في آب/أغسطس من العام 2021، وقعت حادثة إطلاق نار جماعي في مدينة بليموث في إنجلترا، والتي اعتبرت الحادثة الأولى من نوعها منذ ما يزيد عن عقدٍ كامل، وأسفرت تلك الحادثة عن مقتل ستة أشخاص قبل أن يُقدم الشاب جاك دافيسون على قتل نفسه في النهاية، ولم تجد الشرطة دافعًا أو مبررًا لتلك الواقعة سوى أن دافيسون كان مُنضمًا إلى مجموعة على الإنترنت تُعَرِّف نفسها باعتبارها انسيلز "Incels"، أو ما يعرف باسم المُتبتلين قهريًّا (Involuntary Celibacy). هذا الرابط يجمع عددًا من مرتبكي جرائم القتل العشوائي في عدد من البلاد الناطقة بالإنجليزية مثل الولايات المتحدة وكندا، وحتى أستراليا، وكل تلك الحوادث تعود للحادثة الأولى التي تسبب بها المراهق إليوت روجر في مدينة ايسلا فيستا في كاليفورنيا في 2014. ترك روجر ما يشبه "المانفيستو" الذي يشرح فيه لماذا ارتكب تلك المذبحة. فقبل الواقعة قام برفع فيديو على اليوتيوب يقول فيه إنه سوف يقوم بفعلته تلك كي يعاقب النساء اللاتي رفضنه، وسيعاقب الرجال العاديين لأنه يحسدهم على حياتهم الجنسية المستقرة. وبذلك أصبح اليوت روجر بمثابة شهيد بالنسبة لمجموعات الإنسيل، ونموذجًا يحتذى به ويتم الدفاع عنه.
ما يميز هذه الظاهرة هو الطابع العرقي الذي اكتسبته، حيث إنها غالبًا ما جمعت ملايين الشباب البيض من الرجال، الذين رأوا في المجتمعات متعددة الثقافة وما بعد الصناعية تهديدًا لامتيازهم الأبيض كرجال، وغالبًا ما أشاروا إلى أن مصدر معاناتهم هو أن النساء البيض يخترن الرجال غير البيض مثل السود والعرب واللاجئين. وقد اندمج هذا الخطاب مع خطابات أخرى معادية للاجئين والخطابات المعادية للإجهاض أو تلك التي تهدد من "الاستبدال العظيم"، حيث يرون أن الإجهاض والزواج المختلط يقللان من الأجيال البيضاء ويستقدمان بدلًا منهم ملايين الوافدين الغرباء.
مع ذلك، فإن هذه الظاهرة لم تتوقف فقط عند حدود العالم الناطق بالإنجليزية، لكنها انتشرت في عالمنا العربي أيضًا، وأشهرها واقعة قتل فتاة المنصورة "نيرة أشرف"، والتي قتلها زميلها في الجامعة لرفضها الارتباط به رغم كل محاولاته لإجبارها على ذلك، وما يشابه ذلك من حوادث عربيًا، تم فيها الانتقام من فتيات رفضن الزواج أو الارتباط بالقاتل.
طرح كل ما سبق سؤالًا ملحًا عن كيفية التعامل مع مثل هذه المجموعات من الشباب وأفكارهم؟ ففي العام 2020، أصدرت الحكومة الكندية أحكامًا بالإرهاب ضد شاب في السابعة عشر من عمره، لقيامه بطعن سيدتين ما تسبب في وفاة إحداهما، ما جعل أجهزة الأمن الكندية توسع قاعدتها التعريفية لمصطلح "الإرهاب" كي تشمل ظاهرة العزوبية الإجبارية إلى جانب التطرف السياسي والديني.
لكن من هم الإنسيلز حقًا؟ متى بدأت هذه المجموعات الشبابية نشاطها؟ ولماذا تنشط على الإنترنت تحديدًا؟ وما هي الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي ولدت تلك المجموعات التي تتبنى وجهة نظر عدوانية تجاه النساء حصرًا؟ هل يمكن علاج المشكلة بمجرد النصائح أو التوعية الثقافية؟
الحبة الحمراء أم السوداء؟
بمجرد تَتبُّع مصطلح العزوبية القهرية "Involuntary Celibacy" حتى تظهر لنا عشرات، بل ومئات المجموعات الإلكترونية في أغلب منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما حرض الباحثين بعد وقوع عدد من الجرائم؛ للبحث عن المصدر الأول لتلك المجموعات، وفي النهاية وجدوا ضالتهم في موقع الكتروني من العام 1997 تحت اسم "Alana’s Involuntary Celibacy Project". وفي هذا الموقع تحكي الطالبة الجامعية ألانا، الصعوبات والإحباطات التي تواجهها في مسيرة بحثها عن شريك الحياة، ومع الوقت وجدت ألانا أنها تتشارك هذه التجربة الحزينة مع مجموعات من الأفراد الذين يشعرون بالأزمة نفسها، ليتحول الموقع إلى مجموعة دعم نفسية، يتشارك أعضاؤه الحكايات والأفكار والنظريات، على رغم اختلافاتهم العمرية والجندرية وتوجهاتهم الجنسية. في نهاية المطاف تتحسن حياة ألانا العاطفية فتترك موقعها الإلكتروني وتنسحب من المجموعة التي تشكلت حوله، لكن بعد حادثة إليوت روجر، تعود فتجد أن المجموعة أصبحت للرجال والمراهقين فقط، وتسيطر عليهم نظرة معاداة للنساء، وحالة من الإحباط والغضب موجهة تجاه كل ما يمثل النساء في المجتمع.
