اختلال توازن الرعب بين إيران وإسرائيل

الرد صفر.. اختلال توازن الرعب بين إيران وإسرائيل

31 أكتوبر 2024

سال ويسيل الكثير من الحبر حول مشاهد الضربات الإسرائيلية – الإيرانية، منذ قصف القنصلية في دمشق وصولًا إلى ليلة السادس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2024، ومعها حُزم رهيبة من التحليلات العسكرية والسياسية للمتخصصين وغير المتخصصين. 

ولأن عملية "الرد"، أيًا كان طرفُها، تستغرق وقتًا حتى تُترجم على الأرض، يحمل بعض الناس معهم ما دفنوه في صدورهم قبل تنفيذ العملية، فيطلقوه سريعًا وفق انحيازات مسبقة تتمنى الحدث ولا تقرأه. ويُمكن رصد وسائل إعلام رسمية، وشخصيات سياسية وأمنية وصحفية، وهي تعلن تفسيراتها قبل أن يزول غبار العملية العسكرية هنا أو هناك.

في الحدث الأخير، وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة عراقية حكومية إعلانًا عن "ضربة غير مؤثرة" تعرضت لها إيران. وكتب وزير في الحكومة العراقية منشورًا يصف الضربة بـ"غير المؤلمة". وهكذا نشر مراسل شهير يتابعه الملايين، ورئيس جهاز أمني سابق شهير، وبرلمانيين، وغيرهم. 

صدرت هذه التعليقات بعد دقائق من الغارة الإسرائيلية الأولى على إيران، قبل أن تعقبها موجتان - أو موجة على الأقل، باختلاف الروايات – من القصف ولمدة 4 ساعات. حَكَم "الرسميون" هؤلاء على الحدث وحللوه وفككوه وسبروا أغواره وما وراء ستاره، بما لم تفعله مراكز دراسات ضخمة حتى بعد مرور 48 ساعة على انتهاء الضربة. بل قالوا في دقائق ما لم يقله المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي بعد أكثر من يوم على انتهاء العملية، حين رفض "التقليل أو التضخيم من العملية"، أو ما دعا له أحد الفصائل المسلحة في العراق من "ترك تقييم الضربة للفنيين".

في مثل هذه الأجواء من الخفّة والإعلام التعبوي غير المتزن، يجدر التأكيد على تسمية الأشياء بمسمياتها فحسب، وتثبيت المفاهيم والمصطلحات، وإعادة سرد الأخبار كما هي، لأن الحدث ذاته يتعرض للتشويه بفعل الكم الكبير من الحمولة التحليلية التي لا ينفك عنها الرسميون ووسائل الإعلام، ولا حرج على الناس. وقد كتبنا عن ذلك في عملية "الوعد الصادق" الأولى في نيسان/أبريل الماضي، والتي كانت عنوانًا يختصر الحدث قبل تفاصيله: "إيران تقصف إسرائيل بعد 40 عامًا"، لأن الحدث التاريخي، وآثاره الحقيقية ضاعت في الجدال والنقاشات التي يُطلق عليها "المناكفات".

أما الزاوية التي نريد لفت النظر إليها الآن، ليست أيضًا حجم الضربة التي تلقتها إيران مؤخرًا وآثارها العسكرية العينية، بل أبعادها الجيوسياسية في موازين القوى، انطلاقًا من ماهية اصطلاح "الرد" الذي بات من المسلّمات في الأدبيات المستخدمة من قبل السياسيين، الحكومات، العسكريين، ووسائل الإعلام. فلقرابة شهر، كانت عبارة "الرد الإسرائيلي" قيد النقاش الأبرز في كل الأروقة المذكورة.

تصبح العبارات المتداولة، خصوصًا إذا استخدمها طرفا الصراع أو الأطراف كافة، عبارات واقعية، وإن كانت غير منطقية في قياسات معينة أو معتادة. ونتيجة ذلك، حتى لا نكابر على الواقع، ينبغي إما إعادة النظر بالقياس المستخدم وتعديله، أو خلق قياس جديد منبثق من واقع جديد.

