كتاب "غرباء على بابنا".. صناعة الذعر تجاه المهاجرين

28 أكتوبر 2024
كتاب غرباء على بابنا

يُعتبر الفيلسوف وعالِم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان واحدًا من أهم الباحثين في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وقد تطرّق في كتاباته إلى مواضيع متنوعة مثل النظرية النقدية والمسائل المتعلقة بالحداثة وما بعدها، والعولمة، ومفاهيم السلطة والنظام الأخلاقي، وغيرها. 

وقبل أقل من عام على وفاته (كانون الثاني/يناير 2017)، صدر كتابه "غرباء على بابنا" الذي يتألف من ستة فصول صغيرة، ولا يتجاوز عدد صفحاته 70. وبالنسبة للمظهر الهيكلي للكتاب، فإننا نلاحظ عند قراءته أنه عبارة عن مجموعة من المقالات كُتب كل منها على حدة وجُمعت لتشكل هذا الكتاب الصغير، وذلك بسبب التكرار الملحوظ في صفحات الكتاب، وأيضًا بسبب قلة الإشارات المتبادلة والربط ما بين الفصول.

ويقدم لنا هذه الفصول بأوجه متباينة، حيث يستشهد في بعضها بشكل مطوّل بمقالات الصحف، مما يجعله منخرطًا في حديث يومي يمكن أن نتجاوزه. بينما يحاول في فصول أخرى الكشف عن الآليات السياسية التي تشكل الظروف الحالية في الغرب، مرفقًا ذلك بنقدٍ ساخر لهذا النمط. وذلك بالطبع مع استخدام مفاهيم ورؤى متنوعة من تخصصات مثل الفلسفة والسوسيولوجيا وعلم النفس، وذلك من أجل تفسير وتحليل هذه التغيرات والتصرفات، وهو بهذا يقدم وجهات نظر متعددة يُفترض أن تساعد في تشكيل فهم أعمق للأوضاع والمشاكل المتعلقة بقضايا الهجرة واللاجئين. إلا أنها تحتاج حتى تقدم هذه الحلول إلى المزيد من الابتكار والتطوير، إذ إن هنالك شكوك كبيرة حول فاعلية الحلول المقترحة من قبل باومان، مثل فكرة التضامن الدولي والحوار كوسائل للتعبير عن الاستياء لدى اللاجئين.

في هذا الكتاب، يبدأ باومان بتساؤلات حول التغيرات في المشهد السياسي والاجتماعي في أوروبا، وكيف أن هذه التغيرات تؤثر في تعامل المجتمعات الغربية مع قضايا الهجرة واللاجئين. ويشير إلى انقلاب في الاتجاه الإنساني والكوزموبوليتي الذي يتبناه الغرب، إذ كان يُعتقد سابقًا أن هذه القيم تحث على التعايش والتضامن مع الأشخاص القادمين من بلدان أخرى، لكنه يلاحظ الآن تحولًا نحو العداء والتهديد في التعامل مع الأشخاص النازحين، مما يستدعي التساؤل حول تناقض هذا التصرف مع القيم التي ينادي بها الغرب.

زيجمونت باومان
الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان (الغارديان/ ميغازين)

يعمل على تناول قضايا وتحديات "الهجرة" عبر تحليلها ضمن سياق الحكومات وسياساتها، ويُعد مصطلح "أزمة الهجرة" محور هذا العمل وحجته، حيث يسعى إلى تحليل هذا المصطلح من خلال مفهومه للتكامل. وقد توصلنا، على مدى العقود، إلى أن التكامل في سياق الهجرة عملية مزدوجة تتطلب مشاركة كل من حكومة بلد المنشأ وبلد الوجهة، ويستم هذا التكامل بعلاقات تضامنية بين مختلف الجماعات. ومع ذلك، قد يتعرض هذا التضامن لاضطرابات تؤدي إلى حدوث مشكلات عدة.

