تصفح سير المنتحرين من هواياتي المحببة. يشبه الأمر زيارة المناطق المظلمة المرتبطة بالموت والكوارث. لا أقرأ عنهم للإجابة عن سؤال الانتحار المعقد، بل لمحاولة النظر نحو من نفّذه ومحاولة الاقتراب من عوالمه، وقد رأيت هويات شديدة الاختلاف. إنهم ليسوا كتلة واحدة، ولمست هذا التفرد في إخراجهم لمشهدهم الأخير في الحياة.
تقدم لنا طرق الانتحار لمحة عن مسيرة المنتحرين وحياتهم وسط المجتمع الذي حاولوا أن يجدوا لأنفسهم مكانًا داخل أسواره. إنها رسالة الإرادة الأخيرة ضد العالم الخارجي. وفي القاهرة، اكتسب المنتحرين/ات الذين عاشوا/ن فيها واشتبكوا مع المجال العام جاذبية إضافية. يجمعنا خيط ما؛ تحدثوا العامية، وساروا بمحاذاة النيل، وعاشوا في شوارع أعرفها، وربما داست أقدامنا النقطة نفسها من الطريق. والأهم أني خضت تجاربي داخل المجال العام تحت القوانين نفسها التي وجهت تجاربهم.. ننتمي جميعًا لمجتمع يعيد إنتاج أزماته باستمرار.
عاشت أروى صالح وعنايات الزيات في مراحل انتقالية من تاريخ مصر. ولدت عنايات في عام 1936 وانتحرت في 1963. بينما ولدت أروى في 1951 وانتحرت في 1997. تزامن شباب عنايات مع سقوط الملكية وسنوات الجمهورية الأولى، وتفتح وعي أروى السياسي مع هزيمة تموز/يوليو 1967 وسبعينيات الحرب والتحولات الاجتماعية العنيفة عقبها، وجيل الطلبة اليساريين الذين "مسّهم الحلم مرة"، قبل أن ينتهوا إلى مصائر تراجيدية.
مارست كلتهاهما الحياة بطريقة مختلفة وتقاليد طبقية متباينة. اختبأت عنايات من المجتمع وقررت الاشتباك معه خلف ستار الأدب، بينما كانت أروى أكثر جرأة ومارست الحياة بعنف وشغف، إذ كانت شيوعية تنظيمية كتبت وترجمت وتظاهرت. وعندما انقلب عالمها رأسًا على عقب وخذلها رفاقها، لعنتهم بنقد شرس تحول إلى مرجع تاريخي لفهم جيل الطلبة، فلا يذكر جيل طلبة السبعينيات إلا وذُكِرت أروى صالح وكتابها الشهير "المبتسرون". سلكت الفتاتان طريقين مختلفين للتحقق وترك الأثر: الأيديولوجيا مقابل الأدب، الصوت الجهور مقابل الصوت الهامس، التشريح النظري مقابل الترميز الأدبي، حبوب النوم مقابل السقوط من الطابق العاشر.. إلخ. رغم ذلك، انتهت طرقهما إلى الساحل نفسه: شاطئ الموت الطوعي، في المدينة نفسها، القاهرة.
البحث عن عنايات
تبحث إيمان مرسال في كتابها "في أثر عنايات الزيات" عن أديبة انتحرت في الخامسة والعشرين من عمرها ولها رواية واحدة بعنوان "الحب والصمت" نشرت بعد رحيلها، لكن إيمان لا تتقصى أثر أقدام على الرمال بل أثرًا أنطولوجيًا لكاتبة منعزلة لا وجود لها في الأرشيف الثقافي المصري وفي ذاكرة جيلها، وغيابًا كان مستفزًا لبدأ رحلة انتهت بهذا الكتاب.
تنتمي عنايات لجيل وصفته الفنانة نادية لطفي، صديقتها المقربة، بجيل "الانتقال" من الملكية إلى الجمهورية، حيث أصبحت المرأة قادرة على العمل في السينما والكتابة والمسرح في إطار مشروع ثقافي تدعمه الدولة. وفي عالم جمهورية يوليو الناشئة الذي يَعِدُ بالأحلام والأماني، حاولت عنايات التحقق أدبيًا لكنها خاضت رحلتها كفرد منعزل في زمن الكتل والأحزاب والتجمعات، ولم تتوافق مع "كود" الدولة للكتابة المطلوبة لدولة يوليو. وفي غياب الانتماء إلى مشاريع الدولة والمعارضة، وجدت نفسها على هامش المجال العام دون صوت عندما رفضت الدار القومية نشر روايتها الوحيدة.
