يستحق الفيلم المصري "رحلة 404" (تأليف محمد رجاء وإخراج هاني خليفة) أن يوصف بـ"الجريء" من قبل الكثير من النقاد والمهتمين والمشاهدين العاديين. فموضوعه غير العادي، وغير المعتاد، يدخله في حقل ألغام اعتادت السينما العربية أن تتجنبه، وخاصة بعد أن علت صيحة "السينما النظيفة" وصارت، أو كادت أن تصير، مذهبًا شبه رسمي للفن العربي الراهن.
ومع أن الفيلم يخلو من المشاهد "الساخنة" التي تجبر الرقيب، عادة، على إعمال مقصه، فإن الموضوع، الحوار، كثيرًا من المواقف.. جاءت مترعة بالإيحاءات التي تجعل العمل يتحرش بواحد من التابوهات الثلاثة المحدقة دوما بالسينما العربية، أو بالأصح باثنين من هذه التابوهات: الدين والجنس.
لكن صناع العمل ساروا ببراعة متناهية في هذا الطريق الشائك، والمقولات النهائية بررت الجرأة وأسبغت عليها مشروعية، كما أن مسار شخصية البطلة، غادة سعيد (منى زكي)، وإصرارها على الوصول إلى النهاية السعيدة المنشودة، قد حصنا الفيلم من "الشبهات".
وكذلك يستحق "رحلة 404" أن يوسم بـ"رفعة المستوى الفني"، فثمة أداء مبهر من منى زكي ومحمد فراج، وزملائهما في طاقم التمثيل: محمد ممدوح، خالد الصاوي، حسن العدل، عارفة عبد الرسول، شيرين رضا، محمد علاء... وهناك كاميرا ذكية وإدارة بارعة من المخرج هاني خليفة، وكان في الأساس ثمة نص محبوك باتقان، بحوار لماح خال من الثرثرة والكليشات.
ومع ذلك.. مع كل ذلك، فالفيلم يشكل علامة جديدة على تغير واضح، ويزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، في الاتجاه العام للسينما المصرية ومن ورائها السينما العربية، بل وعموم الفن الدرامي العربي.
ومفردة "تغير" حيادية إلى حد كبير، وهذا ملائم مبدئيًا، فثمة إشارة إلى اختلافات متنوعة، وأسهم صاعدة وأخرى هابطة، وملامح مستجدة لا تخضع إلى حكم قيمة من أي نوع، غير أن المفردة سوف تضطر إلى إخلاء مكانها لواحدة أخرى، لا سيما أن السطور التالية تسعى إلى إسباغ معنى سلبي على هذا التغير وفق معيار معين، وبالتالي ربما يتوجب البحث عن بديل من الآن.. ربما يصح القول: تراجع، أو انحسار.. مع استبعاد مفردات فاقعة أكثر وذات حس ميلودرامي غير مرغوب، مثل: انهيار أو انحطاط.
ولكن لنوجل ذلك إلى ما بعد التعرف على قصة الفيلم.
تائبة عنيدة
غادة سعيد امرأة شابة قادمة من "ماض ملوث"، والعبارة بين مزدوجتين هي تعبير مهذب عن الحالة، فبصراحة أكثر المرأة، كما تشرح وقائع وحوارات الفيلم، كانت تبيع جسدها مقابل المال، بل إنها كانت في شبكة منظمة، أو شبه منظمة، تديرها امرأة ذات سطوة وعلاقات متشعبة، يعمل تحت إداراتها عدد كبير من الفتيات الشابات.
ويبدأ الفيلم وغادة قد اتخذت قرارًا حاسمًا بالتوبة، وهي تريد تتويج توبتها برحلة إلى الحج، غير أنها تكتشف أن عزمها هذا دونه عقبات وموانع كثيرة، فجميع من حولها بدوا غير راغبين في توبتها، حتى أن بعضهم سعى عمليا إلى ثنيها عن قراراها وإغوائها بالعودة إلى ما كانت فيه.
تعمل غادة مندوبة تسويق عقاري في شركة خاصة، ويظهر كل من حولها، مديرها وزملاؤها وزبائنها، غير مصدقين لتحولها، وأكثر من ذلك فهم يضغطون عليها لإعاقة هذا التحول، أما أبوها فهو رجل سلبي ضعيف وقليل الحيلة وإذ يوافق على رحلة الحج، بل ويسجل اسمه للمشاركة فيها، فهو لا يفعل شيئًا لدعم ابنته ولا لتحصين خيارها المستجد. وزوجته الثانية تلعب دورًا سلبيًا بطموحاتها المادية ومحاولتها الدائمة لاستغلال ابنة زوجها وتوريطها في خيارات صعبة. أما أم غادة فيكون لها النصيب الأكبر في تنغيص عيشها وعرقلة توبتها، وهي لا تكف عن ملاحقتها بمطالب مالية ثقيلة بذريعة وجود كمبيالات مستحقة الدفع.
