كتاب "بابي ساتان أليبي".. عصر المؤامرات السائلة

20 سبتمبر 2024
بابي ساتان أليبي

"بابي ساتان أليبي"، هذا هو عنوان كتاب أمبرتو إيكو الأخير. وللأسف، فلا يمكن تقديم شرح دقيق، أو حتى تقريبي، لمعنى هذه الكلمات الثلاث، ليس لأن المترجم تكاسل عن ترجمتها، بل لأن المؤلف نفسه لا يعرف ماذا تعني بالفعل. 

يقول إيكو في تقديمه: "كلمة بشأن العنوان. الاقتباس من دانتي أليغييري بما لا يقبل الشك: (بابي ساتان، بابي ساتان أليبي)، الجحيم، الأنشودة السابعة، البيت الأول. ولكن، كما هو معلوم، على الرغم من محاولة جحافل من الشراح إيجاد معنى لهذا البيت، يعتقد سوادهم الأعظم أنه بلا أي معنى محدد. إنها كلمات تشوش الأفكار، عمومًا.. وقد تكون مجدية لأي نوع من الشيطنات".

ولماذا، إذن، اختارها أمبرتو إيكو لتكون عنوانًا لكتابه الذي يضم مجموعة كبيرة نسبيًا من مقالاته الصحفية؟ يجيب: "حسبتُ أنه من المناسب استخدامها عنوانًا لهذه المجموعة التي ليس ذنبي بقدر ما هو ذنب الزمان أنها غير مترابطة، تنتقل من الديك إلى الحمار ـ كما يقول الفرنسيون". 

"من الديك إلى الحمار" ليست وصفًا لمقالات المؤلف ولا لأسلوبه الكتابي، بل هي توصيف للعالم الذي تتحدث عنه هذه المقالات، ما يوضحه العنوان الفرعي: "وقائع مجتمع سائل". وإذا كان زيغمونت باومان هو من نحت مصطلح "السائل/ السيولة" كإطار تفسيري للواقع الراهن (في الغرب خاصة)، فإن إيكو يحذو حذوه، مستخدمًا المصطلح منظارًا ليرصد من خلاله العالم المعاصر، بتشابكاته المعقدة وظواهره المركبة وتغيراته السريعة المدوخة.

المقالات التي يضمها الكتاب، (دار المدى،2023/ ترجمة معاوية عبد المجيد)، كان إيكو قد كتبها في مجلة "إسبريسو" الإيطالية بين عامي 2000 و2015، وفي معظمها (إن لم يكن في كلها) نماذج ساطعة على ما يمكن لفن المقال أن يقدمه: فكرة محددة أشبه بالومضة؛ أداة مراقبة ورصد مواكبة، مرصد لملاحقة المستجدات والمجريات شبه اليومية؛ مساحة للتعليق وإعادة النظر؛ معالجة مكثفة ورشيقة تجمع العمق إلى المتعة.

وفي صفحات الكتاب التي تنوف على الأربعمئة، ثمة خلطة من كل الأوجه التي عرفناها لإيكو، فثمة الفيلسوف المتعمق، والمؤرخ الشغوف بالعصور الوسطى، والمثقف الموسوعي المعني بمجالات معرفية متنوعة، والناقد اللاذع المتهكم، والأديب الذي يعنى باللغة وأسلوب الكتابة المميز، والصحفي المواكب للتطورات والشؤون اليومية. وهكذا، فإلى جانب دانتي وتوما الأكويني والأخوين غريم، نجد استشهادات كثيرة من أفلام معاصرة، وبرامج من تلفزيون الواقع، وأغان شبابية، وتغريدات على "إكس".

ولد أمبرتو إيكو عام 1932 في مدينة أليساندريا بإقليم بيدمونت شمالي إيطاليا، لأسرة متوسطة. واصل تعليمه النظامي إلى أن التحق بالجامعة في مدينة تورينو لدراسة الحقوق، لكنه لم يكمل مفضلًا التخصص في فلسفة وآداب القرون الوسطى الأوروبية. وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1954 بأطروحة أعدها عن الإشكالية الجمالية عند توما الأكويني. درّس الفلسفة في جامعة تورينو، وعمل في بعض وسائل الإعلام ودور النشر، ثم أصبح عام 1971 أستاذًا لعلم السيميائية في جامعة بولونيا، كما كان أستاذًا لتاريخ القرون الوسطى في العديد من الجامعات، لكنه توقف عن التدريس في عام 2007 ليتفرغ للكتابة والتأليف.