تواجه مرسال الرواية المقتضبة عن عنايات بأن هذا الرفض هو الذي تسبب في انتحارها وتُزيل الغموض عن جوانب حياتها المأساوية الأخرى، مثل زواجها الفاشل واكتئابها ومحاولات علاجه الطويلة، وتشير إلى أن مشروعها الأدبي كان يمكن أن يكون وسيلة للخروج من تلك الدوامة، أو على الأقل نقطة مساعدة. وعدتها الدار بالرد على المسودة بعد أسبوعين، تحول الأسبوعان إلى عامين، وردت الدار أخيرًا برفض الرواية. بعد يومين اتصلوا مرة أخرى ليعتذروا عن خطأ إداري قائلين إن الرواية لم ترفض، لكن المكالمة كانت متأخرة بشكل مأساوي، فقد ابتلعت عنايات شريطًا كاملًا من حبوب النوم "فيرونال" لترحل في الخامس من كانون الثاني/يناير 1963 في شقتها بالدقي.
عايدة.. صفاء اسماعيل.. أروى صالح
تفتح وعيي السياسي مع انتفاضة كانون الثاني/يناير 2011، رغم ابتعادي عن القاهرة بخمسة وثمانين كيلومترًا، لكن انفجار الميدان البركاني وصلت حممه إلى بيتي وجذبتني مفتونًا نحو العاصمة لأكتشف هذا العالم الغريب. ستأخذ الدهشة خطوتها الطبيعية التالية: الأيديولوجيا. ستدفعني الأدلجة للالتحاق بحركة يسارية صغيرة العدد تمثل قناعاتي في تلك المرحلة. لم نعتبر مسألة العدد نقيصة، بل على العكس رأينا أنفسنا ثلة مصطفاة. سمعت عن أروى صالح للمرة الأولى في تلك الفترة، عرفتها بثلاثة ألقاب: "عايدة" الاسم التنظيمي، و"صفاء إسماعيل" الاسم الذي تذيل به كتاباتها السياسية، و"أروى صالح"، اسمها الذي بدأت به وعادت إليه. حينها، لم أعرها اهتمامًا، من يهتم بأنبياء الأديان الخاسرة في سكرة الفوز؟
بعد هدوء الجذوة قرأت كتابها "المبتسرون" دون تحفز وعرفت سبب نبذها في المخيلة اليسارية التنظيمية، فهي مرتدة بمقاييس محكمة الأيديولوجيا التي حاكمت كونديرا في رواية "المزحة". نشطت أروى في جيل السبعينيات الذي تكون إثر هزيمة 1967. بدأ نشاطها السياسي في التاسعة عشرة من عمرها حتى أصبحت عضوة في اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي. وبشهادة أصدقائها، فقد كانت استثنائية ولديها حس نقدي وتنظيري غير مألوف.
تفتح وعي جيلها على مجال عام يفتح أبوابه بقوة الواقع بعد تهاوي سلطة النظام على القمع بعد الهزيمة. تقدم أروى في الكتاب سردية مختلفة عن الرواية القومية، فبدلًا من لعن زمن الهزيمة ترى أن فيه حيوية وحياة أكثر من زمن النصر، حيث شارك الشعب في الشأن العام وفُتِحت ملفات عديدة دون رقابة. وهذا الهامش سينهار بعد "نصر" تشرين الأول/أكتوبر 1973 عندما يستعيد النظام عافيته.
كانت حركة الطلاب من إفرازات هذا الهامش. ورثت الحركة فلول يساريي جيل الستينيات وأزمات تجربتهم. تنزع أروى القدسية عن مناضلي الماضي وتسميهم بـ"العاطلين عن العمل" متوسطي الموهبة، وتحلل تجربة جيلها عن طريق ربطه بالمجتمع الذي نشأ فيه، فترى أن جيلها نشأ نتيجة الفراغ بين عالم عبد الناصر والسادات، الاشتراكية والرأسمالية. وفي لحظة تاريخية بين عالم ينتهي وعالم يبدأ، كان جيل السبعينات شباب/ات في أوائل العشرينات. تقول أروى: "يتلعثم بعضه بكلمات ماركسية وملأته قيادة الجماهير غرورًا وسذاجة، سرعان ما دفع ثمنها غاليًا" (المبتسرون).