وإثر مشاجرة على قارعة الطريق بين الابنة وأمها، تقع الثانية ضحية حادث سير خطير، وتنقل إلى مستشفى خاص باهظ التكاليف وهي بين الحياة والموت، ولقاء إنقاذ حياتها تطلب إدارة المستشفى مبلغًا كبيرًا، وهنا تبدأ رحلة غادة، رحلة الفيلم الحقيقية، فتجول البطلة على معارفها الحاليين والقدامى، على زبائن عملها العقاري، وزبائن عملها القديم، وزوجها السابق مدمن المخدرات، وتصل حتى إلى مديرة الشبكة التي كانت عضوا فيها.
وتكون الرحلة هذه هي ذريعة الفيلم لاستعراض نماذج عديدة من المجتمع اليوم، أما القاسم المشترك بينها فهو أنها جميعًا شخصيات مأزومة، خربة، ينهشها الفساد، ولقد قادتها مساراتها الخاطئة إلى حافة الانهيار، رجل أدمن الخمر وتاه عن نفسه وعمله لاكتشافه خيانة زوجته المتكررة، شاب أدمن المخدرات وتعرض للسجن الطويل كردة فعل على معرفته بمسيرة أمه الشائنة، وآخر يعيش بلا روح بعد أن قادته طموحاته الاجتماعية والمادية وتفاليد أسرته إلى زواج بلا حب.
مرض عام بلا أسباب
حسنٌ، وأين الملاحظة التي تبرر إدراج الفيلم ضمن اتجاه سلبي في مسيرة السينما الراهنة؟
بداية، لقد وقع الفيلم في تناقض عميق، ففي الوقت الذي أراد فيه أن يقدم صورة واسعة لحال المجتمع برمته من خلال عينات عديدة، فإنه لم يقدم في الواقع إلا حالات فردية خاصة، متذررة، لا يتضح إلا بالكاد أنها تنتمي إلى نفس البيئة أو المناخ العام. وإذا كانت تشترك في بؤس المآل فإن لا شيء يجمعها في الأسباب والدوافع. لكل حالة منها سببها الخاص، مأساتها الفردية، دوافعها الذاتية. وبالتالي فهي لم تكن نتاج مناخ عام واحد، أو إفراز حراك اجتماعي تاريخي محدد. إنها قصص وشخصيات معلقة في الهواء، يمكن أن تحدث وتوجد في أي مكان، في المكسيك أو المغرب أو ماليزيا أو مصر، وكذلك يمكن أن تحدث وتوجد في مصر الستينات أو الثمانينات أو مصر الآن.
وفي ثنايا الفيلم، وفي ما ألحق به من تصريحات وتوضيحات، يتبدى طموحه إلى رصد فني سينمائي لوضع المجتمع هنا والآن، لكنه على الأرجح أخطأ السبيل إلى ذلك، فالزوجة الخائنة، والأم العابثة، والحبيبة المخدوعة، والشاب الغادر. كلها نماذج عابرة للأزمان والبيئات ولا تحمل في حد ذاتها دلالة اجتماعية تاريخية من أي نوع، فأين الصورة البانورامية للمجتمع في مآلاته الراهنة؟
لقد شخص العمل حال المجتمع، وبين بوضوح أنه مريض جدًا، ولكنه أغفل تحديد الأسباب التي جعلت المرض حالة اجتماعية عامة، وذلك بسبب إغفاله للبعد السياسي، وتجاهله للخيارات السياسية والاقتصادية ولرهانات الدوائر المتنفذة والتي أدخلت شعبًا كاملًا، بل شعوبًا (إذا ما لاحظنا قابلية التعميم على عموم المنطقة العربية) في عنق الزجاجة.
وهذه النقطة هي ما تجعل من الفيلم علامة أخرى في الطريق الذي باتت تسلكه كثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية العربية في السنوات العشر الأخيرة على الأقل. فكثيرة هي الأفلام والمسلسلات المصرية والسورية والعربية عمومًا التي تتنطح لمهمة تشريح المجتمع وإبراز أمراضه العامة، ولكنها بإصرارها على تجاهل المناخ السياسي والاقتصادي المهيمن تصل إلى نوع من الاستهبال، إذ نقف أمام مرضى كثر، فاسدين ومنحرفين ومأزومين، ولكن الأسباب، ويا للعجب، تبدو هابطة من السماء، وتدور في دائرة الميتافيزيقا: قلة الأخلاق، انعدام الرحمة، سيادة الجشع بين الناس، تبخر أحاسيس الرحمة.. وهكذا.
عاطف الطيب.. ورفاقه
ربما تنفع المقارنة في التوضيح أكثر. وبالفعل فقد قارن الكثيرون "رحلة 404" بفيلم وحيد حامد وعاطف الطيب الشهير "كشف المستور"، الذي أنتج عام 1994، حيث نشاهد امرأة تائبة أخرى اسمها سلوى شاهين (جسدتها نبيلة عبيد)، تقوم في جولة لاهثة على معارف قدامى لإنقاذ نفسها، فنكتشف هنا أيضًا نماذج عديدة تشير إلى الاتجاه العام الذي كان يسلكه المجتمع المصري في ذلك الوقت. ولكن ربما كانت هذه المقارنة في غير مكانها، ذلك أن فيلم عاطف الطيب سياسي بامتياز، موضوعه أصلًا هو السياسة بمعناها المحدد والمباشر، فنحن أمام جهاز مخابرات له أهدافه الواضحة وأسلوب عمله، وبالمقابل ثمة جماعات دينية منخرطة في إنشاء دولتها المنشودة، وهذا بعيد إلى حد كبير عن الدائرة التي اختارها فيلم هاني خليفة لنفسه.