 زادت في العقود الأخيرة موجات الهجرة القسرية بشكل متزايد نتيجة للحروب والانتهاكات الإنسانية، خصوصًا من الشرق الأوسط إلى أوروبا. ومن المتوقع عادةً من البلدان المُستضيفة أن تتعامل مع هذه الهجرة القسرية من وجهة نظر تسامحية، خاصةً أن المشاهد المأساوية التي اختبرها اللاجئون في بلدانهم الأصلية كانت تُبث من خلال وسائل الإعلام، مثل غرق الأطفال الهاربين من الحروب ومعسكرات الاحتجاز؛ لكن الواقع أن هذه الحقائق لا تؤثر بشكل كبير في تصورات الأفراد وأفكارهم حول اللاجئين. بل، وعلى العكس، قد يتحول اللاجئون في بعض الأحيان إلى مصدر قلق وخوف لدى فئات معينة في البلد المضيف، وذلك يعود إلى أنهم يجلبون معهم "أخبارًا سيئة" لا يرغب معظم الأفراد في التعامل معها، ويرغبون في تجاوز وجود هذه المشكلات.

إن هذا الذعر، كما يرى باومان، هو انعكاس لاتجاه اجتماعي وسياسي عميق ينطوي على تلاشي البوصلة الأخلاقية التي توجه السياسة في الغرب. وهنا يحاول باومان استخدام مجموعة من الأدوات المفاهيمية لكشف الحيل التي تقوم بها السياسة الغربية، والتي بدأها صنّاع السياسات الأوربيين من كل الاتجاهات، وتقييم باومن لهذا الوضع أنه "أزمة انسانية" الطريقة الوحيدة للخروج منها هو دمج الآفاق" أو "التكامل" عبر الحوار.

يسعى الفيلسوف البولندي عبر هذا الكتاب أيضًا، وبشكل مركزي، إلى توضيح الكيفية التي تُستخدم فيها القضايا المثيرة للجدل، مثل الهجرة واللاجئين، لتحقيق مكاسب سياسية من قبل بعض صناع القرار. كما يحال عرض الأدوات المفاهيمية التي يستخدمها السياسيون والحكومات لتشويه وجهة نظر الجمهور وإثارة القلق والهلع، وهي مفاهيم تؤدي بالطبع إلى تصاعد حملات التشويه ضد اللاجئين. وهنا يحاول شرح الكيفية التي تُستخدم بها وسائل الإعلام قضايا المهاجرين ومشاكلهم، وكيف يُعبِّرون عن هذه الأخبار بطريقة تؤدي إلى ما يسميه "ذعرًا أخلاقيًا" (moral panic)، يؤدي في النهاية إلى إرهاق الجمهور من مواجهة مأساة اللاجئين.

هنا، يرى باومان أن الحكومات لا تهتم بتخفيف قلق مواطنيها، وإنما تهتم بتعزيز القلق المتنامي الناشئ عن عدم اليقين في المستقبل والشعور المستمر والمنتشر بانعدام الأمان، وذلك طالما أن جذور عدم الأمان هذه يمكن أن تكون قابلة للربط بطرق تسمح للحكومات بإبراز قوتها، وفي الوقت نفسه إخفاء المشكلات التي لا تستطيع التعامل معها بكفاءة، وذلك مثل عدم قدرتها على تأمين وظائف ذات جودة، والحماية الفعالة من التدهور الاجتماعي وحصانة الكرامة؛ كل هذه العوامل لا تستطيع الحكومات التعهد بها وتقديمها.

أما المشكلات التي تصور الحكومة أنها قادرة على مواجهتها فهي "مصارعة الإرهابيين" الذين يهددون سلامة الناس العاديين، وهم هنا "اللاجئين". وهكذا، يُعد مصطلح "الأمننة" (Securitization) وسيلة يستخدمها السياسيون لنقل القلق من مشاكلهم الحقيقية إلى مسائل يمكن أن يعتبرونها تحت سيطرتهم وقادرين على التعامل معها بفعالية، مثل تصورهم لمحاربة الإرهابيين الذين يهددون سلامة المواطنين العاديين. وبوساطة هذه الدعوات، يتم خلق عدو محدد مما يضفي مزيدًا من الفوائد على السياسيين الذين يسعون للفوز بتأييد الناخبين، وذلك كما اقترح كارل شميت في كتابه "اللاهوت السياسي"، هذه الدعوات تعزز الثقة في الأمة بذاتها. 

ومن خلال ذلك، تساهم سياسة الأمننة في قمع الآلام المعترضة على الضمير، التي قد تنشأ عند التفكير في أهداف العذاب والمعاناة. وهذا يؤدي إلى التحول إلى حيادية أو عدم الاكتراث (adiaphorization) في موضوع اللاجئين أو المهاجرين بمجرد تصنيفهم عامةً كإرهابيين محتملين، وهنا يجد المهاجرون أنفسهم خارج نطاق المسؤولية الأخلاقية، وحتى قبل ذلك خارج نطاق التعاطف والاهتمام. 

