رواية "الخالة خوليا وكاتب السيناريو".. بين الفن الجاد ومسلسلات الصابون!

20 سبتمبر 2024
الخالة خوليا

للكتّاب ـ لكتّاب الأدب تحديدًا ـ فردوسهم الخاص المفقود أيضًا. هو ذلك الزمن الذي كان فيه أدب النخبة وأدب العامة هما الشيء نفسه تقريبًا. أدب رفيع عميق بأدوات متطورة ومتقنة ومع ذلك يكون في متناول القارئ المتوسط، القارئ العادي، أو ما أسماه جورج أورويل "الرجل من العامة".

لكن هل وجد هذا الفردوس يومًا، أم أنه مثل معظم الفراديس المفقودة، هو نتاج مزيج قوي من رغبة ملحة وخيال جامح؟

يؤكد ماريو بارغاس يوسا أن هذا حدث حقًا في فترة ذهبية من القرن التاسع عشر، عندما كان كثير من الكتّاب العظام، من ذوي الموهبة الكبيرة والثقافة الواسعة والأصالة في الفكر والأسلوب، كتابًا شعبيين في الوقت نفسه، تُقرأ أعمالهم من النخبة والعامة على حد سواء، محققة انتشارًا جماهيريًا واسعًا مع ثناء نقدي سخي وبلا تحفظ. كان هذا هو حال ألكسندر دوما وتشارلز ديكنز وفيكتور هوغو وآخرين.

غير أن هذه اللحظة التاريخية كانت قصيرة، إذ سرعان ما بدأ الانفصال بين النوعين وراح يترسخ شيئًا فشيئًا، وصولًا إلى أيامنا هذه حيث غدت الهوة واسعة وصار الدمج خارج أفق التفكير والطموح الأدبيين. 

الأدب، والفن عمومًا، ينقسم اليوم إلى نوعين، صنفين، يتوازيان دون أن يلتقيا: الأدب الرفيع الذي تكتبه النخبة لتقرأه النخبة. أما بقية القراء، الشرائح الأوسع من القراء، فلهم كتاب متخصصون في إعادة إنتاج التيمات المألوفة والأفكار السائدة المقبولة، وصبها في قوالب فنية محدودة مسبقة الصنع.

ويوسا لا يكتفي بالحنين إلى تلك الصيغة المهجورة (الاندماج بين النوعين) وحسب، بل إنه لا يكف عن إعلان افتتانه: "الدائم بالأنواع الأدبية الجماهيرية، بهذه الأنواع الفنية وشبه الفنية التي تصل إلى الجماهير"، مذيعًا طموحه في: "استخدام الآليات والتقنيات والتيمات المستخدمة في الأجناس الجماهيرية كمادة خام لكتابة عمل فني تحول فيه الأكلشيهات واللغة الميتة طبيعتها بفضل السياق الذي تستخدم فيه".

وقد حقق الكاتب البيروفي الشهير طموحه هذا بالفعل، وذلك عبر روايته "الخالة خوليا وكاتب السيناريو"، (ترجمة مارك جمال، منشورات الجمل، 2023).

تدور أحداث الرواية في مدينة ليما (البيرو)، أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حيث يعيش يوسا، الشاب ابن الثامنة عشرة، حلمه الآسر والمؤرق في أن يغدو كاتبًا محترفًا، روائيًا ينتج أدبًا خاصًا ورفيعًا على غرار الروائع التي كان يلتهمها في مكتبة المدينة. ولأن احتراف الكتابة كان أمرًا غير مألوف في البيرو حينذاك، إذ إن الكتّاب كانوا محامين أو مهندسين أو مدرسين أولًا وما الكتابة إلا هواية يمارسونها بعد انتهاء الدوام وفي أيام العطل. لهذا فقد قوبل حلم الشاب بالسخرية أو اللامبالاة من أقاربه وأصدقائه. أما والده، التقليدي ذو النزعة المحافظة، فقد كان يرى أن تحول ابنه إلى كاتب ما هو إلا خطوة أولى في الطريق الذي لن يجعله رجلًا.