في بداية الألفية، وتحديدًا منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، أخذت مجموعات الإنسيل بالانتشار والتداخل مع مجموعات تُحسب على اليمين السياسي، وتتشارك كلها في العداء للنساء وللحركات النسوية واليسار، بينما تقترب أكثر من التيارات البيضاء المحافظة والمسيحية، وتتشارك كل هذه المجموعات في عدد من الأفكار، أهمها البنية الهرمية للمجتمع وموقعهم داخله.
تتمحور أيديولوجية الإنسيل حول فكرة "التنظيم الهرمي للمجتمع"، فهذا التنظيم الهرمي هو ما يحدد سوق العلاقات العاطفية والعرض والطلب الجنسي، فعلى قمة هذا الهرم تتواجد الفئة الأهم في المجتمع، الرجال والنساء الأكثر جاذبية، الذين يمتلكون كل المقومات لفرض معايير الذكورة والأنوثة على المجتمع، فيُلقب الرجل الألفا Alpha male بلقب تشادChad/ بينما تُلقب المرأة بلقب ستيسي Stacy، فبالنسبة لمجموعات الإنسيل؛ فالذكورة والأنوثة هي أبنية اجتماعية Social Constructions يحددها من على قمة الهرم، وفي منتصف هذا الهرم الاجتماعي يأتي الرجال والنساء العاديين "Normies"، وفي القاع يوجد الرجال الإنسيل، المنبوذون من كل فئات المجتمع، والذين يناصبون العداء لكل الفئات الأعلى رجالًا ونساءً.
يريد المحرومون من الجنس أن يصبوا جام غضبهم وحقدهم على نساء الفئة الأولى على قمة الهرم، فبالنسبة لهم، هذه الفئة من النساء سطحية وأنانية ومتلاعبة، وهن من يفرضن معيار قبول أو رفض الذكر بالنسبة لباقي النساء، واللواتي يتمنين أن يصبحن مثلهن، فجزء من البنية الاجتماعية التي تتعلمها الفتاة في صغرها، هو أن عليها أن تختار الذكر، وعملية الاختيار تلك تأتي لتصب في صالح المرأة، فالاختيار يقع على الذكر سواء غنيًا أو ذا مكانة اجتماعية مرموقة أو لديه جاذبية ذكورية من نوعٍ ما، خصوصًا في مجتمعات تعتمد على المظهر والشكل الخارجي أولًا. وفي حال عدم توافر الذكر المثالي، فالنساء يمكنهم أن يقنعن برجال أقل جاذبية، لكن هؤلاء الرجال أيضًا لن يكونوا معدومي المميزات، لكنهم ربما يكونوا أثرياء وعجائز مثلًا، ويرى الإنسيلز أن النساء في حالة دائمة من السعي لتحقيق الثالوث المقدس (المال، الجنس، القوة)، ولذلك لا يمكن الثقة في النساء مهما حدث، لأنهن في أقرب فرصة سوف يتخلين عن الرجال العاديين، ويتسلقن السلم الاجتماعي.
مع ذلك، فإن هؤلاء الرجال لا يرفضون الهرمية الاجتماعية بحد ذاتها. كما تشير Amia Srinivasan's في كتابها "The Right to Sex" فإن هؤلاء الرجال لا يرفضون تمامًا الهرمية الي يعترضون عليها، حيث إنهم غالبًا ما يطالبون بحقهم في ممارسة الجنس مع النساء اللواتي تصنفهن هذه الهرمية على أنهن المطلوبات أكثر. وبالتالي فإن المطالبة لا تتعلق بعدالة اجتماعية مثلًا، ولكن بفرض منطق الاستحقاق الذي يشعرون به كرجال بيض، يعتقدون أن من حقهم "الحصول" على "النساء الأجمل".