وفي الواقع، إن سياسة الأمننة هذه تُشعر الناس بالارتياح، سواء بوعي أو من دون وعي، من تجاوز المسؤولية عن مصير الأشخاص المعذبين، وأيضًا تخفيف الضغوط الأخلاقية. وفي هذا، يرى باومان أن مصطلح "اللامبالاة" (adiaphorization) يُستخدم من أجل شرح كيفية استثناء المهاجرين من الاهتمام والمسؤولية، وهذا يدفع السكان لاتخاذ إجراءات وقائية لحماية أنفسهم من التهديدات، التي تتجسد عادًة على شكل الترويج لفكرة أن معظم أفراد المجموعات الإرهابية هم أشخاص منفصلين ومنبوذين يشكلون تهديدًا للأمن والاستقرار. وهذا الأمر يؤدي إلى تجاوز مصير اللاجئين واستبعادهم، حيث يتم رؤيتهم على أنهم خارجين عن نطاق المسؤولية الأخلاقية والاهتمام الإنسان. وهو أمر غريب، فالأشخاص الذين هربوا من تلك المجموعات الإرهابية يجدون أنفسهم يتفاعلون معها مرة أخرى، ولكن بطريقة مختلفة إذ يكونون جزءا منها. 

وعلى الرغم من أن باومان يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي في الأصل يجب أن تُستخدم كأداة لتعزيز عدم الفهم والتحامل على الآخرين والثقافات، إلا أن ما يظهر هنا أننا في هذا العالم المرتبط بوسائل الاتصال الإلكتروني، نفتقر إلى وعي عالمي يمكن أن يساعدنا في إيجاد حلول لتحديات الهجرة.

وهنا يشير باومن أيضا إلى مصطلح "precariat"، الذي يشير إلى الأشخاص الفقراء الذين يعملون في وظائف غير مؤمنة ولديهم مستقبل غير واضح. وقد تم ربط هذا المصطلح بالمهاجرين بصورة سلبية، إذ يُعتقد أن المهاجرين يشكلون تهديدًا للمجتمعات في البلدان المستضيفة وخاصًة في أوروبا. وبهذا يرى باومان أن مصطلح "أزمة الهجرة" تم إنشاؤه من قبل السياسيين حتى يستفيدوا من تأجيج خوف مواطنيهم واستغلاله لأغراض تخدم مصالحهم. 

الطبعة الإنجليزية من كتاب غرباء على بابنا
الطبعة الإنجليزية من كتاب غرباء على بابنا (ميغازين)

وتحت هذه الظروف، يظهر أن مصطلح "أزمة الهجرة" هو الصيغة المثلى لصناع القرارات لتحقيق مكاسبهم السياسية. وحسب باومان فإن ما يهدف إليه صانعو القرار هنا هو خلق حالة طوارئ مزعومة في المجتمع وتصوير أنفسهم كمدافعين عن الشعب من أجل تحقيق مكاسب سياسية. وهنا يحاولون استخدام مفاهيم مثل "الأمن الجسدي" و"الأمن الاقتصادي" كأدوات لإثارة وتكوين القلق في قلوب وعقول السكان المحليين، بهدف منعهم من مشاركة المهاجرين في عملية التكامل. وبحسب المؤلف، تعد هذه الطريقة طريقة رائعة لتبرير ممارسات غير قانونية وغير منطقية بحق اللاجئين والمهاجرين.

وبهذا فإن الحل لهذه الأزمة كما يراها باومن عبر التكامل والحوار كطريقة للخروج من هذا الوضع الصعب، إذ أنه يروّج لفكرة مفادها أنه عبر فهم وتقدير تجارب المهاجرين واللاجئين، يمكن للمجتمعات أن تعمل على بناء تصورات أفضل وأكثر تفهمًا لهم. وهو يسعى هنا إلى تسليط الضوء على ضرورة التعامل مع الأمور بشكل إنساني وتضامني.