إلى جانب دراسته الحقوق مكرهًا، كان يوسا يعمل في واحدة من محطتين إذاعيتين يملكهما آل خينارو. في "بانامريكان" انحصرت مهمته في إعداد نشرات أخبار، كان يستقيها (بالأدق: يسرقها) من الصحف اليومية. أما الإذاعة الثانية "راديو سنترال" فقد تخصصت بالمسلسلات الدرامية. وهنا تعرف الشاب إلى الكاتب المحترف الوحيد في البلاد، أول كاتب حقيقي يراه وجهًا لوجه، غير أن هذا الكاتب لم يكن، للأسف، أديبًا من النوع الذي يحلم يوسا أن ينتمي إليه. لم يكن الرجل يكتب روايات أو قصصا أصيلة، بلغة الأدب وأدواته، بل كان ببساطة "يصنع" مسلسلات إذاعية ميلودرامية ذات حلقات تبدو لانهائية. 

ماريو بارغاس يوسا
ماريو بارغاس يوسا (Getty/ ميغازين)

بدرو كاماتشو كاتب مسلسلات بوليفي ذاعت شهرته في بلاده، وقد جاء به آل خينارو إلى البيرو ليتخلصوا من تسلط الكوبيين الذين كانوا يحتكرون تصدير النصوص الدرامية إلى القارة اللاتينية برمتها. ولقد راهنوا عليه في رفع شعبية محطتهم الإذاعية وإغراقها بأموال المعلنين. وهذا ما حدث بالفعل، فقد استطاع كاماتشو إنجاز عدد كبير جدًا من المسلسلات الإذاعية التي سمرت البيروفيين أمام الراديو واستمطرت من عيونهم شلالات من الدموع.

كان رجلًا معلبًا وأسيرًا لكليشات خطابية، ليس في إنتاجه الدرامي فقط، وإنما في حياته الشخصية كذلك. وكان متمحورًا حول نفسه لا يعنيه من العالم إلا كتابته للدراما الإذاعية، حتى أنه كان بالكاد يشعر بوجود الأشخاص حوله.

أما في طريقة كتابته فقد كان أشبه بالمعجزة. كان يعكف على كتابة ست أو سبع حلقات من ست أو سبع مسلسلات كل يوم، وفوق ذلك كان يخرجها ويشارك في تمثيلها، ويشرف بنفسه على المؤثرات الصوتية والموسيقى المرافقة. ببساطة، وإلى جانب ساعات قليلة من النوم ووجبات طعام سريعة مقتضبة، فقد كان لا يفعل شيئًا في حياته سوى صناعة المسلسلات.

وإذا كانت هذه المسلسلات قد سحرت سكان ليما، فإن كاتبها سحر يوسا الشاب. لقد أدهشه هذا الرجل الذي تحول إلى آلة لإنتاج الكلام، وأذهلته تلك الغزارة الهذيانية في اختراع شخصيات وحبكات وتدوير كليشهات لا تنضب. والأهم أن كاتب الميلودراما هذا هو الوحيد من بين أدباء ليما ومدعي الأدب فيها الذي نال هذه الشهرة السريعة، حتى أن الناس كانوا يصطفون في طوابير طويلة لينالوا توقيعه.

ولقد أصيبت الآلة البوليفية بالعطب أخيرًا، فتحت هذا الضغط الكبير راح بدرو كاماتشو يتوه في غابات مسلسلاته، وصار يخلط بينها فيدخل شخصية من مسلسل في مسلسل آخر مختلف، ثم طال النسيان حبكات المسلسلات فحدثت انقطاعات ونشأت سياقات جديدة لا يعرف عنها المستمعون شيئًا، وكانت ذروة هذا العبث عندما قرر المؤلف التائه أن يميت جميع الشخصيات في جميع المسلسلات، مبررًا ذلك بالقول: "لقد نسيت كل شيء عن هؤلاء فلا بد من قتلهم للبدء من جديد"!

في أحد خطيها الرئيسين، تعرض الرواية ملخصات لمسلسلات كاماتشو، أو بالأحرى تقدم القصص التي بنيت عليها المسلسلات، وهنا نقف أما لغة مقولبة، مترعة بالكليشات والعبارات العاطفية الرنانة، والذرى الحادة، والمفارقات الفاقعة، والنعوت المتكررة. وفصلًا بعد فصل نتبين بأنفسنا وجود خلل ما يكبر باضطراد حتى يصل إلى متاهة تامة في النهاية.