وأمام هذه المعضلة يقترح المحرومون من الجنس عددًا من المقترحات، في البداية كانت مقترحات المجموعات تتراوح بين إجبار النساء أو ابتزازهن على القبول بهم، وصولًا إلى ضرورة تأسيس مجتمع هرمي جديد مثلما كانت المجتمعات المحلية التي عاش بها الأجيال الأقدم، حيث يتزوج الشاب قريبته أو ابنة الجار مثلًا، لكن الحلول مع الوقت أخذت بالتشدد تدريجيًا، حتى ظهرت ما تعرف باسم الحبة الحمراء والحبة السوداء.
تقتبس مجموعات الإنسيلز من فيلم The Matrix لشرح نظرتها للحلول الجديدة الأكثر راديكالية، ففي مشهد بالفيلم يقدم مورفيوس لنيو (البطل) إمكانية الاختيار بين حبتين، فإذا اختار الحبة الزرقاء فإنه سوف يستيقظ مرة أخرى داخل الماتريكس جاهلًا بالحقيقة، أما إن اختار الحبة الحمراء فإنه سوف يستيقظ على فظاعات العالم الواقعي، وهنا يعتقد الإنسيلز أنهم قد اختاروا أن يأخذوا الحبة الحمراء، وتحديدًا من بعد رؤيتهم لطريقة عمل العالم الاجتماعي وكيف تتحكم فيه النساء على قمة هذا العالم، فهذه الرؤية يمكنها أن تعطيهم الأسباب الكافية لقلب حظوظهم في هذا العالم، والعمل على تحسين صورتهم البدنية ومستواهم الاجتماعي كي يتم قبولهم تبعًا لتلك القواعد.
بمرور السنوات وزيادة الضغوط الاجتماعية واشتداد المنافسة، ظهرت حلول جديدة أو ما يعرف باسم "الحبة السوداء"، فإن كانت الحبة الحمراء تدفع الإنسيل كي يجتهد في ضوء القواعد الاجتماعية من ثم يتم ترقيته وقبوله، فإن الحبة السوداء أكثر عدمية، وهي عبارة عن الإيمان بأن الهرم الاجتماعي لن يتغير، وأن الإنسيلز لن يترقوا داخله أبدًا، لأنه بالأصل هرم ولا بد له من قاعدة، لذلك بدلًا من العمل وفق القواعد الاجتماعية كما الحلول القديمة، فلماذا لا ندمر تلك القواعد وهذا الهرم الاجتماعي أصلًا؟ ولعل تلك الأيدولوجية وهذا الحل هما أكبر مبرر لتصاعد حالات العنف والقتل الموجهة ضد النساء في السنوات الأخيرة.
اختفاء الرجال والأزمة المستقبلية
لا يوجد تحديد واضح لمن يمكن أن يكون إنسيل، لكن الأكيد أنهم جميعًا يشتركون في شعورهم بأن المجتمع تركهم وهمشهم، بلا تعليم جيد ولا خبرة عملية ولا ثروة، لذلك لا يملكون أي وسيلة لبناء حياة عاطفية وأسرية مستقرة كما فعل آبائهم، وبعيدًا عن الثقافة وأيديولوجية تلك المجموعات، وجب علينا أن نسأل عن ماهية العطب الذي أصاب المجتمعات وتسبب في هذا الخلل؟
تتساءل الصحفية والكاتبة كريستين ايمبا في كتابها "إعادة التفكير في الجنس"، هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن الأزمات المحدقة بالرجال؟ لكن كيف؟ كيف يمكن أن يكون الرجال في أزمة؛ بينما 45 رئيسًا هم كل رؤساء الولايات المتحدة من الرجال، وخارج السياسة يمكننا أن نلاحظ الحضور الذكوري القوي في مجالات الصناعات المالية مثلاً، ففي شركات S&P500 نجد مديرين من الذكور أكثر بأضعاف المرات من النساء، إذن فأين المشكلة؟
تقول كريستن أن الغالبية العظمى من الرجال ليسوا في مناصب سياسية أو اقتصادية عليا، وإنما يؤثر عليهم اليوم ثلاث أزمات متداخلة، أولها سوق العمل، فالعصر الحالي أصبح يلقب بـ"العصر ما بعد الصناعي"، حيث تولت العولمة عملية تفكيك ونقل المصانع والشركات خارج مجتمعاتها التقليدية التي لطالما اعتمد عليها منذ الثورة الصناعية وحتى الآن، هذا التغيُّر أدى لاختفاء الوظائف التقليدية التي لطالما عمل بها الرجال، وهو ما تبينه أحدث دراسات مكتب العمل الأمريكي، حيث يتجه الرجال من عمر 25 إلي 34 عامًا للانسحاب من سوق العمل، أو ما يسمى اليوم بـ"Quiet Quitting" أو الانسحاب الهادئ، حيث يميل الشخص لتوفير طاقته وعدم استنزافها في أعمال هو يشعر بتفاهتها أو عدم جدواها على المدى البعيد، ويقرر استغلالها في مجال لآخر.
