فاحملْ بلادك أَنّى ذَهَبْتَ..
وكُنْ نرجسيًّا إذا لزم الأَمرُ.
منفىً هو العالم الخارجيُّ
ومنفىً هو العالم الداخليُّ
من أَنت بينهما؟
لا أُعرّفُ نفسي تمامًا
لئلاّ أُضيّعها.
بهذه الأبيات من قصيدة "طباق"، رثى الشاعر الفلسطيني محمود درويش صديقه إدوارد سعيد الذي يُعد من أبرز الذين كتبوا عن المنفى، وأعطاه معاني جديدة تعبّر عن تجربته. لكن هذه المعاني تركزت بشكل أساسي على المنفى كتجربة نفسية وحالة شعورية أكثر مما تركزت على المعنى التقليدي للمنفى.
وقد أسهب درويش في قصيدته في وصف هذا المعنى الشعوري للمنفى، لكنه يتجاوزها ويجمع معانٍ مختلفة للمنفى: منفىً هو العالم الخارجي، ومنفىً هو العالم الداخلي. وهكذا عبّر عن المنفى كحالة خارجية وموضوعية، وهو ما يتماشى مع المعنى التقليدي للمنفى بالإبعاد القسري خارج الوطن. لكنه شمل أيضًا المعنى الشعوري الذي عبّر عنه كثيرًا إدوارد سعيد.
في هذا المقال، سأتناول كلا المعنيين اللذين يعمقان من مفهوم المنفى، ويجعلانه من أفضل المفاهيم للتعبير عن حالة الهجرة بعد الربيع العربي.
المنفى قديمًا والآن: غياب القانونية
النفي، بمفهومه التقليدي، يعني الإبعاد من البلاد لأسباب سياسية وبهدف العقاب، وكان يُعد أيضًا عقوبة "قانونية" في العصور الوسطى وأوائل الدولة الحديثة. وعن معنى هذه الكلمة في الوعي الجمعي، قال لي أحدهم ساخرًا: "منفى! هو إنتا مفكر نفسك عرابي؟". إذ كان النفي في السابق عقوبة قانونية واضحة تُستخدم غالبًا ضد شخصيات بارزة. ولذلك، ظلت دلالة المعنى محفوظة لشخصيات سياسية، مما عمق من طابعه الفردي بدل التعامل معه كظرف موضوعي يدفع مجموعة من البشر إلى الفرار من أوطانهم.
لكن المعنى القانوني بدأ يتلاشى، مع الوقت، إلى أن أصبحت عقوبة النفي في النهاية محظورة في القانون الدولي وفقًا للمادة التاسعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ: "لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفًا". ومع ازدياد صلابة الحدود بين الدول، بدأت هذه العقوبة بالاختفاء تدريجيًا، وبات الشائع هو النقيض تمامًا، أي منع الدولة لمواطنيها من السفر بدل نفيهم.
وعلى كلٍ، فإن غياب المنفى كفئة قانونية لم يؤدِ إلى اختفائه، لكن تغير شكله وبات يصعب تحديده أو ربطه بممارسات محددة للدولة مقارنةً بفئات تحمل دلالات قانونية واضحة كطالب اللجوء أو اللاجئ. ومع ذلك، استمر استخدام كلمة "منفي" لوصف الأشخاص الذين فروا من بلدانهم لأسباب سياسية ولا يستطيعون العودة، بغض النظر عن وضعهم القانوني في البلد المضيف.
يعقد الغموض القانوني لمفهوم المنفى المشهد، إذ إن المنفي ليس فئة بيروقراطية في القانون الدولي كما هو اللاجئ الذي يعكس قدرًا من البراءة ويحتاج إلى المساعدة. هذا الغموض يترك المنفي أمام اختيارات مفتوحة تبعًا لاختلاف البنى القانونية في كل دولة. ففي أوروبا، سيسعى المنفي لإثبات معاناته واضطهاده سياسيًا وعدم قدرته على العودة إلى وطنه، خصوصًا أن العديد من المنفيين يأتون من دول تصنّف كدول "آمنة" لغياب الكوارث الإنسانية والحروب فيها، مثل حالة مصر وتونس.