أما الخط الآخر فبطله وراويه هو الشاب يوسا، الذي يحكي لنا مكابدته للوثة الأدب التي تملكته، ومعاناته في كتابة القصص التي أرادها أصيلة وعميقة، ومعايشته المثيرة لبدرو كاماتشو، والأهم: قصة غرامه مع امرأة مطلقة تكبره باثني عشر عامًا، وهي خوليا شقيقة زوجة خاله، والتي اقتضت التقاليد في ذلك الوقت أن يناديها بـ"الخالة". 

ويتناوب الخطان بتوزيع متساو تقريبًا، فصل من هنا وفصل من هناك، لنقف أمام لغتين، نظرتين، أسلوبين مختلفين.. هل نقول: الواقع مقابل الخيال، الحياة الحقيقة بتعقيدها وتفاصيلها مقابل الميلودراما بإنشائيتها واختزالها؟ ربما يصح هذا، غير أن ثمة مفارقة تجعلنا نتروى، ذلك أن بطل الخط الواقعي، الشاب يوسا، وفيما هو يحلم بإنتاج أدب نقيض لما يكتبه صديقه كاماتشو، فهو في الحقيقة يظهر وكأنه بطل ميلودرامي، وحكاية حبه المجنون هي ميلودراما أيضًا، بل أن إعلانه عن حلمه الأدبي لا يخلو من ميل ميلودرامي.

لقد كان عصرًا ذهبيا للميلودراما على ما يبدو، ومسلسلات البوليفي ما هي إلا تجسيد لتلك الروح التي سادت قبل أن تبيد.

يتحدث فارغاس يوسا في كتابه "الكاتب وواقعه"، (ترجمة بسمة عبد الرحمن، المشروع القومي للترجمة)، عن هذه الرواية في فصل بعنوان "من مسلسلات الصابون إلى الفن الجاد"، مؤكدًا أن منح بطل الرواية اسم ماريو يوسا لم يكن مجرد لعبة فنية، بل نتيجة قرار منه أن يسرد جزءًا من سيرته الشخصية، معتقدًا أنه سوف يوازن القصص الخيالية لبدرو كاماتشو بقصة حقيقية، موضوعها الوقائع كما حدثت، ولغتها تقريرية ما أمكن، لتكون نقيضًا لحكايات المسلسلات الخيالية ولغتها المفتعلة المدعية والمضحكة.

غير أن الروائي يعترف بصعوبة ذلك، فالرواية حتى في جزئها الذي أراده واقعيًا صرفًا، راحت تكتسي بالخيال، وتتحور بطريقة تبعدها عن أن تكون صورة طبق للأصل للواقع: "أعتقد أن هذه كانت أكثر التجارب تعليمًا، لقد حاربت ضد نفسي في كتابة هذه الطبعة من الرواية محاولًا مزج الخيال بالسيرة الذاتية، مزج عالم خيالي بعالم موثق. واكتشفت أنه أمر مستحيل. أدخلت العديد من التغييرات، وهكذا لم تكن هذه الأجزاء حلقات خالصة من السيرة الذاتية، وربما نسبة تكرار العامل الخيالي في هذه الحلقات الموضوعية هي نفسها نسبة تكراره في مسلسلات بدرو كاماتشو".

ويوضح يوسا أن فكرته في البدء لم تكن عقد مقارنة بين نوعين من الأدب: الأدب الجاد والأدب الجماهيري، بين طريقتين للتعاطي مع مهنة الأدب. لكنه اكتشف أن هذا بالضبط هو ما فعله في "الخالة خوليا وكاتب السيناريو". فالتناقضات ساطعة وكثيرة بين الشاب البيروفي الذي يحاول أن يصبح كاتبًا وينظر للأدب باعتباره أهم شيء في العالم ويراه مسؤولية خطيرة، ليس من وجهة نظر أدبية فقط بل ومن وجهة نظر أخلاقية أيضًا، كأنه التزام أخلاقي؛ وبين الرجل الآخر، كاماتشو، الذي يعتبر الأدب مجرد مهنة، مجرد حرفة، شيء يعرف كيف يصنعه ويصنعه بشكل جيد جدًا، لكن بدون أي نوع من الالتزام الأخلاقي ودون أي إحساس بالمسؤولية.

