في عام 1902، صدرت الطبعة الأولى من كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي. ومنذ صدوره، وعلى مدار عقود طويلة، ظل الكتاب واحدًا من أبرز الكتب في الأدب السياسي العربي، إذ يمثل دراسة نقدية عميقة للاستبداد وآثاره على الأفراد والمجتمعات يَعود إليها الدارسون والباحثون الراغبين بالتعمق في عوالم الاستبداد، والطامحين إلى تكوين رؤية حول كيفية مقاومته والتحرر منه.
وإذا كان الكواكبي قد قدم في كتابه خلاصة تجاربه السياسية والاجتماعية، وخبراته الطويلة في أسفاره ورحلاته، وأقام فصوله باعتبار الاستبداد السياسي أصل كل داء ومرض أصاب الأمة العربية والإسلامية التي ينتمي إليها، ووضح تأثيراته على الدين والعلم والمال والأخلاق والتربية والترقي؛ فإن الرحالة العربي (اختار لنفسه هذا الاسم المستعار للإشارة إلى كثرة ترحاله)، جاء بعد قرنٍ من الزمن ليعلن في مؤلفه "طبائع الاستبداد الجديد" أنه يتطلع إلى الاستبداد السياسي من نفس منطلقات من يصفه بجده الروحي (عبد الرحمن الكواكبي)، ويعتبره أصل كل داء أصاب الشعوب العربية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة.
يستلهم العربي في كتابه حديث الكواكبي حول الاستبداد التقليدي، ويكتب عن الاستبداد الجديد مستخدمًا الطريقة نفسها المركزة التي استخدمها الكواكبي، مع الابتعاد عن ذكر الأمثلة المباشرة. كما يتبع منهجه في بناء فصول كتابه، حيث يفتتحه بفصل أولي يتضمن مقدمة مفهومية حول مفهوم الاستبداد بشقيه التقليدي والجديد، ويستتبع الفصل الأول بعدة فصول يَجعل فيها الاستبداد متغيرًا مستقلًا، ويوضح تأثيراته على عدة متغيرات تابعة أخرى، وهي: الدين، المال، السياسة، التعليم، الثقافة المحلية، الأخلاق، الإعلام، الجيش والمخابرات، إضافةً إلى العنف، القضاء، الشورى، مؤسسات المجتمع المدني، الخدمات الصحية. وينهي كتابه بفصل ختامي يتناول فيه طرق التخلص من الاستبداد.
الفرق بين الاستبداد التقليدي والاستبداد الجديد
يتناول العربي في الفصل الأول من الكتاب مفهومي الاستبداد التقليدي والجديد، ويوضح الفرق بينهما. فالاستبداد التقليدي الذي أسس له الكواكبي في القرن التاسع عشر يأتي ليصف الحكومة المطلقة، التي تتصرف في شؤون الناس كما تشاء وتهوى بلا خشية لحساب أو عقاب، وتستخدم أساليب التخويف والترهيب في سبيل فرض سلطتها، وهي حكومة لها أشكال عديدة تشمل: حكم الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو بالوراثة (الحكومة المطلقة)، والحكومة الجمهورية الدستورية (الحكومة المقيدة) عندما تملك بنفوذها وسلطتها وقوتها القدرة على إبطال سلطة القانون والدستور، وتضع نفسها فوق المساءلة.
أما الاستبداد الجديد الذي يؤسس له العربي، فهو ذلك الاستبداد الذي يستخدم الخطاب الأيديولوجي في استدعاء التأييد الجماهيري، ويَستخدم الشعارات الرنانة كذريعة لقمع الشعوب والسيطرة عليها، إذ إنه استبداد يستخدم آليات أيديولوجية من أجل دفع الجماهير إلى تأييده والتصفيق له، وحملها على بذل الغالي والرخيص والموت في سبيل حمايته.
ورغم أن الاستبداد التقليدي الذي نظر له الكواكبي يخلو في تعريفه العام من ذكر الخطاب الأيديولوجي كوسيلة من أجل تثبيت شرعيته، إلا أنه يَستبطن في داخله إشارة إلى الخطاب الأيديولوجي الديني. ذلك أن تتظيرات الكواكبي والعربي حول الاستبدادين التقليدي والجديد يُمكن قراءتها في ظل تصنيفات عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لأنماط الشرعية التي تستخدمها النظم السياسية في تحصيل التأييد الجماهيري لحكمها وتثبيت أركانها، وهي ثلاثة: الشرعية التقليدية، والشرعية الكاريزمية، والشرعية العقلانية.