برودة الغرف الجديدة
إذن، ما الذي يجمع عنايات وأروى؟
لا أهدف للوصول إلى سبب واضح أحمله مسؤولية انتحار كل منهما، فكما تقول جمانة حداد في كتابها "سيجيء الموت وستكون له عيناك": "كل مرة ينتحر إنسان يولد سر: سر منيع لا يستطيع أحد كشفه يومًا". لكني أحاول استهداف نقاط التماس بين حيواتهم الشخصية والمجال العام، وكيف يؤدي إغلاق المجال العام بتكرار مآسي عابرة للأجيال.
اشتبكت أروى وعنايات مع المجال العام بطريقتين مختلفتين في حقبتين متتاليتين. ورغم ذلك، نرى مرارة الإحباط في سيرتيهما. أثناء انتظار الطلاق من المحكمة، كتبت عنايات روايتها الوحيدة "الحب والصمت". بطلة الرواية فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا وتُدعى "نجلاء"، تبدأ قصتها في السنوات التي ضاعت من عنايات في زواج فاشل نتج عنه طفل. استعانت عنايات بالأدب لتدوين تاريخ متخيل لنفسها، المشترك بين القصاصات المتبقية من مذكراتها والمنشورة في كتاب إيمان، وشخصية نجلاء في الرواية، هو رغبتها في كسر نمط حياتها المألوف والانطلاق نحو العالم المجهول الكبير: "أريد انتزاع نفسي اللاصقة في صمغ البيئة والخروج بها إلى دنيا أوسع وأكبر. لقد مللت سماوات بلادي الصافية. أريد سماوات أخرى قاتمة غامضة ووعودًا تثير الخوف والدهشة" (الحب والصمت).
كان الأدب هو السفينة التي اختارتها عنايات لتترك لنفسها أثرًا، لكن ذلك العالم كان ينتظر من شبابه نموذجًا آخر تريده السلطة، إذ كان مزاج الحقبة في زمن عنايات هو البروباغندا الثقافية وتحفيز الشعب للاصطفاف خلف الجمهورية الناصرية الوليدة، وكان على كل الأقلام التي تطمح إلى الاعتراف الثقافي أن تسير في هذا الطريق. في مرحلة ما، يسأل الفرد نفسه: من أنا؟ ومن هذا السؤال يبدأ بالانتماء إلى مشاريع جماعية أو فردية.
على عكس عنايات، انتمت أروى إلى مشروع جماعي هو حزب العمال الشيوعي. وفي كتاب "المبتسرون"، تحدثنا عن "الكيتش"، وهو الرغبة في الخلاص الجماعي. ترى تلك النظرية أن الخلاص الجماعي هو من يقود إلى لخلاص الفردي، وأن كل مجتمع يقوده مجموعة مصطفاة نحو قدره التاريخي كما تبشرنا الماركسية. رأت حركة الطلاب نفسها في تلك النبوءة، وعلى قدر علو الأحلام كانت قوة السقوط.
أما عنايات، ابنة الطبقة البرجوازية العُليا، فقد هربت بطرق أخرى فردية رفضتها أروى لإثبات الذات: الزواج، الطفل. وبعد انهيار زواجها، عادت إلى النقطة نفسها التي قادتها نحو الزواج، إلى سؤال: من أنا، وما هو الأثر الذي أريد تركه. وهنا برز دور الأدب في حياتها.
في حياة عنايات نرى تناقضًا بين سلوكها الانطوائي وكتاباتها المنطلقة. على مستوى سلوكها فهي منعزلة وتكره الاختلاط، أما في روايتها فهي تريد السفر واقتحام المجهول وتحريك سكون عالمها. ظلت عنايات حائرة طوال حياتها تبحث عن سبب انفصال الداخلي عن الخارجي، تصف هذا الفراغ في الرواية على لسان نجلاء: "بفرديتها التي تتضخم وتعزلها داخل نفسها".
عرفت عنايات غرف المشافي النفسية الباردة منذ مراهقتها، لكنها عانت من تلك البرودة خارج المشافي عندما عرضت روايتها على كبار مثقفي جيلها ولم تلفت انتباههم، لكنهم ادعوا بعد موتها أنهم شجعوها، مع أنهم لم يبدأوا في مدحها وكتابتها إلا بعد رحيلها، إذا لم تتحمل الدار القومية وحدها مسؤولية التجاهل الأدبي لعنايات، بل ومثقفي جيلها أيضًا. في مجتمعنا العزيز يجب على الفرد أن يموت كي يلفت الأنظار: "لم يكن لي ملاذ غير نفسي، الكل كانوا غرباء، وأنا أحاول عبثًا أن اكون على وفاق مع هذه النفس الجموح بداخلي".