الآن، على ماذا ردت/ترد إسرائيل؟ الجواب السريع: على الهجوم الإيراني.

لكن السؤال المفتاح، المفقود باستغراب حتى في أوساط المحور الإيراني: لماذا هاجمت إيران بالأساس؟ إن الغرض من السؤال ترتيب "مكعبات الميكانو" في مكانها، لا الخوض في جدل الرد والرد على الرد إلى ما لا نهاية.

 

المسّ بشرف إيران.. وبعد

أواخر تموز/يوليو الماضي، وفي ظرف ساعات، نفذت إسرائيل غارة على "عاصمة حزب الله" كما تسمى، الضاحية الجنوبية في بيروت، وقتلت أبرز قادة الحزب، فؤاد شكر - وهو هجوم كبير وخرق واضح لقواعد الاشتباك السارية مع الحزب منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وينبغي قراءته في سياقه آنذاك – ومعه ميلاد بيدي، المستشار العسكري الإيراني. وضربت بعد ساعات موقعًا لفصائل مسلحة في العراق، قتلت فيه رفقة عراقيين ضابطًا حوثيًا برتبة عميد أيضًا. ثم نُسب لإسرائيل فورًا هجوم نوعي توّج باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في موقع محصن تابع للحرس الثوري الإيراني في قلب إيران.

"تم المس بشرف إيران"؛ هكذا وصف الأمين العام السابق لحزب الله، الراحل حسن نصر الله، الضربة المزدوجة التي اغتالت فيها إسرائيل القائد السياسي الأبرز للمقاومة الفلسطينية المقربة لإيران، وفي حضن إيران. ومنذ تلك الليلة بدأ العالم يتحدث عن "الرد الإيراني"، وهي عبارة مفهومة وسليمة منطقيًا: هناك عمل إسرائيلي مكثّف ومتعدد وخارق للقواعد، وردّ إيراني منتظر على ذلك الخرق. فعلٌ وردُ فعلٍ. رسالةٌ وجواب.

في أثناء انتظار الرد الإيراني الذي تأخّر نسبيًا، ساد حديث عن مساومات مع دول غربية لإيجاد صفقة في غزة تنهي الحرب، ما ستعتبره إيران جائزة مقنعة مقابل التغاضي عن الرد. وبسياق اليوم، كان وقف إطلاق النار سيمثّل صفقة مناسبة لإيران بعنوان: التغاضي عن دماء هنية مقابل وقف القتل في غزة وإعطاء "حماس" فرصة لالتقاط الأنفاس. وما يعطي حديث المساومات المسرّب في الصحافة مصداقيةً اعترافُ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بتلقي وعود أميركية وأوروبية بوقف إطلاق النار مقابل عدم الرد على اغتيال هنية، وقد وصفها في آخر المطاف بالأكاذيب.

نُسيت عمليات إسرائيل في الضاحية وبابل وطهران، واستمرار الحرب على غزة، وبدأ الاحتلال بتحشيد جيشه على الحدود الجنوبية للبنان، وبضغطتي زر فجّر أجهزة البيجر واللاسلكي مستهدفًا الآلاف من عناصر وكوادر "حزب الله" وعائلاتهم. وما زال العالم ينتظر الرد الإيراني على الحدث الأول.