وفي حين يبني الاستبداد التقليدي الذي نظر له الكواكبي شرعيته مستندًا إلى مواريث التقاليد وسلطانها الساري في وجدان الناس (مثل شرعية السلطة البطريركية الأبوية بكافة معانيها وأنواعها، وسلطة الأمير والشيخ)، يبني الاستبداد الجديد الذي نظر له العربي شرعيته مستندًا على مخزون المهابة والمكانة الاعتبارية التي يحوز عليها الزعيم الملهِم في نفوس أتباعه، ومن اعتقادهم الجمعي بإمكانيته على تحقيق الخلاص لهم (مثل شرعية سلطان، النبي، الولي، الزعيم الوطني والقومي).
فكلا الاستبدادين، التقليدي والجديد، يرتبط بشكل مباشر بالخطاب الأيديولوجي، حيث بشكل هذا الخطاب بمنطلقاته المختلفة أحد أهم أدواتهما في تثبيت أركانهما وحيازة دستورية شكلية تُمكنهما من تقديم أنظمتهما السياسية كشرعية مختارة من قبل الشعب وحائزة على مقبوليته.
الوطن العربي ومظاهر الاستبداد التقليدي والجديد
حتى قبل النصف الثاني من القرن العشرين، ظل الاستبداد التقليدي هو شكل الاستبداد السائد في الوطن العربي، وكان يعتمد على الخطاب الأيديولوجي الديني كأساس لحيازة شرعية تقليدية، ومن أبرز الأمثلة على هذا الاستبداد في الوطن العربي: نظام إمارة المؤمنين في المغرب الذي يقوم على الدعوة إلى الحكم بمقتضى المرجعية الدينية كأساس للسلطة، أو نظام العمل بمقتضيات الشريعة السائد في المملكة العربية السعودية.
يورِد العربي في الفصل الأول نفسه أن بدايات ظهور الاستبداد الجديد في العالم عمومًا، يعود إلى أوائل القرن العشرين، حيثُ بدت سماته الأولية في انقلاب الاتحاديين على الخلافة العثمانية، وفي انحرافات الثورة البلشفية على يد ستالين في الاتحاد السوفيتي، وبلغت أوجهها في الحكومات القومية المتعطشة في ألمانيا هتلر وإيطاليا موسوليني وإسبانيا فرانكو، ثم انتشرت في أنحاء الوطن العربي، وخاصةً مع ثورة الشعوب ضد الاستعمار في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية وفي أميركا الجنوبية.
بدأ ظهور الاستبداد الجديد في الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، أي بعد نجاح حركات التحرر من الاستعمار في طرد القوات العسكرية الأجنبية من أراضيها، إذ إن الأنظمة السياسية التي حكمت الدول العربية القطرية في مرحلة ما بعد الاستعمار، استخدمت خطابًا أيديولوجيًا معينًا لتثبيت شرعيتها، وهو الخطاب الأيديولوجي الثوري القومي الذي يرفع شعار الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ويتخذ من تحرير فلسطين والنضال ضد العدو الصهيوني استراتيجيةً وهدفًا عامًا، وهو ما يُمكن ملاحظته في الخطاب الأيديولوجي للأنظمة السياسية التي حكمت مصر وسوريا والعراق في مرحلة الاستقلال.
يَظهر تناقض هذا الخطاب بشكل واضح عند النظر في ممارسات الأنظمة السياسية التي تتبناه، فهي ترفع شعار الحرية إلا أن سجونها ومقابرها تعج بكل من يشتبه معارضته للسلطة، وهي ترفع شعار النضال ضد العدو الإسرائيلي وتتكلم باسم الشعب وباسم المحافظة على أمن الدولة والشعب من الإرهاب والتطرف، لكنها تتخذ هذه الشعارات الرنانة سبيلًا إلى القمع والاستبداد، حيُث منع حرية الصحافة والإعلام، وعدم السماح بتأسيس الأحزاب، أو استخدام "الاستبداد الديمقراطي"، أي اللجوء إلى أساليب حكم تبدو ديمقراطية في ظاهرها، لكنها استبدادية في حقيقتها، مثل: السماح بنشر بعض صحف المعارضة المأمونة وغير الفاعلة، والسماح بتشكيل أحزاب سياسية ضعيفة وهامشية، وكل ذلك من أجل إعطاء الاستبداد الجديد شكلًا ظاهريًا وهميًا من التعددية الحزبية والممارسة الديمقراطية، مع إبقاء أساليب السيطرة المطلقة تعمل في الخفاء بعيدًا عن الملاحظة المباشرة.