يقول يوسا: "لا أعرف إذا كان اهتمامي بهذه المشكلة بدأ في ذلك الوقت أو بعده أو ربما قبله، وهي المشكلة التي اعتبرها أحد مشاكل زمننا الخطيرة، هذا الانفصال بين الأدب الجماهيري، أدب الاستهلاك الجمعي، والأدب الخلاق، الأدب الذي أبدع بشكل أصيل ويستخدم لإبداع شيء جديد، وهو في الوقت نفسه وسيلة لفهم أفضل للعالم والخبرة الإنسانية".

لكن لماذا سميت المسلسلات، مثل تلك التي كتبها كاماتشو، بـ"مسلسلات الصابون"؟

ببساطة، لأنها اقترنت في أول الأمر بشركات المنظفات (خاصةً الصابون)، التي كانت تروج منتجاتها من خلال الفواصل الإعلانية الطويلة، لا سيما وأن ربات البيوت كانت تشكل الغالبية من جمهور تلك المسلسلات.

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

كتاب "العرب العثمانيون".. ما الذي حدث قبل قرن؟

ما يميّز كتاب زكريا قورشون عن غيره من الدراسات التركية هو عمله على تفنيد الرواية الرسمية التي كٌتبت حول العرب في مرحلة الحرب العالمية الأولى واتهام العرب بـ"طعن الأتراك من الخلف"

2

كتاب "بابي ساتان أليبي".. عصر المؤامرات السائلة

مقالات الكتاب نماذج ساطعة على ما يمكن لفن المقال أن يقدّمه: فكرة محددة أشبه بالومضة، أداة مراقبة ورصد مواكبة، مرصد لملاحقة المستجدات والمجريات شبه اليومية، مساحة للتعليق وإعادة النظر، معالجة مكثفة ورشيقة تجمع العمق إلى المتعة

3

لعنة الكتاب الواحد.. العيش على الحافة الحرجة

المعضلة الرئيسية التي يتعرض لها أي كاتب نال شهرة ما هي أن يجد نفسه محاصرًا بتوقعات القراء وبأحكامهم القطعية على أعماله المستقبلية

4

كيف نستعيد ماضي القاهرة عن طريق مذكرات ضابط إنجليزي؟

تقدم مذكرات توماس راسل صورة عن مصر أخرى لا نعرفها، وتكشف عن شخصيات وقصص غريبة تبدأ من المدينة وتمتد إلى الريف والصعيد وصولًا إلى الصحراء

اقرأ/ي أيضًا
المسرات والأوجاع

الطاعة والعصيان في روايتين عراقيتين.. دون ذات وتاريخ

لا تقدّم "القربان" و"المسرات والأوجاع" صورة شاملة وصريحة ومباشرة للواقع السياسي في العراق خلال القرن الفائت، لكنهما تشتملان على بعض ملامحه الأساسية

مصطفى ديب

بابي ساتان أليبي

كتاب "بابي ساتان أليبي".. عصر المؤامرات السائلة

مقالات الكتاب نماذج ساطعة على ما يمكن لفن المقال أن يقدّمه: فكرة محددة أشبه بالومضة، أداة مراقبة ورصد مواكبة، مرصد لملاحقة المستجدات والمجريات شبه اليومية، مساحة للتعليق وإعادة النظر، معالجة مكثفة ورشيقة تجمع العمق إلى المتعة

سلمان عز الدين

لعنة الكتاب الواحد

لعنة الكتاب الواحد.. العيش على الحافة الحرجة

المعضلة الرئيسية التي يتعرض لها أي كاتب نال شهرة ما هي أن يجد نفسه محاصرًا بتوقعات القراء وبأحكامهم القطعية على أعماله المستقبلية

إسراء النمر

المزيد من الكاتب

سلمان عز الدين

صحافي سوري

كتاب "بابي ساتان أليبي".. عصر المؤامرات السائلة

مقالات الكتاب نماذج ساطعة على ما يمكن لفن المقال أن يقدّمه: فكرة محددة أشبه بالومضة، أداة مراقبة ورصد مواكبة، مرصد لملاحقة المستجدات والمجريات شبه اليومية، مساحة للتعليق وإعادة النظر، معالجة مكثفة ورشيقة تجمع العمق إلى المتعة