والأزمة الثانية التي تلاحظها كريستن هي "التعليم"، فخلال العقود الأخيرة انخفضت معدلات حصول الرجال على شهادات جامعية بالمقارنة بالنساء، أي أن العقود القادمة سوف تشهد نساءً أكثر تعليمًا، وأرقى في الموقع الطبقي من الرجال مقارنة بآخر مائة عام على الأقل.
هذه المشاكل (سوق العمل، التعليم) تتضافر في النهاية لخلق واقع اجتماعي مضطرب، ترتبك فيه أدوار الرجل التقليدية مع المرأة، فالنساء اليوم أصبحن يحصلن على رواتب مقاربة للرجال في بعض الحالات، ما يجعلهن أكثر حرصًا على بناء حياة عملية جادة وعيش حياة مرفهة وعدم القبول بمشروع بناء عائلة في أقرب فرصة كما في الماضي.
الأزمات الاقتصادية والتضخم وانخفاض الرواتب، أو دورات الركود التكرارية التي تؤدي إلى إقالة العمال كما حدث بسبب جائحة كورونا؛ تجتمع هذه الأسباب الطارئة مع الأسباب الحديثة كما شرحت كريستين ايمبا؛ على حمل الرجال للانسحاب من المجتمع تدريجيًا، والانعزال والتواصل إلكترونيًا، أو الاستغراق مع ألعاب الفيديو الجماعية من أجل تحقيق أي نصر ولو مؤقت.
هذه هي المعضلات الاجتماعية التي تدفع رجال مازالوا متعلقين بشروط اجتماعية قديمة أن يرفضوا وينسحبوا من المجتمع المعاصر بكل ما يحمله من تغيرات تطال حتى العلاقات العاطفية، وما إن يجتمعوا معًا حتى يبدأوا في لوم النساء، الحلقة الأضعف في المجتمع، دون أن يوجهوا غضبهم الحقيقي على من تسبب في حصولهم على تعليم منخفض نتيجة ارتفاع القروض الدراسية وانخفاض ميزانية المدارس الحكومية، أو يصبوا غضبهم على مديري الأعمال والسياسيين الذين قرروا نقل الصناعات للخارج تفاديًا لدفع مرتبات مرتفعة وأن يواجهوا بمطالب عمالية تخصم نسبة من أرباحهم.
أندرو تيت ليس الحل
يبحث الشباب اليوم عن من يتحدث بلغتهم، يفهم غضبهم وحنقهم، ويشير إلى المشكلة حتى يمكنهم أن يتفاعلوا معها، لذلك يجد الشباب ضالتهم في المشاهير والمؤثرين مثل أندرو تيت، جو روجان، جوردن بيترسون، فهؤلاء المؤثرين يصنعون خطابًا مناسبًا لهذه الفئة من الشباب، خطابًا يمتلئ بالتعاطف ورغبة الاحتواء وتقديم حلول، ورغم أن حلولهم قد تكون معقولة أحيانًا، لأنها تأتي في اتجاه العناية بالذات وضرورة بناء مستقبل وحياة اجتماعية، لكنها تأتي على هيئة نصائح أخلاقية وصراعات ثقافية، فبالنسبة لهم تقف الذكورة على طرف النقيض من الأنوثة، وأن سبب أزمة الشباب الإنسيلز هم النسويات وتدخلاتهم المستمرة في المجتمع، لذلك تتراوح منتهى تلك الحلول في ضرورة معاقبة النساء، أو العنف تجاههن أو حرمانهن من كل ما يدعونه حقوقًا لهن مثل الإجهاض، الحرية الجنسية.. إلخ.
ومن هنا علينا أن نقول بأن هؤلاء المشاهير لا يملكون حلاً ولا طريقة أو فلسفة للحياة يمكن للفئات الأضعف اجتماعيًا أن يحسنوا من مواقعهم إذا اتبعوها، لأن المعضلة بالأحرى اقتصادية وسياسية واجتماعية، تحتاج شكلًا من أشكال النضال والتنظيم الجماعي والممارسة السياسية الواعية لمصالح هذه الشباب أيًا كانت مواقعهم، سواء كانوا طلابًا أو عمالًا مؤقتين، عندها فقط يمكننا أن نتجاوز الأزمة، ولا تصبح مجرد حوادث إرهاب موجها ضد النساء يتم التعامل معها فقط بشكل أمني، وإنما أزمة سياسية يحتاج هذا الجيل من مواجهتها بشكل فعال قبل أن تتوحش.