وفي غضون أسبوع، شنت إسرائيل هجومًا جويًا عنيفًا غير مسبوق على الضاحية الجنوبية لبيروت، اغتالت فيه أغلب قيادات حزب الله، وعلى رأسهم نصر الله، الحليف الأبرز والأقوى لإيران في المنطقة، ونائب قائد الحرس الثوري الإيراني، مسؤول ملف لبنان في فيلق القدس، العميد عباس نيلفروشان. وبدأت هجومًا بريًا على الجنوب اللبناني صباح 1 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

 

استخدام القوة غير التصعيدية 

بعد كل هذه الأحداث المركبة التي كان الفاعل فيها إسرائيل، في حين كان متلقي الضربات هو إيران وحلفاؤها، قررت طهران تنفيذ الرد عبر ضربة صاروخية نفذتها مساء 1 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، واستهدفت مواقع عسكرية إسرائيلية. والسؤال المفترض بعد كل هذه العواصف: الرد الإيراني على ماذا بالضبط؟ أجاب الحرس الثوري: ردًا على اغتيال هنية ونصر الله ونيلفروشان. ضربة واحدة مقابل حزمة ضربات قاصمة.

لقد كان الرد الإيراني على كل العربدة الإسرائيلية منذ نهاية تموز/يوليو حتى مطلع تشرين الأول/أكتوبر مؤشرًا على اختلال التوازن بين الطرفين على مستوى النقاط والخسائر المادية والبشرية والاستراتيجية، وفرصة جديدة للاحتلال لناحية رص الصفوف في الداخل، وتعزيز الدعم الخارجي، وإكمال مهامه في غزة ولبنان، لكن إسرائيل لم تكتفِ بذلك.

جاء الرد الإيراني باستخدام صواريخ متطورة، أو ما تسمى ترجمةً "فرط صوتية" يُمكنها قطع المسافات بين إيران والأراضي المحتلة بما لا يتجاوز الربع ساعة، مخترقةً أنظمة الدفاع الجوي المختلفة. لم يكن الرد مسرحيةً كما يحلو للبعض تسميته، بل كان دقيقًا في رسالته: لدينا صواريخ وبإمكاننا أن نضرب، ونخترق المنظومات، ونستهدف أماكن دقيقة إلى حدٍ ما. ووصلت الرسالة لكن بلا قتلى في الجانب الإسرائيلي. ويمكن اعتبار تلك العملية رسالة قوية غير تصعيدية، أي تلوّح بالقوة الحازمة دون تطبيقها كاملةً، لمنع التصعيد وزيادة احتمالات الحرب المفتوحة.

هذا الرد وفق قواعد الاشتباك القديمة، أو بعبارة أدق: المنطق القديم الذي نعرفه في المنطقة، رد بإمكان استيعابه. ردٌ لا يستدعي "ردًا" إسرائيليًا بميزان النقاط، وكان يُفترض بإسرائيل، وفق المنطق السائد، أن تمتص الضربة، خصوصًا مع عدم وقوع قتلى إسرائيليين، واعتبارها رسالة تحذير بعدم التدافع على حافة الهاوية. لكن الحالة الذهنية لنتنياهو وحكومته، والدعم غير المحدود من الإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، أطلقته لتهويل ما سيصطلح عليه "الرد الإسرائيلي" على الرد الإيراني.

في غضون 25 يومًا، استخدمت وسائل الإعلام المصطلحات والعبارات السائدة من بينها "الرد الإسرائيلي" نقلًا عن المتحدثين من المعلقين وأصحاب الشأن. ومع وصول منظومة "ثاد" الأميركية إلى إسرائيل زاد اللبس والتناقض داخل المنطق: ماذا يعني الرد الإسرائيلي وهل من مبرر لهذا التحشيد العسكري والإعلامي؟ واللافت أن هذا السؤال لا تطرحه إيران ذاتها، وهو أمر مثير للاستغراب؛ فماذا على المعلقين السياسيين أن يقولوا؟ وكيف لوسائل الإعلام التي تنقل تصريحات الجهات ذات العلاقة كما هي من باب الموضوعية والأمانة أن تفعل عكس ذلك؟

نعيد تكرار السؤال الآن، بعد الضربة، ليس لإصرار على وجهة نظر تتنافر مع الواقع، بل لتشذيب الصورة التي تتشكل من الأحداث عبر هذا السؤال لتثبّت حقيقة جديدة يخلقها الواقع بمعطياته التي خرجت من الأرض.