ربما الأجدى في المقارنة هو فيلم عاطف الطيب الأسبق "سواق الأتوبيس"، (إنتاج 1982)، وقد يبدو الخيار غريبًا ومثيرًا لاعتراض قاطع، فبطل هذا الفيلم رجل وليس امرأة، وهو لم يتب عن شيء لأن لا شيء في ماضيه يدفع إلى التوبة، ليس ثمة شبكة دعارة، ولا تورط لأحد أبطاله في ذلك. ببساطة واختصار فإن الفيلم لا يتحدث من بعيد أو من قريب عن العوالم التي دار فيها "رحلة 404"، فأين وجه المقارنة إذن؟
حسن (نور الشريف)، بطل "سواق الأتوبيس"، يقع في ورطة يحتاج للخروج منها إلى مبلغ مالي كبير لا يتوفر لديه بالطبع، إذ تم الحجز على ورشة النجارة العائدة لأبيه، والأب على وشك الموت كمدا على ذلك. فالمبلغ المطلوب ليس لإنقاذ الورشة فقط بل ولإنقاذ حياة الأب. هكذا ينطلق حسن في جولة على أقاربه وأصدقائه لجمع المبلغ، وفي سياق الجولة يعاين، ونعاين معه، نماذج مختلفة من المجتمع، والأهم أنه يكتشف، ونكتشف معه، عينات من التحول العميق والمتسارع الذي ألم بالمجتمع المصري وقنئذ.
الذريعة في الفيلمين نفسها، والهدف العام نفسه: رحلة لجمع مال لإنقاذ قريب، وفيها سياقها كشف عن نماذج اجتماعية وما ألم بها..
غير أن الفارق، مع ذلك، كبير، ففي "سواق الأتوبيس" ثمة إشارات ساطعة وقاطعة إلى المناخ السياسي العام، إلى الخيارات الكبرى التي قادت المجتمع لأن يصل إلى ما وصل إليه. لم يكن ثمة حديث مباشر في ذلك، ليس من كلام مباشر في السياسة. لكن كل شيء في الفيلم كان يقول ذلك بطريقة غير مباشرة، ذكية ولماحة ومراعية للسياق الفني.. وبهذا فقد كان متيسرًا على أي مشاهد مهتم أن يدرك ما يراه الفيلم سببًا أساسيًا لهذا التحول الاجتماعي العاصف، إنه الخيار الخطير الذي دشن "عصر الانفتاح" ودشن بالتالي لكل هذه التحولات والمآلات الفردية.
الاختلاف بين الفيلمين ليس فقط في زمن الإنتاج، وزمن الأحداث (1982 مقابل 2024)، بل كذلك في نوع الاهتمام وشكل المقاربة وفي زاوية الرؤية. تحديدًا: في لحظ السياسة أو إغفالها. في اعتبار الشأن العام أو التنصل منه.
لسبب أو لآخر، بات واضحًا وجود تيار عريض من النتاجات الفنية التي صارت تعفي نفسها من رؤية كهذه.. تعفي نفسها من السياسة.
وهنا لا بد من استدراك. فالحديث عن السياسة والسينما، والفن عمومًا، يوحي بعودة الحديث عن الأيديولوجيا والفن، عن الفن المؤدلج، وهذا ليس هو المقصود بالطبع. فالسياسة المطلوب لحظها في الأعمال الفنية المشابهة، ليست أيديولوجيا محددة، وليست السياسة بمعناها المباشر وبتجليها في الممارسة التخصصية. ليس المطلوب الكلام عن أحزاب بعينها أو التقيد بتوجهات وأفكار سياسية بذاتها.. السياسة المعنية هي ميدان الشأن العام، والمختبر الذي تنضج فيه الخيارات والقرارات الكبرى التي تدفع المجتمع إلى هنا أو هناك، وتؤثر على كل أفراده بشكل أو بآخر.
استدراك آخر: من حق أي فيلم، أو مسلسل، أن ينأى عن السياسة حتى بمعناها العام المذكور آنفًا، من حق أي عمل درامي أن يتناول موضوعًا فرديًا خاصًا، قصة حب، شؤون الزواج والطلاق، تربية الأطفال، حالات نفسية معينة.
أما عندما يأتي عمل فني ويتصدى لتشريح مجتمع بحاله، ويعرض للأمراض السائدة في عمومه، ويأخذ على عاتقه الرصد والكشف والتعرية، فلا بد له، إن كان جادًا، من الذهاب إلى العمق، وفي العمق لا مناص من التحرش بالتابو الثالث الأكثر رهبة: السياسة.