كنت شغوفًا منذ فترة طويلة بالمطرب محمد العربي، المعروف بزعيم الغناء البلدي في مصر، فَرُحت أفتش عن سيرته الفنية والشخصية وما كتب عنه في الصحافة. وبالفعل، بعد رحلة من البحث، كتبت مقالة عنه لاقت صدى طيبًا.
وخلال تلك الرحلة، كنت قد تعرضت للغناء البلدي في مصر وأبرز المصادر التي تناولته دون الدخول في التفاصيل أو فرد مساحة مناسبة لذلك. فقررت في وقت لاحق أن أتطرق إلى هذا الموضوع على نحو أكثر شمولًا وإلمامًا. وعلى الرغم من قلة المصادر التي أُنجزت في هذا الشأن، فقد حاولت قدر المستطاع أن ألقي ظلالًا كثيفة عليه.
أظن أنه من البديهي عند الحديث عن الغناء البلدي في مصر الاستناد إلى كتاب مهم أنجزته أمل مصطفى إبراهيم بعنوان "الغناء البلدي في مصر" (2011). وفيه، تأخذنا الباحثة في رحلة شيقة حول هذا الموضوع من حيث تعريفه وخصائصه وسماته. فهذا الصنف من الغناء انتشر في مصر عبر واديها من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. وقد تميز المؤدون في الغناء البلدي بنظم الموال وأشكاله المتعددة.
كما اشتمل الغناء البلدي على موضوعات أدبية مستلهمة من أحداث ووقائع صيغت في قالب قصصي، مثل: موال الطير، وموال أدهم الشرقاوي، وحسن ونعيمة، وغيرها من القصص الشيقة. وقد اجتهدت الباحثة في الوصول إلى طبيعة الغناء البلدي وجوهره، خاصةً ذلك الخط النحيل الفاصل بين نمط الغناء البلدي والغناء التقليدي. فكل مؤد لأحد اللونين يسوق الحجج والمبررات حول تميزه واختلافه. فالحاج مصطفى مرسي، وهو أحد شيوخ الغناء البلدي، يقول: "أنا راجل بتاع موال بلدي، شغلتنا معروفة، والزبون عارف مطرحنا، لما يكون عايزنا ييجي لغاية عندنا عشان يتفق معانا ويعطينا عربون، لكن بتوع الدف والطار والربابة دول، ماحدش يعرف لهم مطرح، وشغلتهم غير شغلتنا". وإذا توقفنا عند الكلمات السابقة، يمكننا ملاحظة وجود اختلاف في أماكن تواجد كل من الفريقين، وكذلك طبيعة الآلات الموسيقية المصاحبة لكل منهما أثناء الأداء.
وتطرقت تلك الدراسة الوافية إلى الشكل الشعري المتناول في الغناء البلدي، مثل: الموال والطقطوقة. وعرجت فيما بعد، على أشهر مطربي ومطربات الغناء البلدي في مصر، أمثال: أبو دراع، والسيد فرج السيد، وبدرية السيد، وحورية حسن، ومتقال قناوي متقال، ومحمد طه، ومحمد الكحلاوي، ونفسية أحمد، وفاطمة عيد، والسيد حواس.
ومن بين الشعراء الذين كتبوا في هذا المجال: الريس بيرة، وزكريا الحجاوي، وحسين حلمي المانسترلي، وأحمد ملوخية، وزين العابدين عبد الله. كما ذكرت ملحني الغناء البلدي، ومنهم: شفيق الشايب، ومحمد الحماقي، وإبراهيم فارس، وفارس عبد الحميد، وأحمد شريف.
ولعل الأهم في هذه الدراسة هي النتائج المهمة التي خرجت بها الباحثة في النهاية. وإذا أردنا أن نوجزها، فهي: الغناء البلدي هو الغناء المعبّر عن البيئة المحلية، حيث ينسب لأصل البلد فيقال غناء قِبلي أو بحري. ويغلب على هذا الغناء الصنعة والارتجال ويؤديه غالبًا مطرب محترف بالزي البلدي.