 

رسالة بالمثل.. وليلة الاختبار

رفعت حكومة نتنياهو المنتشية بانتصاراتها الأخيرة واستعادة ثقة بعض مستوطنيها راية الحرب عالية. أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في الأثناء عقد مباحثات مع الدول السبع الكبرى لتنسيق "الرد الدولي على الهجوم الإيراني ضد إسرائيل"، بالإضافة إلى "فرض عقوبات جديدة عليها".

ومرة أخرى لا أحد يسأل: ردٌ على ماذا؟

بالغت حكومة نتنياهو في تصريحاتها وتهديداتها ومفرداتها حتى رفعت سقف التوقعات إلى حدٍ كبيرٍ، وتأخّرت الضربة نسبيًا، ففاجئ "ردُها" جمهور حلفاء إيران والمتحمسين لضربها على حدٍ سواء، في 26 تشرين الأول/أكتوبر.

يتحدث متخصصون، من بينهم مفتش أسلحة سابق في الأمم المتحدة، عن استهداف إسرائيل منشآتٍ لخلط الوقود الصلب للصواريخ ذات الصناعة المعقدة والاستيراد الصعب والتكلفة الكبيرة، وتدمير أنظمة دفاع جوي من بينها إس – 300 الحامية لمصافي النفط والغاز في بعض المناطق، ومنشأة مهجورة في "بارشين" ارتبطت في السابق ببرنامج للأسلحة النووية الإيراني.

وبعيدًا عن تقييم حجم الأضرار والخسائر المترتبة على هذه الهجمات، المتروك للمعنيين والمتخصصين، حملت الضربة الإسرائيلية رسالةً من جنس الرسالة الإيرانية السابقة، بحدة مختلفة، عبر تسيير، كما ما تقول، 100 طائرة من "حدود إسرائيل" حتى الحدود الإيرانية، متخذة من أجواء دولتين تُصنفان ضمن محور المقاومة مسرحًا للعملية العسكرية: من تحليق وانتشار وإرضاع جوي وتنفيذ ومن ثم العودة للقواعد.

بلا عدد كبير من القتلى، ولا صورة دمار، على غرار ميناء الحديدة مثلًا، ونوعية صور النصر التي يعشقها نتنياهو، أنهت إسرائيل هجماتها، وتركت لإيران حق الاحتفاظ والتحفظ على حجم الخسائر، كما فعلت هي في الهجوم الإيراني، وفرضت الرقابة العسكرية على الحدث ودعت مستوطنيها بشكل رسمي وعلني لعدم تصوير أماكن القصف، الأمر الذي حفّز على عودة الروايات السطحية حول "مسرحية"، رواتُها لا يشعر العالم بوجودهم.

كانت ليلة السبت ليلة اختبار كبير لسلاح الجو الإسرائيلي مقابل الدفاع الجوي الإيراني: كيف ستقطع الطائرات الحربية والمسيرة تلك المسافات، كيف ستتزود بالوقود، كيف تناور وتنفذ المهام وتعود. في المقابل، كيف تتعامل الدفاعات الجوية الإيرانية مع هذا الأمر؟ وهو الاختبار الأهم في الجانب الآخر، وإلى أي مدى تستطيع إيران حماية أراضيها وأجوائها من سلاح الجو الإسرائيلي، الذي على الرغم من أنه مهم في دولة الاحتلال، إلا أنه يزداد أهمية في هذه المواجهة نظرًا لبُعد المسافة بين حدود الدولتين، وعدم قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات برية ولو بالوكالة كما تستطيع إيران، وبالتالي فوصول سلاح الجو إلى إيران (الذراع الطويلة) هو الأهم الآن وفي المستقبل القريب.