ورغم أن المنفى نتيجة لظرف موضوعي يدفع بعض النشطاء إلى الخروج، إلا أن التعامل القانوني معهم يعمل على تحويلهم إلى حالة قانونية فردية، حيث يسعى المنفيون إلى تقديم وثائق رسمية تثبت تعرضهم للسجن أو المعاناة في أوطانهم أو غير ذلك. لكن التعامل القانوني هنا يستلزم استخراج أوراق من دول سلطوية، ما يُلقي بعبء كبير على عاتق المنفي، الذي يسعى إلى أن يُرى كلاجئ ليتمكن من سلوك مسار قانوني واضح.
في حالة اللاجئين السوريين داخل تركيا، التي وقّعت على اتفاقية جنيف للاجئين في عام 1951، مع تحفظ جغرافي يقتصر الاعتراف باللاجئين بموجبه على القادمين من أوروبا فقط؛ أصدرت تركيا العديد من القوانين التي خلقت أوضاعًا قانونية جديدة مثل "الحماية المؤقتة" و"الإقامة الإنسانية".
أما في حالة المصريين، فقد سعى المنفيون المصريون إلى البحث عن مسارات مختلفة للحصول على وضع قانوني يمكّنهم من البقاء والاستقرار في تركيا. فإذا كنت طالبًا أو لديك عقد عمل، يمكنك التقدم بطلب للحصول على تصريح طالب أو تصريح عمل. لكن الغالبية في البداية قدموا على الإقامة قصيرة الأمد التي عادةً ما تستخدم من قبل السياح، إذ كان المنفيون يُعدّون سياحًا بالمعنى القانوني. لاحقًا، سعى المنفيون في مسارات مختلفة مثل الإقامة الإنسانية أو الخروج من تركيا. وقد أدى هذا الغموض القانوني للمنفيين ورمادية وضعهم في ظل قوانين تركية متغيرة، إلى خلق أنماط قانونية عبثية ومعقدة، بالإضافة إلى إمكانيات متعددة، لكن كل حالة على حدا.
التجربة الجماعية والمهجر
يحاول القانون فردنة تجربة النفي واعتبار كل حالة منفردة. فمثلًا، لا يمكن تحديد عدد المنفيين في دولة ما لأنه ليس وضعًا قانونيًا يظهر في الإحصاءات الرسمية. كما أن مركزية شخصيات كعرابي وزغلول في الوعي الجمعي تعمق من تصور المنفى كحالة فردية.
لكن إذا كان من الممكن فهم المنفى على أنه نتيجة للظروف السياسية التي تدفع الناس إلى مغادرة أوطانهم، فإن هذا الوضع يؤدي إلى الفرار الجماعي أكثر من الفرار فردي. ونتيجة ذلك، سينشأ مجتمع من المنفيين، أو ما يسميه بعض من حاورتهم بـ"المهجر".
يعني المهجر، حرفيًا، مكان أو مجتمع الهجرة، كما أنه لا يشير بالضرورة إلى المنفى. لكن إيان ووكر يرى أنه يشير إلى: "الانفصال، والتخلّي، والإيحاء بانعدام الاختيار؛ ولكن، وبشكل حاسم، يشير أيضًا.. إلى موضعة مجتمع الشتات في مكان". فالمهجر ذو علاقة وثيقة بالمكان، هو المجتمع المنفي في فضاء ما.
وكان بعض من حاورتهم يستخدمون الكلمة للإشارة إلى الجالية المصرية المنفية والمقيمة في إسطنبول أو في مكان آخر. وبالتالي، يمكن أن يعني "المهجر" الشتات أيضًا، مع ارتباط واضح بالدوافع السياسية لهذا النوع من الشتات. إن الإحساس بالجماعة والجماعية واضح لدى العديد من المنفيين الذين حاورتهم، وتعكس كلمة "مهجر" هذا الإحساس، على عكس كلمة منفى التي توحي غالبًا بالوحدة والفردية.
بالنسبة لمن حاورتهم، يرتبط المهجر بالنسبة له بدلالة واضحة مع مكان مثل إسطنبول، فتصبح مكانًا مألوفًا يرتبطون به، وينشأ دفء الجماعة وقيودها في آن، ويصبح الخروج من إسطنبول غربة فوق الغربة كما عبر عنها أحدهم.