في المجمل، يُعد كتاب باومان "غرباء على بابنا" محاولة لتفكيك وتحليل الأوضاع والقوى التي تشكل الرؤية الغربية لمسألة الهجرة واللاجئين، إذ يقدّم الكتاب فهمًا للتحديات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المرتبطة بهذه القضايا، ويشجع على التفكير النقدي والتعامل معها بشكل أكثر تفهمًا وتعاونًا، وذلك مع التأكيد على أهمية تحقيق التكامل وضرورة أن تقوم الحكومات بتبني ممارسات تشجع على ذلك، مع ضرورة تقبل وإدراك ما يحدث مع المهاجرين والوقوف إلى جانبهم، خصوصًا في ظل مجهودهم الكبير للبقاء والتكيف. 

إضافةً إلى التخلص من المعتقدات الخاطئة عنهم، وتجاوز القلق والمخاوف المبنية على تصورات غير دقيقة. فهذه الطريقة، حسب باومان، هي الطريقة الوحيدة لبدء إيجاد حلول تفيد جميع الأطراف في عملية التكامل، والتخلص من اللامبالاة، واستبدالها بتفهم أعمق وأكثر تعاونًا.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

جورج طرابيشي.. عندما كان النقد الأدبي ممتعًا

كان جورج طرابيشي يؤمن، ويطبق ما يؤمن به، أن لكل رواية أو قصة قفلها الخاص، وبالتالي فلا بد من البحث عن مفتاح مناسب لها

2

رواية "الجثث".. تماثيل من الملح تشبه الأطفال

هذه الرواية ليست مجرد خيال ديستوبي، بل هي أيضًا نقد اجتماعي حاد لفكرة تعايش المجتمعات البشرية مع الأزمات بدلًا من البحث عن حلول لها

3

كتاب "العرب العثمانيون".. ما الذي حدث قبل قرن؟

ما يميّز كتاب زكريا قورشون عن غيره من الدراسات التركية هو عمله على تفنيد الرواية الرسمية التي كٌتبت حول العرب في مرحلة الحرب العالمية الأولى واتهام العرب بـ"طعن الأتراك من الخلف"

4

ما بين الكواكبي والرحالة العربي.. طبائع الاستبداد الراسخة

بعد قرن من كتاب الكواكبي، يتناول الرحالة العربي الاستبداد بأسلوب مشابه، مبرزًا الفروقات بين الاستبداد التقليدي الذي يعتمد على السلطة المطلقة، والحديث الذي يستغل الخطاب الأيديولوجي لاستمالة الجماهير

5

من أروى صالح إلى عنايات الزيات.. مجتمع يعيد إنتاج خيبات نسائه

تجارب أروى صالح وعنايات الزيات القاسية مع المجتمع، والتي قادتهما إلى مصير مأساوي، انعكاس لهذا المجتمع الذي يُعيد إنتاج خيبات نسائه مرةً بعد أخرى

اقرأ/ي أيضًا

الأعمال النقدية الكاملة - جورج طرابيشي

جورج طرابيشي.. عندما كان النقد الأدبي ممتعًا

كان جورج طرابيشي يؤمن، ويطبق ما يؤمن به، أن لكل رواية أو قصة قفلها الخاص، وبالتالي فلا بد من البحث عن مفتاح مناسب لها

سلمان عز الدين

طبائع الاستبداد الجديد

ما بين الكواكبي والرحالة العربي.. طبائع الاستبداد الراسخة

بعد قرن من كتاب الكواكبي، يتناول الرحالة العربي الاستبداد بأسلوب مشابه، مبرزًا الفروقات بين الاستبداد التقليدي الذي يعتمد على السلطة المطلقة، والحديث الذي يستغل الخطاب الأيديولوجي لاستمالة الجماهير

إسراء عرفات

الحب والصمت

من أروى صالح إلى عنايات الزيات.. مجتمع يعيد إنتاج خيبات نسائه

تجارب أروى صالح وعنايات الزيات القاسية مع المجتمع، والتي قادتهما إلى مصير مأساوي، انعكاس لهذا المجتمع الذي يُعيد إنتاج خيبات نسائه مرةً بعد أخرى

معاذ محمد

المزيد من الكاتب

مثنى المصري

كاتب وباحث أردني

"تزوجت بدويًا".. المذكرات مصدرًا لفهم تاريخ الجماعات في الأردن

تلعب المذكرات دورًا مهمًا باعتبارها مدخلًا معرفيًا لفهم الوضع العام لتاريخ الأرياف والتحولات التي طرأت عليها، وعلاقة الأفراد في هذه الأرياف بالمدن الأردنية ونظرتهم لها