من عبر طريق ضهر البيدر قبل نجوى بركات؟

من عبر طريق ضهر البيدر قبل نجوى كرم؟

20 سبتمبر 2024

ليس ثمة أفضل من الجبال للوقوف على كامل المشهد، خصوصًا إذا أُتخم بالأحداث والتحولات واصطبغ بألوان غير متجانسة كحال علاقة الشقيقتين، سوريا ولبنان. لذا لا مكان يمنح إطلالة استراتيجية على طريق بيروت دمشق مثل خيمة نُصبت على قمة جبل في منطقة ضهر البيدر، حيث يمكن التلصص على من مروا ذهابًا وإيابًا في العقود الأخيرة.

أشد العابرين لفتًا للانتباه هي أكثرهم رهبة، العربات العسكرية، سيارات اللاند روفر، وشاحنات الزيل السوفييتية وهي تنقل عساكر سوريين، مجندين بلغوا توًّا الثامنة عشرة، فُرزوا إلى القوات الخاصة. يملكون بنية قوية وشوارب سوداء وشهية عارمة للأشياء الجديدة، دخلوا بملامح محمرّة من شمس دورة الأغرار، يتحرّقون للتعرف على لبنان الذي شاهدوه يوميًّا على قنوات إل بي سي وإم تي في والمستقبل، بمساعدة أجهزة التقوية المثبتة أعلى الإنتيلات.

من تلك الخيمة سترى ضباطًا عائدين إلى زوجاتهم في إجازات قصيرة، يقودون سياراتهم البيجو 504، ذات الصندوق الخلفي المثقل بكروزات الدخان وحليب البودرة وأكياس الحفاضات وعلب البسكويت وقناني الويسكي والأدوية الأجنبية.

في العموم، الاتجاه الأكثر ازدحامًا كان لفترة طويلة من الشرق إلى الغرب. لكن هناك أيضًا سيارات فريدة تتجه نحو الداخل السوري، يجلس في مقاعدها الخلفية مسؤولون لبنانيون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من كتائب وتقدمي اشتراكي وحركة أمل وحزب الله والحزب السوري القومي والشيوعي، وبالطبع من حزب البعث أيضًا. وربما تجد في بعضها أعضاء لجان مركزية في فصائل فلسطينية، رجال أعمال، متعهدي حفلات، رؤساء غرف صناعة وتجارة، مقاولين، رجال دين.. النخبة منهم تقصد قصر المهاجرين، والأقل مرتبة يقضون بعض الوقت في أحد أفرع الأمن الرئيسة، وقد يهبط الليل فيسهرون في مزارع رجال الدولة في الصبورة ويعفور، وأحيانًا يكتفون بزيارة خاطفة لمسؤولين في القيادة القطرية ولضباط نافذين في رئاسة الأركان.

يجيئون مسرعين إما توقًا وتلهفًا أو خوفًا وتوجسًا، تطلّعًا للقاء منتظر أم استجابة قلقة لاستدعاء عاجل. ولأنهم يشعرون بالوقت بطيئًا فيُشغلون أنفسهم، تارة في تقويم كيّات البدلة الغامقة، وتارة في تفحص الوجه بمرآة صغيرة ونتف شعرة طالت وخرجت من إحدى فتحتي الأنف، وغالبًا ما يُعيدون توضيب الهدايا وركنها بهدوء على المقعد الجلدي. إلّا أنهم يسترخون في طريق العودة أيًّا كانت ثمرة الزيارة، فيسألون السائق أن يسير ببطء، يفتحون النوافذ كي يستنشقوا هواء الجبال وهم يحلمون بحظوة مرتقبة، أو يحاولون ابتلاع الخيبة المُرّة حين يكون جواب أبو فلان "خلينا نشوف". لكن من المهم أن تعلم أنّ كل هؤلاء مرّوا من مركز قيادة القوات السورية المنتشرة في لبنان في عنجر قبل أن يمروا أمام عينيك، هناك حيث تطول وتطول قوائم انتظار من يريدون زيارة عرين الأسد، وقد تبيت شهورًا طويلة في أدراج غازي كنعان الكثيرة والعميقة، والتي لم تضق يومًا على آلاف الأدلة والوثائق والمستمسكات والمقترحات والتعليمات والأسماء وأرقام الهواتف.