يوصف بأنه رائد علم السيميائية. وقد ذاعت شهرته إثر نشره لروايته "اسم الوردة"، ويعتبره الكثيرون واحدًا من ألمع المفكرين الإيطاليين وأحد رموز الأدب العالمي المعاصر. توفي يوم 19 شباط/ فبراير عام 2016.

أسود.. أبيض وألوان أخرى

ثمة مساحة واسعة في الكتاب لمناقشة التطورات التكنولوجية، لا سيما في مجال الميديا، حيث تقوم أدوات وابتكارات مستجدة بإعادة صياغة حياتنا. والسرعة الهائلة التي تتناسل بها هذه المخترعات تفرض علينا تحديات غير مسبوقة، إذ تفقدنا الفرصة للتأمل والتأني في التعاطي والحكم، كما أنها لا تعطينا الوقت الكافي لنهضم ونستوعب ونتكيف.

يقول إيكو: "يظهر الكمبيوتر الحديث قبل أن نتمكن من استيعاب كل ما كان بوسعنا فعله على الكمبيوتر السابق. ولا تعم هذه المأساة المستخدم العادي فحسب، إنما حتى أولئك الذين من مهمتهم مراقبة السيل المعلوماتي، بمن فيهم عملاء الإف بي آي، والبنوك، وصولًا إلى البنتاغون".

فمن هو الذي لديه وقت، أربع وعشرون ساعة في اليوم، لهضم الإمكانيات الحديثة لآلته؟ إنه: "المقرصن، الأشبه بالزاهد، أحد آباء البرية الذي يهب أيامه كلها للتأمل الإلكتروني.. كلهم بدن، رعن، يعانون سوء النمو، لأنهم نشأوا قبالة الشاشة حصرًا. أصبحوا الخبراء الوحيدين بالمطلق لاختراع يتطور بوتيرة جنونية، لديهم الوقت لاستيعاب كل ما يمكن للآلة والشبكة فعله، إنما ليس لصياغته بفلسفة جديدة ودراسة تطبيقاته الإيجابية. لذا يكرسون أنفسهم للعمل المباشر والوحيد الذي تمنحهم إياه كفاءتهم اللا إنسانية: اختطاف الطائرات، الإزعاج، زعزعة استقرار النظام العالمي".

وإذا كان كثير من هؤلاء المقرصنين يظن أنه يحارب "روح العصر" ويتحدى "النظام"، فإنه: "وفي الحقيقة ينتهي بهم المطاف ليصبحوا أفضل المتعاونين مع النظام، لأن ضرورة تحييدهم تدفع النظام إلى ابتكار المزيد وبتسارع أكبر. إنها حلقة شيطانية يقوي فيها المعترض الجهة التي يظن أنه يدمرها".

غير أن إيكو لا يلعب دور "هجاء هذا الزمن الأغبر"، كما فعل ويفعل مثقفون كثر، وإذا كان ينتقد ويسخر ويحذر ويبدي خشيته، فهو مع ذلك يغلب الفهم على الحكم، منطلقًا من قاعدة ذهبية: لم يسبق للإنسان أن أقدم على اختراع ثم تراجع عنه، وبالتالي فإن هجاء المستجد لن يزيله من الوجود، والأجدى هو دراسته ومعرفة إمكانياته، إيجابياته ومخاطره، وكيفية التعاطي معه.

ومن هنا، فالمؤلف يحمل في جعبته بعض الأخبار السارة، إلى جانب ما يحمله من أخبار سيئة. في مقال بعنوان "إنترنت أكثر من اللازم؟ ورغم ذلك، في الصين"، يتحدث عن الدور الإيجابي للإنترنت في تحدي الرقابة الحكومية، واختراق الأسوار الحديدية للحكومات الديكتاتورية القمعية. وينقل عن عالم اجتماع صيني بعض الحكايات عن عجز الحكومة الصينية عن فرض رقابتها على الشبكة العنكبوتية، حيث ينجح الصينيون في التحايل على أساليب الرقابة وفي اختراق كل الجدران الموضوعة عبثًا: "الخلاصة: في المعركة الدائرة بين الحكومة الصينية والإنترنت، فإن الحكومة هي التي ستخرج مهزومة. ثمة نبأ سار بين حين وآخر".

