يبوح بأسرار حياته داخل عمله، ونقيضه الكتوم الذي يصعُب العثور على نثار من حياته داخل العمل. ويخلص بعد قراءته للروايات والأعمال الكلاسيكيّة إلى التأكيد على أنه لا يستطيع منح الكتابة اسم "رواية" إلا إذا جعلت القارئ يتوحد مع عالمها، فتصبح الفنتازيا حينها واقعًا ملموسًا، ويتناغم موتيف صغير قديم مع عالم الأسرة الواقعية.
ويضع هنا شرطًا للرواية الجيدة، إذ إنها ليست تلك التي: "يجلس القارئ على شاطئها يتابع أحداثها، ويراقب شخصياتها، بل تلك التي يدخلها وينسجم تمامًا مع عالمها، ويذوب في ذلك العالم مهما كان غرائبيًا، فيكتسب بوجوده داخلها حياة إضافية".
ومن الأمثلة التي يقدمها عن هذا التوحد رحلة السندباد، إذ يتوحد القارئ معه في "ألف ليلة وليلة" دون أن يضطر لمواجهة خطر الغرق. كما أنه يتوحد مع غضب وقلق راسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب" دون أن يكون لدى القارئ القسوة لارتكاب جريمة أو قتل، وغيرها من الأمثلة التي تؤكد قدرة الرواية على جعل قارئها يتماهى معها، ما يكشف براعة المؤلف الذي يستقطب أو يستدرج قارئه، مهما كانت ظروف القراءة، إلى أجواء نصّه والتفاعل معه إلى حدّ التماهي والتوحد مع شخصياته. أما المعيار المهم للرواية الجيدة عنده فهو الخيال، في حين أن: "الروايات الرديئة تنسخ الواقع".
هل معنى هذا المعيار أن الكاتب ينفي أيّة صلة بين الرواية والواقع؟ ليس هذا هو المعنى المقصود، فعلى الرغم من أن الكاتب يكتب آلامه ومشاعره، فيمنح كل شخصية من شخصياته شيئًا من أفكاره وذكرياته وأحلامه، لكن مجهود الكاتب الحقيقي أثناء الكتابة وفق ما يقول القمحاوي هو: "أن يخفي أي أثر لحياته وملامحه في النص" بل: "تُقاس مهارة الكاتب بقدرته على توزيع روحه بين الأشباح التي يخلقها".
وفي مقابل هذا النوع، هناك نوع أسوأ يقصد بهم: "هؤلاء الذين لا يملكون مهارة التخفي، ويفتقدون مهارة رفع واقعة من مستوى الواقع إلى مستوى الفن". المفارقة أن النوع الأخير من الكُتّاب هم الأكثر مبيعًا. ويعود انكباب الجمهور على قراءة هذه النوعية من الأعمال إلى فضول القارئ وإيمانه بـ: "فكرة الحقيقة التي تناقض طبيعة الأدب، ويجب التلصص على حياة تشبه حياته، أو تشبه حياة ممكنة يتمناها".
فكرة موت المؤلف في الرواية تستدعي نقيضها وهي الحاضرة في "رواية السيرة الذاتية"، حيث يُعلن الكُتّاب عن ذواتهم ويرفضون عن وعي وتصميم تقبُّل فكرة قتل أنفسهم داخل النص، هل هم مستثنون؟ يجيبنا القمحاوي قائلًا إن هؤلاء أقلية بين الكبار مثل: هنري ميلر، وأناييس نن، وجان جينيه؛ الذين يعرفون كيف يفعلون ذلك، وكيف يواصلون التكتم وتقديم تضحيات بشهامة.
وفي المقابل، هناك نجيب محفوظ بوصفه "متكتم بارع"، لكونه لا يترك أثرًا يدل عليه داخل النص أو خارجه. فبحسب وصف القمحاوي، أجاد محفوظ إغلاق الأبواب في وجوه محاوريه عندما يسألونه عن أصول شخصياته، واكتفى بمواربة بعض الأبواب. دون أن ننسى أن عملية الإفشاء قد تتسرب من آخرين أكثر اتصالًا بالكاتب مثل عائلته وأصدقائه.