 

بين حروب الصحراء والصورة

انطلاقًا من تصورٍ لمعركة تجري في إحدى صحاري العرب، بالسيوف والأسلحة البيضاء والخيول والاشتباك المباشر، ومن وعيٍ مقهور اعتاد على رؤية المجازر وسقوط الضحايا في كل حرب ومعركة، جلس المشاهدون في منطقتنا العربية ينتظرون صور القتلى بالمئات أو الآلاف بينهم أطفال ونساء ومبانٍ منهارة وحرائق مستعرة، في طهران صبيحة السبت، وفي تل أبيب مساء الأول من تشرين الأول/أكتوبر، كما اعتدنا أن نشاهد في غزة ولبنان، وقبلها في العراق وسوريا وغيرها.

وفي الواقع، لا يُقرأ هذا النوع من الضربات بين "دول" ذات قدرة قوية في السلاح، ورغبة ضعيفة في المواجهة، بما تسببه من خسائر بالأرواح. وقد حدثت مفارقة في مرتين تختصر لعبة المشاهد والأرقام: لم تقتل الصواريخُ الإيرانية أيَ إسرائيلي في الهجوم مطلع الشهر وفق ما أعلنته السلطات الإسرائيلية. لكن، وبينما كانت الصواريخ الإيرانية متجهة إلى إسرائيل، تمكن فلسطينيان وبسلاح "إم 16"، من قتل 7 إسرائيليين وإصابة 12 آخرين على الأقل، بعملية طعن وإطلاق نار في تل أبيب داخل محطة قطار شمال يافا.

وبنفس السياق، وبعد أن انتهت الضربة الإسرائيلية، أعلنت إيران عن مقتل جنديين ثم ارتفع العدد إلى أربعة جنود، وهو عدد محدود، بينما تعرضت قوات حرس الحدود الإيرانية في اليوم ذاته إلى هجوم مسلح في مدينة تفتان بمحافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرق إيران، أدى إلى مقتل 10 جنود إيرانيين. وفي الحالتين، لم تتجه الأنظار إلى الحادثتين الكبيرتين رغم عدد القتلى، لأنها متجهة بالفعل إلى الحدث الأبرز، الذي يحمل مقاييس خاصة بالدول والحروب، ومن شأنه أن يغير معادلات بين أقوياء ويقلب موازين عسكرية وسياسية، على غير عمليتي يافا وسيستان.

لا جدال حول أهمية الصورة إطلاقًا، لكن يجدر الانتباه لما هو خلف ذلك. إن الحديث، وأحيانًا خيبة الأمل خصوصًا في وسائل الإعلام العربية المتحمسة لانتصار إسرائيل، عن غياب الصورة المبهرة في الهجوم على إيران، وكذلك "إيجاد مخرج محترم لإيران لكي لا ترد"؛ ينبغي أن يؤشر، أيضًا، إلى أن إيران دولة تبعث على القلق، وبالتالي التركيز على تعامل الولايات المتحدة مع هذا القلق.

الآن، إن كان الردُ ليس قويًا بمفاهيم وتصورات الجمهور المتفرج في منطقتنا العربية (وهو تقدير بصالح إيران)، وليس ردًا بالأساس وفق مفهوم النقاط والسيادة والقوانين الدولية، بل مبادرة أو تمادٍ أو اعتداء إن شئت (وهو تقدير بصالح إسرائيل)، فماذا نسمي ذلك بالنتيجة؟ 

 

اختلال توازن الرعب

إن عمليةَ تغييرٍ لما يسمى بـ"قواعد الاشتباك" انطلقت بالفعل. وأقول بشكل أدق إن توازن الرعب تزعزع، ولم تعد أسئلة مثل ماذا ستفعل إيران وماذا تخبئ إسرائيل أسئلةً غامضة تحمل رعبًا متأتيًا من عدم اليقين، بل حُذف سؤال هنا وسؤال هناك على وقع الضربات التي أضحت مباشرة. وفي سياق هذه التغيرات، دخلت الولايات المتحدة الأميركية على الخط لتثبيت التفوق الإسرائيلي الدفاعي بلحاظ: أن تتفوق في الدفاع عن نفسها بعدما تُهاجِم. 