نظرية المؤامرة.. هنا أيضًا

في مقال بعنوان "الجماعة الرائعة"، يكتب إيكو ساخرًا: "إنني صفي الذهن بما فيه الكفاية لأشك أحيانًا بأني إذ أكثر من انتقاد متلازمات المؤامرة أقدم دليلًا على فرط ارتيابي، بمعنى أنه تظهر علي أعراض متلازمة تجعلني أتوهم وجود متلازمات مؤامرة في كل مكان". 

ورغم التهكم في العبارة، فإن فيها الكثير من الصحة، ذلك أن صاحب "اسم الوردة" يبدو مهجوسًا بالفعل بنظرية المؤامرة، من زاوية الاعتراض بالطبع لا من زاوية الموافقة، وفي كثير من مقالاته، هنا وفي كتب أخرى، في كثير من محاضراته ولقاءاته الإعلامية، يتكرر موضوع "نظرية المؤامرة"، بل إن عددًا من رواياته قد دار أساسًا حول هذه المسألة: "بندول فوكو"، "مقبرة براغ"، "العدد صفر".

في "مقبرة براغ"، نقف أمام بطل الرواية الذي يسعى جاهدًا إلى اكتشاف خيوط المؤامرة الكونية، لنكتشف أنه هو نفسه من يقوم باختلاقها، وكذلك نكتشف أن المؤامرة التي تنسب إليها آثار خارقة للتاريخ والطبيعة، وتنسب بدورها إلى قوى فوق بشرية. ما هي في الغالب إلا "مادة مسلية لأجهزة المخابرات، تشتريها أو تختلقها لخدمة مصالح سياسية معينة".

في "العدد صفر"، يخترع الصحفي بورغاشيو مؤامرة كونية يشرك فيها البابا والمخابرات المركزية الأميركية والحكومة الإيطالية والفاشيين. وفي نهاية الرواية، يتضح أن الصحفي قد لملم عناصر هذه القصة من أرشيف الصحف القديمة. قليل من الأخبار الصحيحة، أما الباقي فقد تكفل به شغف بوغارشيو بنظرية المؤامرة.

في "بندول فوكو"، يقوم ثلاثة شركاء في دار نشر باختلاق مخطوط يشرح كثيرًا من أحداث العالم وفق نظرية المؤامرة الكونية. وللمفارقة، فإن هؤلاء يجابهون، بسبب مزحتهم هذه، قوى ومنظمات خطيرة.. أناس متعصبون أدمنوا البحث عن "السر" الذي يقف وراء مجريات التاريخ. 

يعزو إيكو شيوع "نظرية المؤامرة" إلى عدد من العوامل، فإضافة إلى الدوافع السياسية، هناك الكسل الفكري وتدني الثقافة وتغييب البعد التاريخي، وهناك الفضول الإنساني الذي لا يجد في الحياة الواقعية ما يشبعه.

وهنا، في "بابي ساتان أليبي"، ثمة فصل كامل بعنوان "عن المؤامرات"، يضم عددًا من المقالات التي تناقش الموضوع من زوايا مختلفة.

في مقال عنوانه "أين الوشاة"، يكتب إيكو: "وبما إني أعتقد أن عالمنا نشأ عن طريق الصدفة، لا أجد صعوبة برؤية أن الجزء الأعظم من الوقائع التي زعزعت عالمنا على مدى العصور كانت نتيجة الصدفة أو المنافسة بين أشكال مختلفة من الغباء.. لذا فإنني بفطرتي وتشككي وحذري، أميل دومًا إلى التشكيك بأي مؤامرة، ذلك أني أعتقد أن أمثالي هم أغبياء إلى حد يخفقون فيه بتدبير مؤامرة على أتم وجه".

ويقدم الفيلسوف الإيطالي عددًا من الأدوات/ البراهين التي تنفع في دحض نظرية المؤامرة. هناك، مثلًا، ما يسميه بـ "دليل السكوت". وهو قد استخدم هذا البرهان كثيرًا، وخاصة ضد الذين يصرون على أن الهبوط الأميركي على سطح القمر ما هو إلا فبركة تلفزيونية: "كان هناك من بوسعهم التحقق من عدم وصول السفينة الفضائية الأميركية إلى القمر، ولهم مصلحة في فضح الأمر: إنهم السوفييت، وما دام السوفييت التزموا الصمت حيال ذلك، فهذا دليل على أن الأميركيين قد وصلوا إلى القمر فعلًا. نقطة انتهى".