أما شكل الفرقة الموسيقية، فيتغير إلى حد ما بإضافة بعض الآلات إليها، أمثال: القانون، والأروغ، والأوكورديون، والغيتار الكهربائي، والتشيللو، وغيرها. وهناك استخدام لبعض المقامات بكثرة، مثل: الراست، والبياتي، والهزام، والصبا. أما المقامات قليلة الاستخدام، فهي السيكا والنوا آثر.
كما أن بعض المطربين الذين بدأوا بالغناء البلدي التزموا بهذا الشكل التقليدي في الغناء، بينما غنى البعض الآخر ألحانًا ذات طابع شعبي بلدي ولكنها لا تنتمي كل الانتماء إلى هذا اللون. عدا عن أن أغلب المطربين أو المطربات في الغناء البلدي يغنون من تألفيهم/ن في إطار محدد من الموضوعات مثل النصائح الاجتماعية والحكم والأمثال والأفراح والأمور الدينية والعاطفية. ولا تتعدى بعض الألحان في الغناء البلدي خمس أو ست درجات، ومنها موال "الصبر طيب" لإبراهيم الدسوقي، وأحيانًا ثلاث درجات مثل طقطوقة "واحد بس" لمتقال قناوي، والبعض الآخر يستعرض المقام كاملًا مثل طقطوقة "حودة" لبدرية السيد.
ومن الملاحظ كذلك أن المساحة الصوتية للغناء تتراوح بين درجي العراق والسهم للمؤدين من الرجال، والبكاه والمحير للمؤدين من السيدات. وأكثر الإيقاعات أو الضروب استخدامًا هي الوحدة الكبيرة والملفوف والدويك (المقسوم) والصعيدي والفلاحي والكونجا. وتعتمد الفرقة الموسيقية البلدية المصاحبة للغناء على الآلات الإيقاعية، وعلى زخرفة العازفين وارتجالاهم وتعزف بطريقة هتروفونية، بحيث يكون المطرب هو قائد الفرقة.
كما أن المطرب البلدي أو المطربة والعازفين يكون لديهم هيئة معينة تميزهم عن غيرهم، فالرجل يرتدي الجلابية ويضع العمة أو الطربوش والكوفية، وأحيانًا يلبس خاتمًا كبيرًا في إصبعه أو يضع سِنة من الذهب أو يرتدي ساعة أو نظارة من طراز قديم، بينما ترتدي المرأة جلابية مع طرحة أو منديل بأوية وتتزين بكردان أو عقد كبير أو حلق من النوع الشعبي المتميز. وفيما يتعلق ببناء الألحان، فإنه يقوم على استخدام الأجناس أكثر من المقامات وغالبًا ما تكون مبنية على تتابع لحني (سيكوانس). وكذلك اللزمات الموسيقية التي تخلل الغناء تشبه لحن الغناء وتترجمه أحيانًا. وعندما تتكرر، غالبًا ما يكون هناك اختلاف بين التكرار والآخر. ولكل مطرب أو مطربة كذلك طريقة خاصة في الأداء، فالبعض ينطق الحروف بالتفخيم أو الترقيق أو استخدام حِليات بعينها. وكذلك تختلف البحة في الصوت والنبرة الشعبية من شخص لآخر.
يبقى هذا النمط من الغناء واحدًا من أكثر الأنماط ارتباطًا بالذائقة العامة للشعوب. فهذه الغنائيات التي تمتاز بالبساطة والأصالة، تمس شغاف قلوب العديد من المستمعين، كونها أكثر ارتباطًا ببيئتهم وأذواقهم ووجدانهم. وهنا نجد أن الباحث في الموسيقى الشعبية محمد عمران في دراسته الرائدة "الغناء البلدي ومقومات الشكل"، التي نشرتها مجلة "الفنون الشعبية" بتاريخ أيلول/سبتمبر 1996، قد أفرد مساحةً طيبة لدراسة الشكل الشعري في الغناء البلدي، وخصوصًا الموال باعتباره النظم الشعري الأساسي الذي يعتمد عليه المغني البلدي في صياغة القاسم الأكبر من موضوعاته الغنائية. ولذلك كان يطلق على المغني البلدي أيضًا "مغني الموال".