يُقدّم القمحاوي قواعد الكتابة الصحيحة عبر استشهادات من واقع خبرته ككاتب، وقبلها كقارئ، وليس كقارئ عادي، وإنما هو قارئ للأعمال الكلاسيكية، يستنبط بقراءته العناصر الكامنة فيها، وأيضًا وحدة انسجامها، إضافة إلى كونه مشاهدًا له ذائقة مميزة في اختيار الأفلام، ووعي بحبكتها وسؤالها الأساسي، ومن هذه القواعد تحقيق الانسجام داخل النصوص.
ولكي يُدلّل على الأهمية القصوى لهذا العنصر، يطوف بالقرّاء في دروب الفنون المرئية كالسينما، والأطعمة، والكتب. فليس المهم توفر العناصر وإنما انسجامها، ذلك أن الانسجام هو المبدأ الأصعب والأهم في الكتابة، وقد يكون عدم تحقيق الانسجام عاملًا مثيرًا للقلق أمام الكاتب. ويظهر هذا الانسجام في الأعمال الأدبيّة في صورة التناقض بين الأشياء، فهناك السكِّير الذي يمعن في الشراب كي ينسى عار أنه سكير كما في "الأمير الصغير"، لأنطوان دو سانت إكزوبري.
ويرى أن سر ديمومة شخصية السيد أحمد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ، الذي صار من النماذج الأصلية، على الرغم من أنه لم يرتكب جريمة بشعة مثل راسكولنيكوف؛ يعود إلى عدم الانسجام بين حياته العلنيّة وحياته السّرية. والمثال الأكثر اتساقًا مع الانسجام هو شخصية بارتبلي في رواية "بارتلبي النساخ" لهرمان ملفل.
جوهر الرواية
لا يغفل القمحاوي عناصر التشويق في الرواية، أو ما يعتبرها توابل الكتابة، ويرى أنها ضرورية وحاضرة منذ "ألف ليلة وليلة"، التي سبقت الرواية الحديثة في الاحتفاء بها بمهارة عالية وفي توقيت مناسب جدًا، وفي الآداب المحلية كأدب نجيب محفوظ، والعالمية كما هي عند ماركيز الذي أفرط في استخدامها.
وهنا يحذّر من الإفراط بها لأنها قد: "تفرض وصايتها على مشاعر القارئ في القراءة الأولى، دون ضمانة لصمودها في قراءات تالية". ومثلما يحذّر من الإفراط في توابل الكتابة، يحذّر من سحر الكتش الذي يوقع كتّاب الرواية تحت سلطة الجماهير الواسعة، ومن ثم يستسلمون لهم لناحية كتابة رواية رائجة، مليئة بالاستعراض الخيالي والمعلوماتي.
في استعراضه لمثل هذه النماذج هو ينشد "القارئ الحساس" الذي يستطيع التفريق بين أنماط مستهلكة من الكتابة الكتش، والعوالم الأصلية. الفارق بين القارئ الحساس ومستهلكي الأدب السقيم أن هؤلاء متماسكون ونشطون وقراءتهم احتفالية جماعية. لكن ما يدركه قراء هذا النوع من الكتاباتو أو ما يطلق عليه الكتش، أنه لا يخفي شيئًا بداخله، ومن ثمّ سيفقد أثره بالتكرار، وهو الأمر الذي عوّل عليه من قبل القمحاوي في إشارته إلى جوهر الرواية الذي يكمُن في المخبوء الذي يتركه المؤلف لقارئه ليتخيّله ثم يستكشفه.
ومع تعدّد القراءات، تتعدّد مستويات الاكتشاف والتخيّل، وهو ما يتحقّق بصورة أوضح في نصوص "ألف ليلة وليلة"، ونصوص نجيب محفوظ، و"البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست.