تقول أروى صالح في كتابها: "أنا فعلًا ما راودتنيش لحظة ندم على الطريق الوحيد اللي بيفتح أبواب اكتشاف العالم من جديد.. لكن اللي حصلي على مدى المشوار، كان فوق طاقتي، بالتحديد لأني كنت في الواقع وحيدة.. كل أحلام العالم لا تغنيك عن لحظة الدفا اللي يديها لك وجه إنساني".
عند مقاربة السيرتين، نجد تشابكات عديدة بين العالمين مثل وصف أروى عالم عنايات في بداية الفصل الثاني من "المبتسرون"، عندما تتحدث عن انخراط الموهوبين من اليساريين في زمن عبد الناصر في الستينيات في حركة أدبية مسيجة حدد النظام إطارها. لم تنتمِ لغة عنايات الأدبية إلى شروط تلك الحركة، إذ كانت الدار القومية للنشر تنفذ خطة عبد الناصر في خلق بروباغندا ثقافية، ولم تكن لغتها الكئيبة وتشبيهاتها الوجودية الفلسفية تلك المطلوبة في زمن الأحلام الجماعية الكبيرة، حتى إن كاتبًا استثنائيًا مثل نجيب محفوظ لجأ إلى الترميز ليتجاوز نصل تلك السلطة.
تنتهي رواية "الحب والصمت" التي نشرت بعد انتحار الزيات بمسيرة دبابات يوليو وبداية عصر جديد "ينتصر للحياة"، وتشعر فيه البطلة بانتفاء فرديتها لصالح الحلم الجماعي للخلاص، ذاك الحلم الذي تحدثت عنه أروى في تحليلها لتجربتها: الرغبة في الخلاص الجماعي كوسيلة لإصلاح الخراب الشخصي. لكن إيمان تنشر في الكتاب شهادة للصحافية نعم الباز مفادها أن نهاية الرواية المنشورة تعرضت للتزوير لعدم اقتناع الدار بالنهاية الحزينة بموت حبيب البطلة، ورغبتها في نهاية "إيجابية".
تتخيل إيمان مرسال بحسها الشعري سيناريوهات مختلفة لتورط عنايات في حياة الآخرين، أو في مشاريع جيلها الثقافية والسياسية. كان يمكن لعنايات أن تتورط في عالم الستينيات وتصبح مناضلة مثل أروى، لكن إيمان تشكك في وجود ما يضمن أن يحمي امرأة بتكوينها من الانتحار.
تقول عنايات: "إن مجرد تصوري أني سأعيش وأموت مثل هذه الشجرة الوحيدة في الحديقة.. أسقط في مكاني.. وأنتهي نهاية خرساء.. هذا التصور يفزعني".
نساء قبل كل شيء
بعد تنحي مبارك، كان الشارع يمتلئ بالضجيج، والكل يطرح مطالبه على الطاولة، وحينها برزت مسألة مهمة: ما هي أولويات القضايا في القائمة الطويلة للمطالب؟ أتذكر أن النسويات أثرنَ تلك النقطة وكان موقفنا نحن اليساريين الراديكاليين أن قضايا النساء جزء من موقعها الطبقي، وليست مسألة منفصلة بذاتها. أما المجتمع، فلم يرَ لقضايا النساء قيمة من الأصل.
حاولت المقارنة بين ما خاضته أروى وعنايات ونساء جيلي وصراعهن في مسألة الأولوية ليس على المستوى السياسي فقط، بل والاجتماعي أيضًا. تجسد الشخصيات الثلاث نماذج من أفراد عاشوا مراحل تغير كبيرة في المجتمع المصري، وحتى حينما تتحرر الجماهير من السلطة السياسية في لحظات مؤقتة، لن يكون هذا انتصار للنساء، فهناك معارك جندرية أخرى يجب عليهن خوضها مع الرجال المعارضين والمجتمع وقوانينه لكي يضعوا أنفسهم على قائمة الأولويات. لا تقتصر مأساة أروى وعنايات في خصوصية الفترات التي عشن فيها وحسب، بل في كونهن نساء وسط تلك المراحل الفارقة.