يمكننا القول إن المهجر كمجتمع المنفيين، وعلاقته الوثيقة بالمكان، يعكس تداخلًا بين السياسي والاجتماعي والشعوري. إنه محاولة الفعل الجماعي ومواصلة النشاط السياسي. وفي الوقت نفسه، هو محاولة البحث عن دفء الجماعة، عن الوطن الغائب، وعن الارتباط بمكان نألفه. إنه محاولة التغلب على الغربة والاغتراب، ومحاولة الفعالية ضد قيود المنفى وعزلته.
المنفى ما وراء المكان
يعد إدوارد سعيد أبرز من فك ارتباط المنفى بالمكان، ثم أعطاه معانٍ جديدة تتعلق بجوانبه الذاتية الشعورية والوجودية، في مقابل المعنى الموضوعي للمنفى. حتى إن عنوان مذكراته "خارج المكان" يشير إلى تجاوز المنفى للمكان والجغرافيا، ذلك أنه يتعلق هنا بالتجربة الذاتية التي قد تكون في خارج الوطن أو داخله.
تعامل العديد من الكتّاب والباحثين مع المنفى بمعناه المجازي الأوسع، وقد يكون هذا بسبب غياب الوضوح القانوني للمنفى كما أوضحت سابقًا. وبالتالي، فإن الدلالات العاطفية والنفسية تكون أكثر بروزًا، أو ربما أعمق، حيث يصبح المنفى "حالة ميتافيزيقية" تتجاوز المكان بمعناه المادي. بهذا المعنى المجازي، يمكن للشخص أن يعيش تجربة المنفى حتى في وطنه.
يبيّن أندرياس هاكل أن الفلسطينيين داخل إسرائيل يمكن اعتبارهم منفيين "لا يزالون متجذّرين في وطنٍ قريبٍ ولكن مفقود"، من خلال الوصم والإقصاء وعدم القدرة على الحركة لكونهم موضع شبهة بشكل دائم، يختبرون تأثير المنفى. "يمكن للمرء أن يكون (خارج المكان) [كما قال سعيد] من دون أن يكون بعيدًا بالضرورة، حيث (الوطن) ممنوعٌ سياسيًا وكونك مُطوَق أسفل الهرم الاجتماعي".
لكن يبقى للمكان حضور قوي من خلال الوعي بفقدانه. فالمنفى له دلالة القطيعة عكس الهجرة التي تتحمل معنى الاستمرارية واحتمالية العودة لبناء بيت أو بدء تجارة. إنها قطيعة مع مكان لم يعد من الممكن الوصول إليه. في مقابلاتي، سألت ثلاثة أشخاص عن "المنفى" وأجمع ثلاثتهم على أن المنفى كلمة ثقيلة بما تحمله من معاني القطيعة مع الوطن وتلاشي الأمل في العودة. يملك الأمل مساحة صغيرة في وعي المنفى، الأمل التغيير والأمل في العودة إلى الوطن. إنه أمل يعطى معنى للتجربة، وإن كانت تقابله ظروف سياسية متجذرة يصعب تغييرها.
هذه القطيعة اللاإرادية تجعل من الوطن والذاكرة مركزيين في حالة المنفى. فما يميز المنفي عن غيره من المهاجرين هو الوعي الدائم بأنه ليس في موطنه، إذ إن "وجهة قلب المنفي إلى مكان بعيد، بينما يشعر بأنه لا ينتمي إلى المكان الذي يعيش فيه". ومن ثم تلعب الذاكرة دورًا محوريًا، حيث يرى إدوارد سعيد في مقاله "تأملات عن المنفى"، أن: "المنفى والذاكرة يسيران معًا بحكم التعريف تقريبًا"، وهذه العلاقة تشكّل كيفية تذكّر الماضي ورؤية المستقبل. ويرى جوزيف برودسكي أن "التذكّر يلعب دورًا مفرطًا في وجود [المنفيّ]، فيطغى على واقعه ويعتم على المستقبل".