يؤكد العربي أن الاستبداد الذي ساد في الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين لم يقتصر على شكل الاستبداد الحديث الشامل، فقد استمر وجود النمط التقليدي من الاستبداد المطلق الوراثي في منطقة الجزيرة العربية وفي المغرب.
بسبب وجود هذا المزيج من الاستبداد التقليدي والجديد في الوطن العربي، نشأت بين الاثنين علاقة منفعة متبادلة، فقد استفاد الاستبداد التقليدي من الوسائل الناجحة في التسلط التي قدمها الاستبداد الجديد، مثل السيطرة على وسائل الإعلام، وتوزع الثورة بحسب الولاء والإخلاص للحاكم، لا بحسب الكفاءة والأمانة والإخلاص في أداء الواجب. كما طبق الاستبداديون الجدد بعض الأساليب التي ثبت نجاحها من وسائل الاستبداد التقليدي، ومنها الاعتماد على العشائر، والسيطرة التامة على دخل البترول والثروات الطبيعية، وتوريث السلطة للأبناء وغيرها.
الاستبداد الجديد وطابعه الشمولي
يستعرض العربي في الفصول الحادية عشر التي تبعت الفصل الأول تأثير الاستبداد الجديد في مختلف مناحي حياة الشعوب التي يحكمها، ويصفه بأنه نظام شامل يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في كافة جوانب الحياة اليومية للمواطن من خلال سيطرته على الاقتصاد والتعليم والدين والجيش والمخابرات وغيرها.
يوضح العربي أن الاستبداد الجديد يظهر في آليات سلطته العامة أكثر عنفًا وضبطًا وشمولية من الاستبداد التقليدي، فالاستبداد التقليدي القديم يستمد شيئًا من شرعية وجوده من حقوق طبيعية مثل الوراثة والحق الإلهي والسلطة الدينية، في حين أن الاستبداد الجديد يؤسس شرعيته على ادعائه تمثيل الجماهير وتحقيق مطالبها وآمالها في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، فهو في تأسيسه لدولته المستبدة يستخدم الشعارات الرنانة وسيلة ليبسط سيطرته وليحيط بكافة مفاصل الدولة التي يحكمها.
يعتمد الاستبداد الجديد على رفع شعارات عقيدة الولاء في الدين والسياسة الداخلية والجيش، ويلجأ المستبدون الجدد إلى تشجيع علماء السلاطين، والفئة الموالية منهم، ودعم نفوذهم، ويفرضون على المحيطين بهم إثبات الولاء من أجل زيادة حصتهم الممنوحة، وتتم السيطرة على الجيش، من قبل الموالين للسلطة بحسب قاعدة الاستبداد العامة: الولاء وليس الكفاءة، ويتم تسريح الضباط المعارضين للسلطة.
وفي حين يحصل الاستبداد التقليدي على ثرواته بالوراثة التي تمنحه شرعية التصرف بأموال الأمة على هواه، فإن الاستبداد الجديد يلجأ إلى الاستيلاء على المال باستخدام شعارات براقة يرفعها باسم الشعب ومصالحه مثل تحقيق العدالة الاجتماعية، والعدل في توزيع الثروة، والمساواة بين الطبقات، وتطبيق الاشتراكية، وغيرها.
يستخدم الاستبداد الجديد الشعارات كوسيلة من أجل التغلغل في حياة الناس والسيطرة على معيشتهم منذ ولادتهم وحتى مماتهم، إذ إن شعار مجانية التعليم يُستخدم كذريعة للسيطرة على تنشئة الأجيال في المدارس في كافة مراحل التعليم، وتحديد قواعد الدراسات الجامعية والإمساك بزمام الاستثناءات والبعثات فيها. وفي القطاعات الصحية، تُرفَع شعارات مجانية العلاج لكن النظام يتدخل المستبد بسياسة قبول الطلاب في كليات الطب، ويَمنح الموالين من أعضاء حزبه وجماعته وطائفته امتيازات خاصة لدخول هذه الكليات، بدلًا من أصحاب الكفاءة.
يُمعن الاستبداد الجديد في استخدام شعارات الوحدة ومحاربة العدو الخارجي من أجل السيطرة والضبط، حيثُ يسيطر على المنظمات الشبابية والأندية الرياضية، ويسيطر على التوظيف الحكومي بعد التخرج، وعلى كافة الفعاليات الاقتصادية وفرص العمل، ويوجه الأفكار والرأي العام من خلال السيطرة الشاملة على وسائل الإعلام ويتحكم بالمثقفين والمفكرين بدعم مؤيديه ونفي وسجن وقتل معارضيه.
