لطالما شكلت الروايات وشخوصها ملاذًا للبشر في أزمنة الحروب والمحن. فهنا نعثر على ذلك الخيط السحري الذي يربطنا بجوهر الإنسانية، بعد أن تكون الحرب قد غطت هذا الجوهر بالدماء والأشلاء، مهددِّةً بمحوه وكل منجزاته، وبإعادة الإنسان إلى سديم البهيمة حيث لا صوت يعلو فوق صوت غريزة البقاء.
ومنذ رائعة ليو تولستوي "الحرب والسلم"، والحرب تشكل موضوعًا أساسيًا لكثير من الروايات. وبالطبع فالروائيون لا يلعبون دور المراسل الحربي، فلا يُعنَونَ كثيرًا بتكتيكات المعارك وصنوف الأسلحة ومجريات المعارك التفصيلية، وإنما هم يتناولون الحرب بوصفها ظاهرة إنسانية لا تني تتكرر، فيرصدون دوافعها الإنسانية العميقة، واستجابة الأفراد والجماعات لها، وآثارها على الأرواح والعقول، وانعكاساتها على الثقافة والحضارة. لكن الأهم من كل هذا أنهم يصنعون من هذا الموضوع الكالح أدبًا، والأدب الجيد لم يعتد تقديم الدروس والمواعظ والخلاصات الفكرية الجافة، بل هو يقدم مقطعًا من حياة، صورة لما هو كائن أو ممكن أو يجب أن يكون، ومن هنا فهو يقدم ما هو أكثر من معلومات ودروس.. إنه يقدم الحكمة.
هنا أربع روايات اتخذت من الحرب موضوعًا لها، وهي مجرد نماذج بالطبع.
لمن تُقرع الأجراس
صدرت رواية الكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي (1899 – 1961) "لمن تقرع الأجراس" سنة 1948، وتدور أحداثها حول الحرب الأهلية الاسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي كانت حدثًا عالميًا كبيرًا، تمفصلت حوله دول وقوى وتيارات سياسية في القارة الأوروبية وفي أنحاء أخرى من العالم، وشكَّلت ما يشبه البروفة للحرب العالمية الثانية.
تحكي الرواية قصة روبرت جوردون، الشاب الأميركي المنتمي إلى إحدى الكتائب الشيوعية المنخرطة في تلك الحرب. وجوردن هذا يتقن اللغة الإسبانية وعمل مدرسًا لها، وكذلك هو يتقن، بحكم تدريبه، صناعة المتفجرات واستخدامها، وهذا ما حدا قادته إلى تكليفه بنسف جسر خلف خطوط "العدو".
وفي طريقه إلى القيام بمهمته، يتعرف جوردون بماريا، وهي فتاة إسبانية مشاركة في الحرب يطلع من خلالها على جانب من المآسي التي خلفتها المعارك الدائرة، إذ إن الصبية الإسبانية الجميلة كانت إحدى الضحايا، فخسرت أهلها وبيتها وأحبائها.
ومن المعروف أن عنوان رواية همنغواي مقتبس من كتاب "تأملات" لجون دون (1624). أما أحداثها، التي تجري خلال أربعة أيام وثلاث ليالٍ، فهي مستوحاة من تجارب همنغواي نفسه خلال الحرب الأهلية الإسبانية.
ترصد الرواية تلك اللحظة الوجودية الاستثنائية، عندما يقف الإنسان أمام الموت، وبالتحديد أكثر: عندما يقرر هو الإقدام على عمل يمليه الواجب ويكون الموت منتظرًا هناك، في آخر الطريق، وقت إنجاز الواجب.
وإذا كان العمل مترعًا بلحظات الحماس والرغبة بالتضحية وإعلاء الواجب، وبمواقف الصداقة الشجاعة والتكاتف الرفاقي، ومترعًا كذلك بنقد شديد لكل أشكال الفاشية والدعوة إلى محاربتها؛ فإنه مع ذلك ليس أهزوجة انتصارية تمجد الحرب، فهناك الكثير من الشكوك والتأملات العميقة، والتوقف كثيرًا عند سؤالي المعنى والجدوى، وكذلك هناك صور عن التعصب وكيف يقاد الإنسان المؤمن بأن الحقيقة المطلقة في صفه إلى أن يصبح قاتلًا.
كل شيء هادئ على الجبهة الغربية
كان إريك ماريا ريمارك (1898 – 1970) في الثامنة عشرة عندما ترك مقعد الدراسة والتحق بالحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى). سيق إلى مركز للتدريب قبل أن يلتحق بالجبهة الغربية. وهذا بالضبط ما حدث لـ"بول بومر" بطل روايته الأولى "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (صدرت عدة طبعات عربية منها بعناوين مختلفة).