حصلت إيمان مرسال على نسخة من دعوى طلاق عنايات أمام محكمة الأحوال الشخصية بالجيزة. تصف عنايات حياتها الزوجية بأنها كانت سلسلة من المآسي ومن الاعتداءات المهينة عليها كإنسانة وكزوجة وكأم. وتصف زواجها في أوراقها الشخصية بأنه زواج دون حب ولا تفاهم ولا انسجام، ولم يكن له هدف إلا ترك المدرسة بكل تزمتها ومحدوديتها.
رفضت المحكمة الدعوى لأنها استعانت بشهادة صديقتها وخادمتها لإثبات العنف والإهانة ورأت المحكمة أن كلا الشاهدتين شهدت الأمر على انفراد دون وجود الأخرى، ولذلك بطلت شهادتيهما. كما شككت المحكمة في شهادة أباها عباس الزيات لأنه لم يكن شاهدًا على الإهانة التي كانت سبب بكائها. وفي الاستئناف، قام محامي الأسرة ناجي خليل بنقد قانون الأحوال الشخصية المصري بوصفه قانونًا لا يرى المرأة شخصًا مستقلًا بل كجزء من مقتنيات الزوج، لكن الاستئناف رُفض أيضًا، ولم يظل سوى معركة أخيرة وهي الاستئناف على الاستئناف.
في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 1960، قبل انتحارها بشهر ونصف تقريبًا، خسرت الاستئناف، لكن أسباب المحكمة كانت درسًا في الأبوية وقولبة النساء قبل أن تكون حكمًا قانونيًا. سأختصر الحيثيات الطويلة بالنقاط التي أريد التركيز عليها: "إنها منطوية ولا تشارك زوجها وأصحابه عندما يزورونه بعائلاتهم المحترمة الطعام ولا المرطبات، وتمنع نفسها عن سرير الزوجية وتغلق عليها حجرتها (...) ترغب في العمل على غير رغبة زوجها ودون موافقته رغم أن مرتبه هو كفيل بأن يهيئ لها حياة رغدة دون الحاجة إلى أن تعمل (...) وعلى أساس أن عملها لا يوائم عادات وتقاليد المجتمع العالي الذي نشأ منه وفيه الزوج" (مما جاء في قرار المحكمة كما ورد في كتاب "في أثر عنايات الزيات").
يبدو أن جيل الانتقال الاجتماعي الذي آمنت به عنايات وجيلها كان مجرد خدعة اقتصر فيها دور النساء في المجال العام على المساحات التي تسمح بها السلطة ولم تتوسع إلى جوانب أخرى. كان القانون وصيًا آخر ضمن الأوصياء الذين وجّهوا مسار حياتها. أما أروى، فقد كانت أزمتها كفتاة وسط تنظيمات أغلبها من الرجال أن تنال وصايتهم أيضًا. في فصل "المثقف عاشقًا"، تحلل أروى العلاقات بين الرجال والنساء في المجتمع كمدخل لتحليل علاقة المثقف المصري بالمرأة، لأن فهم عقلية المثقف في نظرته للمرأة يتطلب فهم "الأصل" الذي يحكم سلوكه.
المرأة في حياة الرجل حسب قوانين البرجوازية تُرى في إطار صيغتين: إما زوجة أو عاهرة. وفي الحالتين، يحكم كلا الصيغتين قانون التملك، حيث ينفق الرجل وتعطيه والمرأة اللذة وتبدد الملل. وتفهم المرأة علاقتها بالرجل بمنطق التبادل، حيث تكون أنوثتها مقابلًا للإنفاق، الذي يتم تحديده حسب الطبقة الاجتماعية. وقد استوعب المثقف المصري تلك القوانين، ثم ابتذل مفهوم "الحب الحر"، وعرّفه بأنه الجنس دون مسؤولية.
في المقابل، يضع المثقف المرأة في نفس القوالب المجتمعية السائدة، فحين يتحدث عن زيف قيم المجتمع التي تنظم العلاقات، لا يشمل انتقاده المطالبة بتغيير جذري في الأدوار الاجتماعية التقليدية في العلاقات البرجوازية. لا تزال المرأة مطالبة بمسح الجراح والتعويض عن الهزائم والخيبات والاحتضان والاحتواء، ويجب أن تكون جميلة، ذات ثديين مكورين ومتماسكين.
هذه كانت المطالب التي حوصرت بها نساء جيل أروى من المثقفين المتحررين من جانب واحد. أما عن النظرة العامة للمرأة، فلا تختلف نظرة المثقف عن المعيار المجتمعي السائد فهي مرادف لتصرفاتها الجنسية الخاصة. تقول أروى: "يسلك المثقف في علاقته بالمرأة كبرجوازي كبير: أي كداعر، ويشعر ويفكر تجاهها كبرجوازي صغير: أي كمحافظ مفرط في المحافظة".