يؤكد صاحب رواية "بيت الديب" على تقنية الشكل الذي هو جوهر الرواية كإحدى أهم تقنياتها، ويرى أن الروايات نوعين؛ الأولى عبارة عن حدوتة بسيطة حريفة، والثانية روايات مفعمة بالمعنى وبالقضايا الكبرى، لكنها تفتقر إلى الشكل الجذّاب الذي يجعلها بلا قارئ، ذلك أن الشكل هو الذي يمنح القارئ تواطؤه باعتبار الخيالي الذي يجري في عالم الرواية حقيقيًّا. فـ"ألف ليلة وليلة" تطوّر بنائها الشكلي وفقًا لتبدُّل موقع شهرزاد. فمع بداية الحكاية كان خطابها يميل إلى تبجيل الملك، لكن، مع التقدُّم في النص، يتناقص التبجيل ويقلُّ الحذر، وتبدأ في التباسط، ثم مع تقدّم الحكاية تبدأ توبيخها له على ما اقترفه بحق النساء قبلها، وصولًا إلى التهكّم بعدما توطدت العلاقة بينهما.
وهكذا اقترن تبدّل الخطاب مع تبدّل مضمون القصص. وينبّه القمحاوي إلى أهمية الشخصيات الخاملة، ودورها في إبراز الشخصيات المتميّزة، وهو في هذا يعوّل على رأْي دوستويفسكي.
قراءاته الدقيقة للأعمال، وما أنتجته من مقارنات بين النصوص، أمدته بخبرة في اكتشاف أصول بعض الحكايات، على نحو مشهد أنيس زكي في رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ، وهو يكتب تقريره بقلم فارغ، يتناص مع مشهد بطل رواية دوستويفسكي "القلب الضعيف"، وهو ينسخ التقارير بقلم فارغ، وبالمثل مشهد الكتاب المسموم في رواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو وتناصه (دون إفصاح من إيكو الذي ألّف كتابًا على حاشية اسم الوردة، ذاكرًا مصادره، وتغاضى عن الإشارة إلى "ألف ليلة وليلة") وهو مشهد علامة في "ألف ليلة وليلة"، وتحديدًا في حكاية "الملك يونان والحكيم رويان".
وهو لا يعيب التناصات بين الأعمال لأن المعيار الحقيقي ليس في التناص أو حجمه وإنما في روح الكاتب وحساسيته الخاصة، التي تنبع من تكوينه ورؤيته للحياة، ولبيئة الرواية المتغلغلة في روح كاتبها. فالرواية الحقّة هي تلك التي يعيش القارئ حيواتها، أي يدخلها وينسجم ويذوب مع عالمها.
الرواية خبز العالم منذ لحظة ابتكاره السعيدة. في رأيه الرواية الجيدة هي الروايات الخياليّة، سواء سار أبطالها على الأرض أو حلّقوا في الفضاء. أما الرافد الأساسي لنهر الرواية فهو روح الكاتب نفسه؛ يكتب الروائي آلامه ومشاعره، يمنح كل شخصية من شخصياته شيئًا من أفكاره، وذكرياته وأحلامه. وتُقاس مهارة الكاتب بقدرته على توزيع روحه بين الأشباح التي يخلقها.
أما أسوأ الكتّاب في اعتقاده، فهم أولئك الذين لا يعرفون كيف يموتون داخل النص بسلام، الذين لا يمتلكون مهارات التخفي. ومن بين هؤلاء نوع يوصفون بالكبار لا يختفون داخل النص، إنهم روائيو السيرة. فكما يقول هم أقلية بين الكبار، إذ إنهم يرفضون عن وعي قتل أنفسهم داخل النص. أما نجيب محفوظ، فهو واحد من المهرة الذين لا يستطيع أحد العثور على أثره داخل النص، على الرغم أنه هو المتكتم الوحيد.
الكاتب ليس أقل احتياجًا من الطاهية إلى الصبر والحيلة وابتكار ما يدفع بالكتابة إلى آفاق أبعد مهما كانت الصعوبات، ففي البلاد الفقيرة إلى الحرية يكون الكاتب أكثر احتياجًا للاحتيال لكي يتفادى الصدام مع حرّاس الاستبداد.
النقاد القتلة
إلى جانب الانسجام وروح الكاتب والشكل، يُعطي القمحاوي أهمية للغة كعُنصر بناء مُهم في الرواية، فعلى الروائي - كما يقول - اختراع بناء لغوي متعدّد المستويات لأن اللغة: "هي ما تؤسّس للتناغم والتماسك في الرواية".