وبحسب عمران، فإن الموال لا بد أن يحتوي على ثلاثة أقسام عتب (بداية)، ورَدْفَة (وسط)، غطاء (نهاية)، على الرغم من اختلاف عدد الأبيات من شكل لآخر. ولعل أكثر أشكال المواويل تميزًا في الغناء البلدي، هو الموال القصصي، وقد يصل فيه عدد الأبيات الشعرية إلى المئات. ولكن لا بد أيضًا لهذه الأبيات أن تنتظم في شكل داخلي معين، فأكثر المواويل القصصية انتشارًا، تلك التي تنتظم فيها الأبيات والقوافي على شكل مواويل قصيرة سواء رباعية أو خماسية أو سداسية.
أما عن الشكل الموسيقي والأداء المرتبط بالموال، فيقول عمران: "على الرغم من أننا لا نعرف على وجه الدقة متى تكوّن الإطار الاحترافي للغناء البلدي، فإنه، ومما لا شك فيه حتى اليوم، أن منظومات الموال القصير بأشكاله المختلفة كانت عماد ها الغناء في دلتا مصر قبل أن تبرز أهمية الطقطوقة والموال القصصي في هذا النمط من الغناء. ورواج الموال القصصي اقترن (في هذا الإطار الغنائي) برواج شكل موسيقي مميز قام على طرق وأساليب أداء ذات صلة بمكونات الشكل الشعري للموال القصير وذات صلة بمغزى الخطاب الذي صيغ في أبياته. ولأن خطاب الموال يجنح غالبًا تجاه معالجة حالات الشجن ومواطن الأسى والشكوى من الزمن، فإن هذه المعالجة انسحبت على لهجة الأداء الموسيقي للموال، لا سيما وأن المؤدين قد توارثوا – من مقومات الموسيقى الشرق عربية – أساليب أداء ومكونات مقامية تساعد على إبراز هذه الناحية".
إن أبرز ما يتميز به الأداء الموسيقي للموال في الغناء البلدي، هو حرية الأداء من الناحية الإيقاعية، والمقصود بها الأداء الموسيقي غير المقيد بوزن قياسي. وكذلك الاعتماد على تداعي الألحان في مسار مرتجل يحاول قدر المستطاع الإفادة من خصائص الموسيقى الشرق عربية، وخاصةً فيما يتعلق بالارتجاليات والتلوينات والانتقالات المقامية. وبحسب عمران، فإن الأداء الموسيقي للموال ينحصر في ثلاثة أقسام، وهي: الاستهلال (التمهيد)، والوسط (النماء)، والخاتمة (التسليم).
وعلى الرغم من الاعتماد على آلات بعينها في مصاحبة مؤدي الموال في الغناء البلدي، وخاصةً الأرغول والسلامية، فإن الوقت كان كفيلًا بظهور فريق آخر بدأ في إدخال بعض الآلات الأخرى إلى المنظومة النغمية، وذلك في ظل ظهور قالب الطقطوقة ضمن مسار الغناء البلدي. فلم يقتصر الأمر عند آلات التوقيع كالدربكة والرق، بل أدخلت آلة الكمان والعود أيضًا.
لقد كان الحديث حول زوال دولة الغناء البلدي، قد بدأ في الانتشار منذ خمسينيات القرن الماضي. فالكاتب الصحفي حسين عثمان ألمح إلى ذلك ضمن مقالة نشرتها مجلة "الكواكب" بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 1955. وفي رأيه أن الغناء البلدي بدأ كفرع من فروع الشعر الشعبي الذي كان يتغنى به شعراء الربابة ببطولات أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة والزير سالم والأميرة ذات الهمة.