بالتعامل مع المنفى كحالة شعورية تلعب الذاكرة دورًا مهمًا فيها، يمكن توريث حالة النفي كذاكرة جماعية عبر الأجيال، فيكون أبناء المنفيين السياسيين منفيين أيضًا. فحتى إذا كانت غالبيتهم يستطيعون العودة إلى الوطن فهم لا يفعلون، وإن زاروه فهم يشعرون بالغربة وعدم الانتماء إلى هذا المكان، فيظلون "خارج المكان"، ومن ثم يظلون محتفظين بـ"حنينٍ إلى مكانٍ متخيّل"، ويتماهون كـ"أجسادٍ غريبة" في المكان الذي يعيشون فيه.
المنفى: وتسييس مفهوم الغربة
المنفى ليست كلمة دارجة على لسان الناس في حياتهم اليومية، وعادةً ما يستخدم الذين قابلتهم كلمة "الغربة" للإشارة إلى التجربة الداخلية والذاتية والفردية للمنفى. "الغربة" ذات دلالة دينية من الحديث النبوي الشريف، والتي تمتدح الحالة البرزخية/البينية التي يعيشها الإنسان الموجود مكانيًا، لكنه ملفوظ من مجتمعه أو لا ينتمي له. هي حالة التوتر الناشئة بين القرب المكان المادي، لكن مع وجود مسافة نفسية عن هذا المكان وناسه.
لاحقًا، شاعت هذه الكلمة بدلالة دينية أقل، وأصبحت مرتبطة بمشاعر الاغتراب والمعاناة الملازمة لتجربة الهجرة (عادة الهجرة الاقتصادية وفي الحالة المصرية لها خصوصية مع الهجرة للخليج). يشيع استخدام كلمة "غربة" في دول ذات غالبية مسلمة؛ فعلى سبيل المثال، تُستخدم الكلمة في إيران وتركيا وألبانيا وغيرها في سياقات الهجرة، وبذلك تتشابه دلالة الغربة مع مفهوم عبد الملك صياد "الغياب المزدوج" في دراساته عن الجزائريين في فرنسا، حيث يغيب المهاجر عن وطنه جسديًا، ويزداد بعدًا ثقافيًا ونفسيًا، بينما يبقى غريبًا في البلد الذي سافر إليها. إنه أشبه بمغادرة الوطن إلى اللامكان. الغربة هي أن تكون "خارج المكان".
في دراسته عن العمال المصريين في الدوحة، يوضح صامولي شيلكه أن الغربة "تعني الإحساس بالوجود في مكان غريب بين غرباء، منفصلًا عن الروابط العائلية والأمان في الوطن". إنها الافتقار إلى راحة المألوف، وتعمل على النقيض من "السفر" الذي يرمز إلى الاختيار الطوعي والمرغوب فيه للهجرة.
تعمل هاتان الكلمتان المتناقضتان معًا، حيث يسعى الناس إلى السفر بينما يضطرون إلى تحمل الغربة. ويوضح شيلكه أن الغربة عادة مؤقتة وليست مرتبطة بمكان معين. فعلى سبيل المثال، عبّر له بعض المصريين عن تجربتهم مع الغربة حتى في وطنهم من خلال شعورهم بالاغتراب وعدم الاعتراف بوجودهم. وترى إيمان مرسال أن الغربة أوسع من البعد عن الوطن، فقد يختبر الناس "غربة وحشية" في وطنهم. لكن يُعبّر عن الغربة كثيرًا في علاقتها بالمكان، فهي تتحقق وتتمثل من خلال مكان ما وليس الفراغ، ولذا يُعبر كثيرون عن الغربة باعتبارها مكانًا: "فينك؟ في الغربة".
لذلك، فإن الغربة تجسد المعنى المجازي للمنفى، فكلٌ من الغربة والمنفى يعبران عن الابتعاد عن الوطن (حتى لو كنت هناك جسديًا) والوعي المستمر بمثل هذا الانفصال. كلاهما يزود المثقف/الكاتب بمنظور وإلهام نقدين، فيرى سعيد أن المنفى هو الانفصال المجازي الذي يوفر للمثقف منظورًا نقديًا. هذه المسافة الناتجة بين ذات المثقف وبين المكان والوطن والجماعية تمكنه من التفكير بشكل نقدي.
وكذلك، يؤكد زيجمونت باومان عن فكرة الانفصال الفكري الذي يوفره المنفى، فيقول: "يمثل المنفى بالنسبة إلى المفكر ما يمثله الوطن بالنسبة إلى الساذج؛ ففي المنفى يكتسب انفصال [أو استقلال] الشخص المفكر عن طريقة حياته المعتادة قيمة البقاء".