كيفية التخلص من الاستبداد
يُقدم الكواكبي في آخر فصل من كتابه عن طبائع الاستبداد مبادئ عامة في كيفية التخلص من الاستبداد، حيثُ يقول:
"1. الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2. الاستبداد لا يقاوم بالشدة وإنما يُقاوم باللين والتدرج.
3. قبل مقاومة الاستبداد يجب تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد".
يستلهم الرحالة العربي في الفصل الأخير من كتابه المبادئ التي اقترحها الكواكبي للتخلص من الاستبداد التقليدي، في وضع استراتيجية عامة للتخلص من الاستبداد الجديد، وتقوم على أساس ثلاث مراحل، وهي:
تشكيل فئة طليعية قيادية مبدعة رائدة في المجتمع، تعمل ضمن أطر مجتمعية ضيقة على تحدي سيطرة النظام الاستبدادي، عبر فتح حلقات نقاشية محدودة تُناقش فيها مطالب الحرية والديمقراطية وغيرها.
اللجوء إلى الثورات الشعبية اللاعنفية التي تستخدم الأساليب السلمية في النضال، وهي الأساليب التي أشار إليها المفكر الأميركي جين شارب في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوري للتحرر"، وتضمن: أساليب الاحتجاج والإقناع: مثل المظاهرات والبيانات والعرائض، وأساليب اللاتعاون: مثل اللاتعاون الاجتماعي (الإعاقة والمماطلة والإضرابات)، واللاتعاون الاقتصادي (المقاطعة والتقشف والامتناع عن رسم الرسوم والضرائب)، واللاتعاون السياسي (مقاطعة الانتخابات والعصيان المدني ضد تنفيذ بعض القوانين الجائرة)؛ وأساليب التدخل الإيجابي، مثل الصيام والاعتصام، والاحتلال غير العنيف وتشكيل حكومة موازية إلخ.
- وضع استراتيجية معينة للمقاومة من خلال دراسة نقاط القوة ونقاط الضعف في دولة الاستبداد، ومعرفة نقاط القوة والضعف لدى قوى المعارضة الديمقراطية، ومعرفة توازن القوى المحلية والإقليمية والدولية التي يُمكن أن تتدخل في الصراع لصالح حكومة الاستبداد أو ضدها. وكذلك، معرفة وسائل النضال المناسبة والمتاحة والممكنة في المجتمع.
يَظهر العربي في استراتيجيته هذه منسجمًا مع روح المبادئ العامة التي وضعها الكواكبي للتخلص من الاستبداد، حيثُ يؤكد على ضرورة التدرج في مراحل التحرر من الاستبداد؛ بدءًا من العمل المجتمعي الضيق الذي تقوده قيادة طليعية تقوم بزيادة توعية الناس بحقوقهم المسلوبة وبمفاهيم الحرية والعدالة، مرورًا بالنضال السلمي الذي من شأنه أن يمنح المواطنين ثقة أكبر في أنفسهم لتحدي الاستبداد، ويزيد من خبرتهم العملية في أساليب التعاون والعمل الديمقراطي، وطرق المقاومة ضد أي استبداد قد يتشكل في المستقبل، وانتهاءً بوضع استراتيجية مقاومة واضحة ومحددة المعالم تحدد من خلالها الوسائل النضالية المناسبة والمتاحة التي تتضمن الاستمرارية حتى تحقيق الأهداف.
تجليات العبقرية السياسية في كتاب الكواكبي
لعل تجليات العبقرية السياسية في كتاب الكواكبي تَظهر في راهنيته التي كشفت عنها انطلاق ثورات الربيع العربي في أواخر العام 2010، فهذه الثورات شكلت صدمة للعديد من الباحثين العرب والغربيين الذين ظلوا يتبنون مقولة "الاستثناء العربي" للتدليل على عدم وجود تطلع عند الشعوب العربية للتحرر من الاستبداد التقليدي والجديد الذي حكمهم لعقود طويلة، إذ إن اندلاع هذه الثورات ووجودها في شكل موجات عديدة، هو الدليل الأكبر على أن الشعوب العربية كانت تستشعر آلام الاستبداد السياسي المسيطر عليها، وتتطلع إليه باعتباره أصل كل داء، وتتحين اللحظة المناسبة للثورة عليه. ورغمَ كل الانتكاسات التي طالت هذه الثورات، إلا أن الشعوب التي انطلقت بها وقادتها هي شعوب - باستلهام تعبير الكواكبي - تستحق الحرية مهما طال بها الزمن.