وظهر من بين هؤلاء القوالين رجل بدوي راح تحول من رواية قصة الهلالي بالطريقة التقليدية إلى لون جديد من المواويل، فكان ذلك بمثابة لون جديد أقبل عليه المصريون. وحظي هذا اللون باهتمام كبير في حفلات الأعيان والأثرياء الخاصة، فتأثر بهذا البدوي طائفة من العاملين في مجال الغناء، فراحوا يقلدونه. وفي ظل هذا التنافس المحموم بين أهل الغناء البلدي، ظهرت طائفة من الأدباء تتبارى فيما بينها عن طريق إلقاء الأزجال ضمن مباريات من المدح والهجاء والفخر. وقد عرفت هذه الطائفة باسم "الأدباتية" وكانت لها طريقتها الخاصة في الإلقاء والتلحين. ومن بين هؤلاء ظهر شاب اسمه (محمد أبو سِنة) صاحب صوت رخيم جيد الأداء فاتجه لأداء الموال.
وراح عثمان في مقالته هذه يتحدث عن المواويل الخضْر وأغراض الحياة الاجتماعية والمواويل الحمْر وأغراض الغزل والنسيب والشكوى والهجر. وفي عهد محمد أبي سنة، ظهر آخرون مثل محمد سعيد وصيام. وعلى الرغم من براعتهما في أداء الموال، لم يتمكن أحد منهما من إزاحة أبي سنة من فوق القمة. وقد عرف أبو سنة بموال يقول مطلعه: "يا حلو ياللي سبيت الناس بدلالاك".
وقبل أن يشيخ أبو سنة، ظهر على الساحة شاب فارع الطول وسيم القسمات من أصل بدوي اسمه محمد ولقب نفسه بـ"العربي"، ليصبح لاحقًا زعيمًا للغناء البلدي. وكانت القهوة التي يعمل بها تزدحم بالرواد ويتوافد عليه علية القوم للاستماع إلى هذا المطرب صاحب الأداء الفذ. وقد عرف بموال شهير في الغزل يبدأ مطلعه بـ: "ياللي رماك الهوى حبك على عيني". وكانت له العديد من المعجبات بصوته أيضًا. وقد وقع اختيار إحدى لجان مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة سنة 1932 عليه، ليقوم بتسجيل مجموعة من القطع البلدية، لتظل إرثًا للأجيال القادمة.
وكان الزعيم سعد زغلول أحد المعجبين بصوته، وكذلك الفنان فريد الأطرش الذي كان دائم التردد على القهوة التي يغني بها العربي، ليأخذ عنه أصول هذا الفن. ويبدو ذلك جليًا في أغنيته الشهيرة "ما قال لي وقولت له". وتشعبت بعد ذلك دولة الغناء البلدي، فظهرت أسماء أخرى على الساحة منها: محمد الصغير، وإبراهيم العربي، ومحمد أبو إسماعيل، وعواد العقدة، وعواد ركيبة، وأبو العلا البرديسي، وزينب المنصورية.
ومن أشهر عازفي الغناء البلدي: أبو حديد، وعبد العزيز العدلي، وأحمد موسى على الأرغول، قبل أن يظهر جيل جديد من المغنين، منهم: محمد طه مصطفى، وسيد درويش الطنطاوي، وعطية الإسكندراني، ولبيب أحمد.
لا أظن أن مقالة واحدة تكفي للإلمام بهذا الفن الأصيل وإبراز خصائصه على نحو تفصيلي، لكننا حاولنا قدر المستطاع أن نكشف عن بعض سماته الأساسية وأشهر أعلامه في فترات زمنية بعينها. ولعل هذا الطرح يجعلنا نعيد على أنفسنا سؤالًا: هل أخذ هذا اللون من الغناء ما يستحقه من اهتمام ودعم على مستوى الإعلام وتنظيم الحفلات، بل وأرشفة نتاجه؟