وترى مرسال الشيء نفسه بالنسبة إلى الغربة، فكلا المفهومين يعملان كفضاء بيني بعيدًا عن الهويات الجماعية والجاهزة التي تقيد المثقف، ذلك أنهما - المنفى والغربة - ينطويان على حس التنقل المستمر، وأحيانًا حتى من دون وجهة. إذ يرى سعيد في "خارج المكان" أن: "المنفى هو الحياة خارج النظام المعتاد. إنها حياة بدوية، لا مركزية وغير مترابطة. لكن ما إن يعتاد المرء عليها حتى تندلع قوتها المقلقة من جديد". ويتفق وليد الخشاب مع ذلك، حيث يعتقد بأن الغربة "حركة بدوية مستمرة".
لكن ما يميز المنفى بمعناه الواسع هو وضوح الظلم السياسي في مقابل حالة الغربة الملازمة عادةً للهجرة الاقتصادية، والتي تنتج عن عوامل ظلم بنيوية مثل اللامساواة الاقتصادية والضغط الاجتماعي، ولا عجب أن حالة الهجرة الاقتصادية تفجرت في ظل انتقال مصر إلى النيوليبرالية في عهد السادات.
يخبرني صديق هاجر لأسباب اقتصادية منذ عقدين إلى إنجلترا عن سخطه على النظام السياسي والاقتصادي الذي دفع شابًا في بداية العشرين إلى الاغتراب بحثًا عن حياة عادية. هذا الوعي السياسي ليس شائعًا بين المهاجرين الاقتصاديين، الذين يرون أن الهجرة باتت من طبيعة الأمور بالنسبة لهم، ولا يسائلون أسبابها البنيوية. مناقشة مفهوم المنفى بمعناه الواسع قادر على تسييس مفهوم الغربة، فقمع النظام السياسي والظلم الاقتصادي البنيوي هما وجهان لعملة واحدة.
وهنا يجب ألا نقع في فخ الفردية والإمعان في ذاتية مشاعر المنفى والغربة، بل يجب فهم كلا المفهومين في ضوء "بُنى الشعور". فعندما يتشارك الآلاف وربما الملايين المشاعر نفسها، يجب حينها تجاوز الفردية وفهم البنى المادية وثقافة التجربة الجماعية التي تنتج مثل هذه المشاعر. ومن هنا يتم إعادة السياسة لتجربة الغربة والمشاعر التي تصاحبها والتي تتشابه مع الحالة الشعورية للمنفى.
الخاتمة
يشمل المنفى كلا الجانبين الفردي الشعوري (الغربة)، والجماعي الناتج عن ظرف موضوعي (المهجر) في تجارب الهجرة بعد الربيع العربي. بالإضافة إلى ذلك، فإن المنفى بوصفه العالم الخارجي يأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية التي تجبر الناس على الهروب، مما يسمح بتجنب حصر المفهوم في معانيه المجازية والجمالية فحسب. فالاعتماد على المعنى المجازي فقط يمكن أن يؤدي إلى نزع المفهوم من سياقه التاريخي ونزع طابعه السياسي.
وبالتالي، يجب فهم تأثيرات المنفى ومشاعر الغربة ضمن "بنى الشعور"، حيث تتفاعل العناصر الفردية والجماعية والمادية في آنٍ واحد. ويرى هاكل أن المنفى يوفّر رابطًا بين القوى السياسية الإقصائية والذاتيات المهجّرة.
التوتر الناشئ بين ثنائيات الموضوع والذات، البنية والفعالية، الظروف السياسية والمشاعر، البعدين الجماعي والفردي، مع ضبابية المفهوم القانونية؛ تجعل من المنفى مشروعًا مفتوحًا يساهم فيه المنفيون ويشكلونه بقدر ما يتشكلون به، متيحًا إمكانيات متعددة من الهزيمة والنصر، اليأس والأمل. ويخبرنا بأن تأثيرات الربيع العربي لم تنته وما تزال مفتوحة، فالقصة لم تنته بعد، وعلى رأي صديق منفي "الحدوتة متنفعش تخلص كده".