التعويل على اللغة ذات الخصوصيّة متعددة المستويات داخل الرواية دفعه إلى أن يُهاجم النقاد ومقولاتهم الأشبه بالكليشيه عن اللغة المدهشة، واللغة المتميزة، بل وصل انتقاده إلى اعتبار النقاد قتلة، قتلوا: "روائييهم المحبوبين باسم التميّز اللغوي، عندما كالوا المديح الموجّه إلى خصوصية لغاتهم الشعرية أو تلك التي تحاكي لغة التراث"، وكانت النتيجة أن الضحايا من الروائيين خلّدوا في هذه اللغة، وأفسدوا كتاباتهم/طبخاتهم.
ويضرب مثالًا برواية "الحرافيش" كنموذج لتعدّد مستويات اللغات داخل بنائها. وبصفة عامّة، من خلال استعراضه لأعمال محفوظ، يقول بيقين إن أعماله تكشف قاموسًا خاصًّا لكلّ عمل. فبالإضافة إلى طبقة المجاز في اللغة، ودرجات الجدية والفكاهة والسّخرية، هناك بلاغة وإيقاع يناسبان عالم كل عمل.
ومثلما يشدّد على اللغة، فإنه يشدد على حُسن المَطالع أو الاستهلال بلغة النقد الحديث، فالجملة الأولى هي "رأس الرواية"، وليس مطلوبًا منها تلخيص الرواية، أو كشف مضمونها، وإنما أن تفتح فقط شهية القارئ لها. وبصفة عامة، أن تُساهم المطالع في تحديد بوصلة الروائي نحو شكل وطول بعينه. قد يكون الاستهلال أشبه بالألغاز الذي يستنهض قارئه للمعرفة، ويلفت إلى أن حجم الرواية يفرق في اختيار حسن المطالع: "فالروايات الطويلة ذات المعمار المركّب تناسبها البداية المتأنية".
النصيحة الأهم التي يُقدّمها القمحاوي للروائي عند بناء نصه هي الصبر على ما يعرف، أي أن يُمارس لعبة الاستباق والإرجاء أو التقديم والتأخير، بمعنى ألا يلقي الكاتب في وجه القارئ كل خيوطه دفعة واحدة، سواء شخصيات روايته، أو أحداثها، أو حتى ملامح المكان.
وفي الوقت نفسه، ينصح بعدم التقتير، إذ إن بعض الروائيين لا يقدّم الكثير في مفتتحات روايتهم. كما لا يعد بتغيير قادم، والإشكالية عنده أن الرواية أشبه بلعبة الاستغماية، لا تكون ممتعة إلا إذا اختفى الكاتب في مكان قريب ومتوقع، فالقارئ ليس شريكًا خاملاً، والكاتب يعي هذه الشراكة بالمخفي داخل النص الذي هو ضرورة من ضرورات النص الذي قول يقول إيكو إنه: "أشبه بالآلة الخاملة التي تحتاج إلى مشاركة القارئ في عملية تأويلية لكشف ما لم يقُلْهُ المؤلف وتركه غامضًا".
ويدلل على أهمية وضع الاعتبار للشريك/القارئ، بنموذجه الأثير "ألف ليلة وليلة"، فيقول إن مبدعيها المجهولين اهتموا بمساحات الشريك/القارئ من البداية إلى النهاية: "فتركوا مساحات من الخفاء"، فالخفي هو جوهر الرواية، وكل الظاهر في السرد: "لا مهمة له سوى إبراز خفاء ذلك المخفي".
ولكن على الروائي أن يضع للقارئ: "مفاتيح الصناديق المغلقة بالداخل يصبح الإخفاء عماءً وإبهامًا"، ومن مساحات الخفاء تَرْك في القصة الإطار مكان مملكة شهريار مجهولاً، ولا كيف أدار شؤون مملكته في ساعات النهار، وكيف اضطلعت شهرزاد بأمور الحمل والولادة، وكيف صار لدى شهريار ثلاثة أبناء؟ كما يشمل الخفاء في الليالي بعضًا من كل عناصر السرد: الأحداث، والشخصيات بتكوينها ومصائرها، والأماكن.