يقول بومر، أو بالأصح: يقول ريمارك على لسان بومر: "كان كانتوريك يحاضر بنا أثناء الألعاب الرياضية عن وجوب التطوع في الجيش، حتى ذهب فصلنا بكامل أفراده إلى مكتب القائد المحلي، وتطوعنا". ويصف تلك الحماسة الغنائية التي استقبل فيها الكثيرون خبر إعلان الحرب، وكيف راح الآباء يتفننون في إلقاء الخطب على مسامع أبنائهم عن الشرف والواجب والمجد والرسالة الحضارية. غير أن الفتيان المراهقين سرعان ما سيكتشفون أية خديعة وقعوا في شراكها: "كان واجب هؤلاء أن يكونوا لنا، نحن فتيان الثامنة عشر، هداة مرشدين.. كان يجدر بهم أن يأخذوا بأيدينا إلى المستقبل.. والواقع أن أول غارة شنت علينا بينت لأعيننا خطأ تفكيرنا القديم، وبزوال هذا التفكير تداعت أركان العالم الذي صوروه لنا.. انجابت عن أعيننا الأغشية فجأة، فأصبحنا نرى الحقيقة، ورأينا أنه لم يبق حجر من عالمهم".
يقف بومر شاهدًا على فظاعات الحرب: أعناق تدق بلا رحمة، أطراف تنفصل عن أصحابها، أشلاء تتطاير وتعلق على أغصان الأشجار، خيول تقتل في معارك لا تعنيها ولا تفهمها.. وتكون الذروة عندما يضطر إلى قتل فرنسي ويبيت مع جثته ليلة كاملة في إحدى الحفر: "لقد كنتَ فكرة مجردة بالنسبة لي.. كنت عدوًا بلا لحم وعظم وبلا وجه.. والآن أدرك أنك إنسان مثلي".
ولم تكن إجازات بومر التي قضاها في بلدته لتساعد على شفائه. على العكس، لقد عمقت مأساته وإحساسه بالوحشة: "أصبحنا فجأة في وحشة هائلة مروعة، ولم يكن بد من أن نسير إلى النهاية وحدنا"، فقد كان الناس هنا، كما في أمكنة كثيرة بعيدة عن خطوط القتال، لا يزالون على حماسهم الأحمق، وقد تبين أن أولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن الحرب، والذين يعيشون بمأمن منها، هم الأكثر رغبة فيها.
عندما وصل مخطوط رواية إريك ماريا ريمارك "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" إلى دار النشر الشهيرة "س فيشر"، سرعان ما جاء الرد حاسمًا: "الرفض طبعًا.. إذ من الذي يرغب الآن في قراءة رواية عن الحرب؟!".
كان كثير من الألمان يرغبون في استئناف حياتهم إثر نهاية الحرب العالمية الأولى. كانوا متلهفين إلى الحصول على النقود، وشراء البيوت، واقتناء السيارات، وارتياد المسارح ودور السينما، ومواصلة حفلات الرقص، طاردين ذكرى الحرب المريرة من أذهانهم، ومصرين على العيش بدونها. لقد انتهت الحرب بالفعل إلا بالنسبة لشخص واحد هو: ريمارك.
يقول س . ر . مارتين في كتابه "في تجربة الكتابة": "حتى المقربون منه لم يعرفوا مدى تأثير تجربة الحرب على نفسيته. وحتى بعد مرور سنوات عديدة على انتهائها، لم يستطع ريمارك أن يفكر بشيء سوى بالحرب فقط.. إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه".
لقد بدا ريمارك وكأنه يسبح عكس التيار، مجابهًا المزاج العام النافر من سماع أي شيء عن الحرب مجددًا. غير أن الرواية ستنشر في النهاية لتكون النتيجة مذهلة: "في عام 1929 يباع منها في ألمانيا فقط 925 ألف نسخة. بعد 18 شهرًا يباع منها 3 ملايين ونصف المليون نسخة. وتترجم الرواية إلى اللغات جميعها تقريبًا"، ويثبت ريمارك أن شبح الحرب لا يزال مخيمًا ومن العبث تجاهله، وهو الشيء الذي ستصادق عليه السنوات اللاحقة، فبعد عقدين من الزمان تعود الحرب في كرة جديدة، أكثر جهنمية وهمجية، لتطحن الملايين من الذين اعتقدوا بسذاجة أنهم صاروا بمنجى منها. ويعود ريمارك ليكتب عن الحرب العالمية الثانية وكأن قدره أن يكون مؤرخًا أدبيًا للحروب.
ليلة لشبونة
في رواية ريمارك الثانية "ليلة لشبونة"، ليس هناك حديث عن مجريات المعارك وحياة الجبهات ومعاناة الجنود، فالأضواء تسلط هنا على أولئك العزل الذين هشمتهم الحرب دون أن يكونوا قد انخرطوا فيها. خطفتهم من أوطانهم ومن أحضان عائلاتهم، وخطفت أولادهم منهم، وشتتهم في أراضي الصقيع والوحشة.