هذا الوصف الدقيق لا يصف يسار السبعينيات والستينيات وحسب، بل هو وصف عابر للأجيال حتى تجربتي. لم أرَ اختلافًا جذريًا في النظر إلى المرأة عن نظرة المجتمع المحافظة. كان التغني بالأفكار التقدمية مقتصرًا على الندوات والخطابات العلنية. أما على مستوى مكنون الأنفس والمواقف العملية وأولوية قضايا النساء على جدول اليسار، فلم تختلف الأمور عن وصف أروى. قال لي مرة زميل وهو يصف زميلة أخرى أن أثرها الحقيقي في التنظيم هو صدرها المنتفخ. وكما تصف أروى، استمر توريث اللبن المسموم حتى كانون الثاني/يناير، وكأن كل تلك السنوات لم تمر.
خط على استقامته
هل يمكننا رسم خط يبدأ بعنايات وينتهي بأروى؟
لو فرضنا عبثًا أن عنايات خرجت إلى هذا العالم الذي تهابه بنفس أسلوب أروى وشاركت في حركة الطلاب التي انتهت بمأساة، هل كانت ستعريه مثل أروى وتتحرر منه نحو الفراغ؟ في مصر، تنتهي كل الطرق لمسارات عدمية حتمية وتتحول كل الاختيارات في لحظة ما إلى معادلة صفرية.
المسألة لا تخص طريقة الانخراط، سواء فردية أم جماعية، وإنما المضمار الذي تسير فيه عرباتهما. اشتركت الاثنتان في الاكتئاب، لكن الاكتئاب ليس ملة واحدة، فقد قادهما إلى طريقين مختلفين: طريق العزلة، وطريق الانخراط. حياة أروى أمام عنايات تبدو كنقيض، ولكنها تنطلق من الميناء نفسه وتنتهي إلى الشاطئ نفسه. فالأدب والأيديولوجيا هما مطرقتان لضرب نفس الحائط، حائط المجتمع، في محاولة لسماع صدى الصوت الشخصي من ارتداد الضربة وترك أثر مادي ملموس. تقول عنايات: "ربما ولدت في الزمان الخاطئ.. إن كل شيء يبدو غير متجانس".
وتقول أروى: "هل أفلحت بعد كل الرحلة الطويلة الشاقة دي، في أن أصبح كائن صالح للتعامل مع العالم الواقعي، دون أن يفقد إما توازنه وإما حلمه؟".
هناك دور خفي للمجال العام في حياتيهما، فهو يحدده ويوجه مساراته، تلك المساحة المسمومة، في كل مرة حركت أروى وعنايات قدماً من الخاص للعام عادتا بخيبة الأمل. وهنا يجب أن أوضح أنني لا أقدم أطروحة مثالية ترى أن الواقع يجب أن يكافئ الناس على نواياهم ورغباتهم، لكنني أتصور أن التجربة يمكنها أن تكون أقل قسوة في مجتمعات أخرى لا تشهد هذا الإغلاق المحكم للمجال العام، الذي يحفز كل رذائل المجتمع ويمنعها من التطور الصحي وتفادي أخطاء التجريب. لا يقتصر الأمر على السلطة وحدها، بل يشمل المعارضة كما في حالة أروى وتجاهل المثقفين الكبار لعنايات.
دور المجال العام هو أن يستوعب رغبة الإنسان في التعبير والنقاش والجدال ومغادرة عزلته وتقديم نفسه إلى العالم الخارجي. وحين يغيب هذا الدور، يضيع الإنسان وحيدًا في حالة الأزمات الشخصية الحادة. في بداية الستينيات، انعزلت عنايات في الدقي واقتصرت حياتها بين كتابة الرواية ورعاية ابنها وعملها في مكتبة المركز الالماني بعد الطلاق. كانت كل مرحلة تبدأ دافئة وتعد بالأحلام، قبل أن تنتهي بمأساة.
تقول الأديبة البولندية أولغا توكارتشوك إن الأدب هو تلك الفسحة التي يصبح فيها الخاص عامًا. وقد حاولت عنايات نقل برودة غرفتها نحو الخارج، فهكذا يشتبك الأدب، لكن لم تتح لها الفرصة، إذ كان النظام الناصري يريد أدبًا لا أهمية فيه للإبداع بقدر الإيجابية والتحفيز. وردًا على غلق هذا الباب والحياة الشخصية المدمرة، لم تجد عنايات مكانًا آخر تلجأ إليه، وكان يمكن للأدب أن يكون قارب نجاة.