في الختام
قد يبدو للقارئ العادي، أو غير المتمهل، أن المؤلف لا يتسلح بأدوات نقدية منهجيّة رصينة كتلك التي يفعلها النقاد الأشاوس، وهذا غير صحيح. فالقمحاوي ينطلق من وعي حقيقي بالملفوظات النقدية، ونظرية الرواية، إضافةً إلى نظريات القارئ، والقراءة.
ولكن السمة التي تحسب للمؤلف أن كل هذا لا يأتي مفصولاً عن السياق الذي يتحدث فيه وإنما يأتي كنسيج واحد مع البناء النصي، وهو ما يجعل النص مقبولًا من القارئ وسهلًا في فهم التنظيرات، على عكس النقاد الرسميين الذين يبدأون دراساتهم بالتقعير النظيري، دون الوصول إلى جوهر النص.
الكتاب بصفة عامة قراءة متأنيّة لعوالم "ألف ليلة وليلة" وإبداع نجيب محفوظ على وجه التحديد. بالتأكيد هناك أعمال كلاسيكية لمؤلفين كبار مثل دوستويفسكي ويوسا وماركيز وكاواباتا، وغيرهم. لكن الاهتمام الأكبر يقع على عاتقي "ألف ليلة وليلة" ونجيب.
كما إن حضور الأعمال الأخرى يأتي من قبيل الاستشهاد أو التدليل على أسبقية فكرة، أو حتى تناول ثيمة وشكل معين، حيث تشغل حكايات "ألف ليلة وليلة" جزءًا مهمًا من الكتاب، ولا يأتي سرده كاستعادة للحكايات الأصلية، وإنما أشبه بالمراجعة والتحليل للكثير من الحكايات، وأيضًا الفنيات التي اعتمدتها شهرزاد في رَوْي حكايتها.
وفي هذا الجزء تبدو إحاطة القمحاوي بالمؤلّف العظيم غاية في الإتقان، فهو لم يقرأ الحكايات من طبعة واحدة، وإنما يُقارن بين طبعات مختلفة، ويستدرك النقص الوارد في بعض الطبعات عن الأخرى، ويشير إلى الاختلافات بين الطبعات ومصادرها، والتغيرات التي حدثت بتفصيح نص الليالي، في مقابل إبقاء بعض النسخ باللهجة العامية، وهي وظيفة تقترب من المحقق البحاثة.
ليست قراءة القمحاوي لـ"ألف ليلة وليلة" قراءة سطحية، وكذلك نجيب محفوظ. فنحن مع تفكيك للنصوص، والبحث عن المخفي، أو جوهر العمل، وأيضًا المسكوت عنه الذي تركه المؤلفون المجهولون لـ"ألف ليلة وليلة" لقارئها. وبالمثل ما تركه نجيب محفوظ لقارئه، واستجلاء التيمات الجديدة، أو حتى البناء الشكلي المميز للعملين يكشف أيضًا عن تعدد مستويات القراءة التي يمنحها النصان للقراء على اختلاف مستوياتهم، وكذلك لغاتهم.
في النهاية، يمكن القول إن الكتاب في ظاهره يبدو وكأنه انطباعات عن الأعمال الروائية الكلاسيكيّة والرفيعة، لكن في بنيته العميقة، هو إجابة باستفاضة عن سؤال: لماذا نقرأ الأعمال الكلاسيكيّة، ولماذا هي خالدة إلى الآن؟ حيث يُقدّم رؤية الكاتب لفن الرواية، وكيف احتلت الرواية هذه السلطة منذ قديم الزمان، واستطاعت أن تزعزع أنواعًا رصينة، وإن اعترف بعدم العداء بين النوعين. لكن ما منح الرواية هذه السلطة هو أنها تأتي في درجة الخبز الذي هو طعام الجميع، عكس الشعر الذي هو نخبوي مثل الحلوى. فقدرة الرواية على استيعاب الزمن هو سر خلودها، وهو ما جعلها في رسوخ الخبز.