معاناة شفارتس، بطل الرواية، لم تكن أقل من معاناة بومر، إذ عاش هاربًا في طول أوروبا وعرضها، وظل لسنوات طريدًا لأجهزة الشرطة وحرس الحدود. ولسوء حظه فقد انتمى إلى موجة متأخرة من المهاجرين، فكان معين الإنسانية لدى الشعوب المستقرة قد نضب، وصار معتادًا منظر اللاجئين يهيمون على وجوهم في الشوارع، جوعى وعرايا ومخبولين بفعل الغربة والحنين.
إذا كانت سيرة بومر مسكونة بالصدمة والذهول واللا تصديق، فإن سيرة شفارتس مسكونة برنة يأس شامل، فأمر صادم أن تقترف البشرية حماقة كبرى مرة، ولكن أن تقترف الحماقة نفسها مرة أخرى، وبعد عشرين سنة فقط، هو أمر يدعو إلى اليأس!
ومع ذلك استطاع شفارتس أن يقاوم، فقد كانت لديه خططه الخاصة، ومغامرته الفردية التي لم تعبأ بكل هذا الجنون العالمي. وفيما كانت الحشود تواصل الفرار من ألمانيا عاد هو إلى هناك، متجاوزًا أسلاك الحدود وكمائن حراسها، وكل ذلك من أجل قصة حب. لقد أراد إنقاذ زوجته هيلين ليصطحبها معه في رحلة التشرد العابرة للبلدان، ولا يقلل من فرادة هذه المغامرة أن نهايتها تكللت بموت الحبيبة.
تلك الليلة
عاشت الدولة التي كانت تعرف باسم يوغسلافيا وضعًا معقدًا أثناء الحرب العالمية الثانية. فعلى أرضها تشابكت القوى المتخاصمة، وتقاطعت مساراتها، وتعقدت علاقاتها، ربما أكثر من أي مكان آخر..
وفي روايته "تلك الليلة" يضع دراجو يانتشر امرأة جميلة ورقيقة وسط كل هذه التشابكات، مقدمًا مأساة من نوع ما، حدثًا فجائعيًا يجسده وقوف فرد وحيد، بالمصادفة ودون إرادة منه، في وجه قوى كبرى عاتية.
برودجوسكا ضيعة هادئة وسط الغابة، فيها تعيش الجميلة فيرونيكا مع زوجها الثري، صاحب الضيعة، ليو جارنيك. لا أحداث هامة في الضيعة سوى نزوات فيرونيكا وغرامياتها التي سرعان ما تهدأ، لتتحول إلى سيدة خيرة، تبادل الجميع المودة والاحترام، وتبدي تعاطفًا صادقًا مع الأهالي الفقراء، وخاصةً أولئك الذين يعملون في مزرعة زوجها.
وما أن تقوم الحرب العالمية الثانية حتى تتحول الضيعة إلى نقطة لاهبة، تتمثل فيها كل القوى المتصارعة: النازيون، الحلفاء، الشيوعيون، المقاومة الشعبية..
وفيما يقرر الزوج أن "يلعب سياسة"، محاولًا الإمساك بجميع الخيوط، واللعب على التناقضات، فإن زوجته تعيش لاهية عن كل ما يحيط بها، تصادق الضباط الألمان، دون أن تدري من هم بالضبط أصلًا، وتساعد دون أن تدري بعضًا من قوى المقاومة الشعبية.. الحرب تطجن العالم وهي تتابع نزهاتها البرية وافتتانها بجمال الطبيعة من حولها.
إنها تجسيد للبراءة والاندفاع وراء العواطف الصافية في زمن صعب لا يعترف بالعواطف ولا يرحم البراءة، وتكون النتيجة مأساوية حتمًا ليس لها وحسب، بل ولزوجها الذي حاول التذاكي فدفع، ودفّعها هي أيضًا، الثمن غاليًا.
في الرواية خمسة رواة.. خمسة أصوات، وبالتالي خمس وجهات نظر. كل منهم يروي المشهد من زاويته، ويضيف معلومات جديدة تجعل الصورة العامة أكثر وضوحًا. واللافت أن فيرونيكا ليست من بين الرواة الخمسة.. إنها موضوع أساسي لهم ولرواياتهم. كل منهم يراها بطريقة معينة، ما يشي بأن المرأة الجميلة هنا ليست مجرد شخصية، بل هي ربما رمز.. دلالة ما.. إشارة إلى ظاهرة إنسانية..
وإذا كان الروائي لا يغفل عن الخلفية العامة، حيث رحى الحرب التي تطحن البشر في كل مكان، فإنه يصر على زاوية شخصية.. فردية. مقدمًا نموذجًا ساطعًا على ما تفعله الحرب بالفرد، بفرد محدد، بروح تعد نموذجًا لملايين الأرواح التي تحطمها الحروب.