بعد انهيار تجربة جيلها شعرت أروى بالضياع. حاولت تحليل تجربتها من خلال النقد والتأمل والتنظير والتعرف على نفسها والعالم دون أقنعة، وقامت بنشر كتاب في حياتها هو "المبتسرون"، وكتابًا بعد انتحارها بعنوان "سرطان الروح"، وهو عبارة عن مجموعة من الملاحظات اليومية الشخصية.
بحثت عن الكتاب بضراوة ولم أجده لا هو ولا دار النشر التي أطلقته للعالم وكأنه اختفى معها، لكني وصلت إلى بعض أوراقه التي تروي فيها محاولة فاشلة للانتحار في نهر النيل انتهت بإنقاذها من قِبل عسكري.
يذكر "ويكيبيديا" أن سبب وفاتها هو السقوط، والواقع أن حياتها كلها تبدو كسقوط حر من نقطة إلى أخرى. سقوط لا يعبّر عن الانهيار قدر ما يعبر عن الرغبة في تذوق التجارب بصدق حتى آخر قطرة، وبصقها في الوقت نفسه عندما تبرز أوهامها.
وعلى العكس من عنايات الزيات التي تهاب القفز، سقطت أروى من بناية التجارب الإنسانية وتذوقت الإيمان الأيديولوجي وراحة اليقين، ثم انتقلت إلى غرفة الخديعة ومراجعة النفس ورؤية الحياة من منظور الحقائق الباردة. ومع أنها مدت يدها ناحية الحياة، لكن غرف المجتمع كانت خانقة.
كان يمكن لأروى أن تصبح كاتبة سياسية مرموقة، أو حى محاضرة في جامعة للعلوم السياسية أيضًا، لكن تلك المكاسب لها ضريبة وهي أن تحول نفسها إلى تلك النسخة التي يطلبها المجال العام ليفتح لها أبوابه ويرحب بها. دون ذلك، هي مرفوضة، ولهذا الرفض ضريبة وهي العزلة والفراغ.
أجيال من "المبتسرون"
تقول جمانة حداد في مقدمة الأنطولوجيا: "إن من ينحني على حيوات المنتحرين يكتشف أن ثمة خيط رفيع، لكن متين يربط الواحد منهم بالآخر.. كأنهم جميعًا من كوكب واحد". ثم تذكر أمثلة عن تقاطعات بين حيواتهم؛ هذا ترجم لهذا، وتلك ولدت في نفس يوم ولادة ذاك، ثم تنهي الفقرة بقولها: "لعلنا لو رسمنا خطًا يجمع كل واحد منهم بالآخر لاكتشفنا في آخر المطاف أن الخط ليس سوى دائرة".
رأيت شذرات متكررة في مشاهداتي لعالم ما بعد يناير 2011 في سيرتي أروى وعنايات. بعيدًا عن الاشتراك في تأميم المجال العام، أشعر أننا في دورة بائسة من العود الأبدي المجتمعي. مثلًا، تقدم أروى ملاحظات في مراجعاتها عن انفصال التنظيمات اليسارية عن الواقع، والرؤية المحافظة للنساء داخل التنظيمات "التقدمية"، تفسر الأمر بفساد المجتمع الذي يمد خط الحرب بالجنود: "مستحيل خلق يوتوبيا من الجمال والعلاقات الإنسانية في مجتمعات ما هياش إنسانية".
لم يتغير هذا الأمر، فقد كنا ننظر إلى لواقع من عين القوانين التاريخية "الحتمية" التي تشبه سرير بروكرست، تهاجمه ثم تمطه أو تقطع قدمه ليتناسب طوله مع حجم السرير. دافع جيل أروى عن أخطاء النظام السوفيتي كي لا تسقط أفكاره النظرية، وتورطنا في دعم أنظمة مثل نظام بشار الأسد وإيران وغيرهم لأنهم يمثلون "محور المقاومة" ضد الإمبريالية! فما يحدث أنه يتم مقاربة القناعات وفقًا للكتب وما يمكن أن يحتمله النص من تأويل مع تجاهل تام للواقع.