غداة انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1991، لا بدّ أنك لاحظت كيف بات معبر المصنع مزدحمًا من الجانبين، إذ تزايدت بكثرة أعداد الباصات وسيارات النقل العام التي تقلّ عمال البناء السوريين إلى بيروت وضواحيها، ليساهموا في إعادة إعمار ما تهدّم على مدى سنوات الحرب الخمس عشرة. وألِفت هيئة شاحنات البدو القادمين من أرياف حمص وحماة والرقة للعمل في سهلَي البقاع وعكار، ولقطف الزيتون وجني محصول الفستق والعودة بأطنان من عروقه الخضراء إلى أغنامهم. 

في تلك الفترة، ستنتعش بعض أشكال السياحة وتغدو أسواق بيروت وجهة للسيارات ذات النمر الدمشقية، التي تنزل صباحًا ثم تعود إلى الوطن بُعيد المساء. لكنّ المنافع ليست للأغنياء فحسب، بل كذلك للسوق السوداء وكراجات السومرية ودكاكين البقالة ومحلات الكحول وأكشاك التبغ المهرّب. بالتأكيد سمعت مرارًا في الليل هدير مركبات المهرّبين تتنقل بين جبال القلمون، تعبر الحدود وتخوض كل مدّة اشتباكات وهمية مع دوريات الجمارك. 

آمل ألا يفوتك شراء منظار روسيّ من إحدى البلدات حولك، كي ترصد عن قرب وتقيس طول المواكب وتُميّز أصل كل منها، فليست كلها أمنية وعسكرية وسياسية، إنما يوجد مواكب فنية أيضًا، أقل طولًا لكن أكثر حيوية، لمغنيّ لبنان الشبان آنذاك، الذين دأبوا منذ بداية التسعينيات مع زملائهم السوريين على إحياء الحفلات والغناء لسوريا وقائد سوريا وشعب سوريا، في "مهرجانات المحبة مهرجانات الباسل" في اللاذقية، وفي معرض دمشق الدولي، وعلى مدرج بصرى الشام، وفي أستادات العباسيين والحمدانيين وخالد بن الوليد. 

في المقابل، فإن الفنانين السوريين قبل وقت طويل من بزوغ نجم آل الديك، لم يكونوا ذا ثقل كبير ليدخلوا لبنان في مواكب، اللهم باستثناء سلطان الطرب جورج وسوف الذي لمّع مكانته الخاصة بعد أغنتيه الشهيرة "تسلم للشعب يا حافظ". هكذا كانوا يركبون سياراتهم الجديدة بطبيعة الحال، ويعملون على المشاركة في أمسيات جار القمر أو برنامج ساعة بقرب الحبيب، وإحياء السهرات في مطاعم بيروت والمتن وجبل لبنان.

ظهيرة أحد أيام أواخر شهر نيسان/إبريل عام 2005، أراك قد مللت تكرار مشاهد الحركة اليومية على طريق ضهر البيدر، فأخذت تُسهب النظر في قطعان الماعز وهي ترعى على السفوح المعشبة. وفي لحظة عميقة للغاية، لمعت كائنات معدنية في الأفق، التفتَّ إلى جهتها، لم تحتج المنظار، فبمجرد أن مددت كفك أمام جبينك، أدركت على الفور أنّ التي تقترب هي بالفعل قوافل عسكرية طويلة، أطول من أطول قافلات رأيتها طوال السنين الفائتة. في ذلك اليوم الدافئ سينتهي رسميًّا الوجود العسكري السوري في لبنان، مضى الجيش السوري في طريقه وخرج ببساطة من لبنان، رضوخًا لقرار مجلس الأمن رقم 1559، القاضي بخروج القوات الأجنبية من لبنان، والذي صدر بعد اغتيال رفيق الحريري ومجموعة من السياسيين اللبنانين المناهضين للنظام السوري الذي اتّهم بتصفيتهم.