وإضافةً إلى "دليل السكوت"، يوجد أمران آخران: "أ ـ في حال وجود سر، وإن كان معلومًا من طرف شخص واحد فقط، فإن هذا الشخص سيبوح به عاجلًا أم آجلًا ربما لعشيقته على السرير. ب ـ في حال وجود سر، فهناك دوما مبلغ معتبر إذا تقاضاه أحدهم استعد لفضحه".

وفي مقال بعنوان "مؤامرات ومكائد"، يخلص إيكو إلى نتيجة على شكل مفارقة: "وراء كل مؤامرة زائفة، تتخفى دومًا مؤامرة لمن لديه مصلحة في تقديمها لنا على أنها حقيقية".

ولكن هل يجدي النقاش المنطقي في إقناع أنصار نظرية المؤامرة، في تقليص عددهم على الأقل؟ إيكو نفسه هو من يجيب ولكن في مكان آخر.

في نهاية رواية "بندول فوكو"، يقف أحد الثلاثة الذين اختلقوا المخطوط على تل ليرتاح من ركضه أمام مطارديه، ويحدث نفسه قائلًا: "أريد أن أنتهي من تدوين كل ما فكرت فيه من تلك الظهيرة وإلى الآن. ولكن إذا قرأوها هم سيستنتجون منها نظرية أخرى وسيقضون حياة أبدية أخرى في محاولة فك شفرات الرسالة السرية التي تخفيها قصتي. سيقولون لأنفسهم إنه من المستحيل أن يحكي لنا كيف أنه من البداية كان يسخر منا، بل ربما لم يكن هو يعرف أي شيء، ولكن لا بد من أن "الوجود" يرسل لنا رسالة من خلال نسيانه. أن أكتب أولًا أكتب، لن تصنع كتاباتي أي فارق، لأنهم سوف يبحثون عن معاني أخرى، حتى في صمتي، هذه جبلتهم". 

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

رواية "الخالة خوليا وكاتب السيناريو".. بين الفن الجاد ومسلسلات الصابون!

تعرض الرواية التباين بين حياة يوسا الشاب الطموح في الأدب الرفيع وحياة كاماتشو الذي يبدع في الدراما الميلودرامية

2

كتاب "العرب العثمانيون".. ما الذي حدث قبل قرن؟

ما يميّز كتاب زكريا قورشون عن غيره من الدراسات التركية هو عمله على تفنيد الرواية الرسمية التي كٌتبت حول العرب في مرحلة الحرب العالمية الأولى واتهام العرب بـ"طعن الأتراك من الخلف"

3

لعنة الكتاب الواحد.. العيش على الحافة الحرجة

المعضلة الرئيسية التي يتعرض لها أي كاتب نال شهرة ما هي أن يجد نفسه محاصرًا بتوقعات القراء وبأحكامهم القطعية على أعماله المستقبلية

4

كيف نستعيد ماضي القاهرة عن طريق مذكرات ضابط إنجليزي؟

تقدم مذكرات توماس راسل صورة عن مصر أخرى لا نعرفها، وتكشف عن شخصيات وقصص غريبة تبدأ من المدينة وتمتد إلى الريف والصعيد وصولًا إلى الصحراء

اقرأ/ي أيضًا
الخالة خوليا

رواية "الخالة خوليا وكاتب السيناريو".. بين الفن الجاد ومسلسلات الصابون!

تعرض الرواية التباين بين حياة يوسا الشاب الطموح في الأدب الرفيع وحياة كاماتشو الذي يبدع في الدراما الميلودرامية

سلمان عز الدين

المسرات والأوجاع

الطاعة والعصيان في روايتين عراقيتين.. دون ذات وتاريخ

لا تقدّم "القربان" و"المسرات والأوجاع" صورة شاملة وصريحة ومباشرة للواقع السياسي في العراق خلال القرن الفائت، لكنهما تشتملان على بعض ملامحه الأساسية

مصطفى ديب

لعنة الكتاب الواحد

لعنة الكتاب الواحد.. العيش على الحافة الحرجة

المعضلة الرئيسية التي يتعرض لها أي كاتب نال شهرة ما هي أن يجد نفسه محاصرًا بتوقعات القراء وبأحكامهم القطعية على أعماله المستقبلية

إسراء النمر

المزيد من الكاتب

سلمان عز الدين

صحافي سوري

رواية "الخالة خوليا وكاتب السيناريو".. بين الفن الجاد ومسلسلات الصابون!

تعرض الرواية التباين بين حياة يوسا الشاب الطموح في الأدب الرفيع وحياة كاماتشو الذي يبدع في الدراما الميلودرامية