يقدم "المبتسرون" كل الأمراض اليسارية التي رأيتها في تجربتي مع اليسار بعد أربعين عامًا تقريبًا من تجربة أروى. كان غريبًا أن أنظر إلى تجربتي من عين الكتاب وأرى التوالي المربك لمعظم ملاحظاتها وكأنها محاكاة كان بالإمكان تجاوزها بدلًا من إعادة نفسها بشكل سيزيفي.
تشابهت مع عنايات في الانجذاب إلى الأدب والكتابة. وبعد سقوط سيف الأيديولوجيا بنصله الحاد، يمكن لنصلٍ أقل صرامة مثل الأدب أن يحل محله. ومع عنايات، شعرت برابط جغرافي قوي. عشت عامًا في المنيرة التي ولدت ونشأت فيها، إلى جوار ضريح "سعد زغلول". عملت عنايات في المركز الألماني بالزمالك، وكانت تسير بمحاذاة النيل حتى نادي الجزيرة بعد العمل.
في هذا الطريق بالضبط هنالك ضفة مراكب استقل منها رفقة اصدقائي مركبًا نيليًا كل بضعة أسابيع لنرقص ونتجاهل صراعاتنا اليومية في مدينة سامة ومركبة مثل القاهرة. تخيلت عنايات تمر وحيدة بعد يوم عمل في أرشيف المكتبة وأدعوها لتنضم لنا وتقبل هي ببساطة لا أتوقعها منها.
رفضت عنايات نشر روايتها على حسابها الشخصي لأنها تبحث عن الاعتراف الخارجي، الثقة الداخلية بالموهبة لا تكفي وحدها فنحن نعيش في مجتمع والإبداع طاقة داخلية موجهة للخارج وعندما يكون الخارج محكوم بقوانين مكبلة لأهداف أيديولوجية وسلطوية يجد المبدع نفسه أمام خيارين، إما تغيير نفسه وتكييفها مع تلك القوانين، وإما الانعزال والغرق في ذاته. وبدون وجود مجال عام صحي، سيشعر الفرد بأن آثار أقدامه واضحة على الأرض وفي غيابها سيغرق في الفراغ: "خطاي لا تترك أثرًا على الماء ووجودي لا يراه أحد كأني كائن غير مرئي".
في تموز/يوليو 1985، بعثت أروى رسالة إلى صديق لها من إشبيلية تقول فيها إن الخبرات المريرة التي قتلتها في مصر هي ثمرة قسوة الحياة وسط مجتمع ميت، فالمجال العام في مصر، منذ الستينيات وحتى الآن، مسموم لا يعود أحد منه سالمًا. فالمناضل يتحول إلى جزء من السلطة، ومن يرفض ذلك مثل أروى ينتهي الأمر به إلى الشعور بالعدمية والوحدة.
لم تكن مأساة أروى مع السلطة فقط، بل أيضًا مع المعارضة التي انتمت لها. وفي لحظة الاختيار الحقيقية، ظلت مؤمنة بأفكارها العامة لكنها أعادت النظر في عقلية المعارضة والمعارض والأساسات النفسية التي تشكل اختياراته. ومع تفكيك كل المشاريع التي يمكن أن ينتمي لها الفرد، أصبحت كل مسارات المجال العام سامة، يمتلك مفاتيحها كهنة لا يفتحونه إلا لمن يتشكل حسب رؤيتهم.
في ظل هذه الظروف التي تعيد إنتاج نفسها، يصبح الانخراط في المجال العام أشبه بالسقوط في المستنقع؛ مستنقع يمثل سدرة المنتهى لكل التجارب المتنوعة، الفردية منها والجماعية، القديمة والجديدة. تختلف طرق المقاومة ويختلف الأشخاص ونفسياتهم والطبقة التي ينتمون إليها، لكن الوجهة لا تختلف. تقول أروى في رسالة شخصية: "يبدو لي أن طبيعة موت ما، بتحددها طبيعة حياة الشخص اللي بينتهي ده".
بتلك الملاحظة الدقيقة يمكن ربط طريقة انتحار عنايات وأروى بطريقة حياتهن. ومن الطبيعي أن تكون الحبوب المنومة مناسب لانعزال عنايات وحياتها الهادئة ظاهريًا، والقفز من الطابق العاشر مناسب لانخراط أروى وضجيج تجاربها، فهي "مشردة في الحياة، بدون وضع اجتماعي من أي نوع". يموت المشردين في الشوارع لتكون جثثهم برهانًا على فشل المجتمع الذي نبذهم وأعطى لهم ظهره.