إثر ذلك، انخفض عدد العمال السوريين في لبنان وكثر العائدون منه، وغدا الطريق موحشًا بعد غياب الشمس. لكن مع مرور الوقت ستنتهي العاصفة، فالقدر الجغرافي دفع الدولتين للتظاهر أنهما جادتان في العيش كجارتين مستقلتين تحترم كل منهما سيادة الأخرى. افتُتحت سفارة لبنانية في دمشق للمرة الأولى في التاريخ، ليعود سياسيو لبنان إلى حضن الشام وإنْ بوتيرة أقل، وعلى رأسهم سعد الحريري نفسه، أبرز أولياء الدم، ووليد جنبلاط التي حلّقت شتائمه لرموز النظام السوري عاليًا في سماء 14 آذار، زارا سوريا لفتح صفحة جديدة سرعان ما تمزّقت. قبلهما لم يجد ميشال عون سببًا في استمرار العداء بعد انتهاء الوجود السوري في لبنان، بل عدّه فرصة للتحالف مع دمشق، فقصدها واحتفت به أيّما احتفاء. 

بدورهم، فإن السوريين امتلكوا نوايا صادقة لنسيان بعض الماضي، وما المجال الأنسب للسياسيّ للبدء بممارسة عادة النسيان أكثر من الثقافة والفن. اختيرت دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008، حاول النظام وقتئذ تجاوز نفسه وتجديد شبابه وذهنيته في وقت كثرت فيه المبادرات والمصالحات، فقال في نفسه لا عيب لمن في سنّي أن يخلع بناطيل القماش ويلبس الجينز بعض الأحيان، وكان من تبعات ذلك ترحيبه بدعوة فنانٍ مثل زياد الرحباني الذي قاطعه وجافاه عمرًا، لتقديم حفلين في قلعة دمشق ذلك الصيف، عقب أشهر على عرض والدته السيدة فيروز مسرحية "صح النوم" في دار الأوبرا.

كل تلك السلسلة انقطعت عام 2011، انقلب كل شيء، اندلعت انتفاضة تلتها أحداث ستغيّر سوريا إلى الأبد. لا مواكب بعد الآن باتجاه دمشق أو بيروت التي لم يعد يأتِ منها أكثر من بضعة مسؤولين سابقين، ومعلقين تلفزيونيين يعكفون على القنوات الرسمية لشرح أسباب المؤامرة الكونية على سوريا، وللتأكيد أن أيامًا معدودة تفصلنا عن نهاية "الفورة"، لترجع دقات قلب العروبة النابض أقوى مما كانت. 

سيصير طريق ضهر البيدر باتجاه واحد نسبيًّا، وبعد أشهر ستعتاد أصوات القصف قادمة من أعماق سوريا. ستستشعر حركة مريبة في الليل ثم تشاهد بأم عينيك مقاتلين برايات صفراء يعبرون باتجاه المعركة، ستحاصَر بلدات ومدن وراء الحدود السورية، تسمع قصفها وينفطر قلبك على رؤية أهلها يتدفقون تباعًا ويتجمعون لينصبوا خيامهم على أرض لبنان.

معارضون ويائسون كُثر سيقررون في لحظة ما التوجه إلى بيروت خشية السجن أو الموت، فيقيمون هناك بانتظار طلب اللجوء من إحدى السفارات، او للاستعداد للسفر إلى تركيا ومن هناك للانطلاق باتجاه دول اللجوء في أوروبا. ستسأم منظر الطوابير في معبر المصنع تنتظر ساعات وساعات حتى يسمح لها الجانب اللبناني بالدخول. شبان يحملون دفتر الجندية ووثيقة التأجيل في يد، وفي اليد الأخرى ورقة لموعد في سفارة، أو تأشيرة سفر وتذكرة طيران، أو دعوة لحضور ورشة عمل تُنظّمها مؤسسة إن جي أوز، موضوعها تنمية المشاريع الصغيرة في زمن الحرب، أو دعم الصحة النفسية لذوي الاحتياجات الخاصة أثناء المعارك، أو آليات التعليم البديل والتخفيف من آثار فقد الأحبة عن طريق الفن، وغيرها من برامج الدعم والتمكين التي تحظى بتمويل المؤسسات الدولية.

من البديهي في مثل تلك الظروف أن تتوقف الحفلات والمهرجانات، فالجمهور السوري كان يموت ويجوع ويحزن ويخاف وليس لديه المال ولا الوقت ولا الأمان لكي يغني ويتمايل في الملاعب وأمام المسارح. أحجم مغنو لبنان عن المجيء إلى سوريا التي غادرها فنّانوها كذلك. لن يتردّد على سوريا سوى شخصيات متجذرة بين البلدين، مثل جورج وسوف الذي سيمرّ من أمامك، عند أحد الحواجز سيوقف عسكريٌّ سيارته، ليحدجه أبو وديع ويقول بنبرة مجروشة "دخيل رب الجيش السوري".

مرت سنوات طويلة، الحرب انتهت وأنت شيّبت، ومن بقي في سوريا يعيش دون أمل ودون طعام ودون صوت. حركة التنقل عادت بين الشقيقتين في محاكاة رديئة لما كانت عليه. اللاجئون السوريون لم يرجعوا إلى وطنهم. مغنو لبنان بدؤوا منذ سنتين أو أكثر قليلًا بالتشجّع على إحياء حفلات الصيف في دمشق والساحل السوري. أبرز أمسيات هذا العام أحيتها نجوى كرم يوم الجمعة الفائت. عبرت طريق ضهر البيدر لتغني لشعب متعب فقد الكثير من قدرته على النطّ والتصفيق. أتخيّل لو أنها استعادت أغنيتها القديمة "عدروب الشام لاقيني"، عندما قالت المذيعة في بداية الحفل عام 1998، إنّها هدية من نجوى كرم إلى سوريا الأسد في ذكرى الحركة التصحيحية، فهل ستجد بعد كل ما حصل سوريًّا واحدًا يرقص بصدق وهي تصدح "والأرز بصوتي غنالِكْ، شام الأسد شام الأسد، يا أغلى شام".

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

2

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

3

تغيير الأبجدية العثمانية.. يوم حسم أتاتورك نقاشًا سبق ولادته

تضع هذه المقالة مسألة استبدال مصطفى كمال أتاتورك الأبجدية العثمانية بالحروف اللاتينية في سياقها التاريخي بعيدًا عن موضوع التقدّم والتأخر وصراع الهوية

4

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

5

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

اقرأ/ي أيضًا
الانهيار الديمغرافي

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

مصطفى هشام

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك
أرشيف مصر على قارعة فيسبوك

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

حسن حافظ

تونس

التونسي المنتقل ديمقراطيًا: أنماط وهرمية

التونسي اليوم مُتعب ومنهك ويائس وترى كل هذا على وجهه المتخم، ويبقى السؤال: هل لهذا النفق المظلم من بصيص من النور في آخره؟

صوفية حنازلة

من صبرا وشاتيلا إلى غزة

من صبرا وشاتيلا إلى غزة

يتساءل أهالي صبرا وشاتيلا: كيف ننسى ما تعرضنا له قبل 42 عامًا ودمنا في غزة لا يزال يُسفك أمامنا على الشاشات؟

لمى أبو خروب

الأسرة والإرث في المغرب

مدونة الأسرة المغربية.. القانون في زمن التحولات

يشغل قانون الأسرة وقضايا المرأة والإرث حيزًا واسعًا من النقاش العمومي في المغرب، خاصةً بين المحافظين والحداثيين

أسامة باجي

المزيد من الكاتب

أنس ناصيف

كاتب سوري

قماش وإبر وبلاد ممزقة.. ماكينة الخياطة ونسيج ذاكرة السوريين

لم يكن لأحد التوقع بأن ماكينة الخياطة اليدوية ستستعيد شيئًا من مجدها الغابر، وتدخل بيوت السوريين مجددًا مع انهيار الليرة وتفاقم الأوضاع الاقتصادية