دائمًا ما تتعلق القضية بتفوق إسرائيل في الشرق الأوسط، في النظرة الاستراتيجية الأميركية الثابتة التي لا تخضع لاختلافات الحزبين، وفي نظرة نتنياهو نفسه للمنطقة بتخيلاته السينمائية وتصوراته الواقعية معًا. 

لقد أضافت الولايات المتحدة منظومة "ثاد" إلى زحمة منظومات تمتلكها إسرائيل أصلًا: القبة الحديدية، ومقلاع داوود، ومنظومة السهم (Arrow System) بأجيالها الثلاث (والرابع في الطريق) وغيرها. وقد يُفهم بديهيًا من وصول المنظومة الدفاعية الأميركية الجديدة إلى دولة الاحتلال بعد القصف الإيراني والاستعداد الإسرائيلي لـ"الرد"، أن المنظومات الإسرائيلية المحلية المختلفة ومنها المطورة أميركيًا لم تحقق نجاحًا مطمئنًا يثبت معادلة التفوق المنشودة.

 من وجهة نظر إسرائيلية، يجب ألا تتكرر صورة الصواريخ المنهمرة على إسرائيل قاطعةً كل المسافة من إيران وصولًا إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، تلتقطها فرحًا كاميرات الراصدين على ضفتي النهر، والبحر، مرة أخرى.

ومن زاوية الاستراتيجية الأميركية، تُشكل عملية 1 تشرين الأول/أكتوبر تهديدًا إيرانيًا آنيًا للحليف الأكبر في الشرق الأوسط، واستراتيجيًا على صعيد التحالفات في المنطقة والعالم، لناحية عصا قدرات الردع وجزرة "الحماية الأميركية"، بما في ذلك ما يتعلق بدول الخليج العربي. لذا، وصلت المنظومة النادرة ومعها 100 جندي إلى الساحة، منمِطةً الاشتباك الجوي مع إسرائيل اشتباكًا مباشرًا مع أميركيين، لا سلاحًا أميركيًا فحسب.

 

الرد مشروع.. الاعتداء مجروع

رُميت الكرة الآن في ملعب إيران، إذا ما اعتبرت الهجوم "ردًا" في المنطق الجديد، والرد مشروع على أية حال، أم اعتداءً، كما في منطق الدول الطبيعي. فإذا كانت إسرائيل تحتج بعملية طوفان الأقصى في شن الحرب على قطاع غزة، وفتح جبهة حزب الله في شن الحرب على لبنان، بعنوان "الدفاع عن النفس"، فإنها مع إيران بالذات كانت هي المبادرة في كل مرة. هي من تبدأ بالهجوم، وترد على الرد وتختم جولة تبادل الضربات بنتيجة 2 – 1 بلغة كرة القدم. وهذا ما حدث بعد هجوم المسيرات في نيسان/أبريل رغم إحباطه، عندما شنت إسرائيل هجومًا غير معلن، قابله صمتٌ إيراني ابتلع الضربة وأغلق الجولة، قبل المبادرة مرة أخرى باغتيال إسماعيل هنية بعد ثلاثة أشهر.

القاعدة المُراد الوصول لها في المنطق الجديد بعد تخلخل توازن الرعب، إن إسرائيل تضرب وتقصف وتقتل من تريد وفي المكان الذي تريد بالذات خارج إيران، ولا يحق للأخيرة بوصفها قائد المحور أن تدافع عن حلفائها، وإلا فإسرائيل سترد، وهي معادلة غير صفرية، أي لا تقبل المساواة بين الطرفين من جهة، ولا تسمح نظرية الصبر الاستراتيجي أن تحقق أهدافها البعيدة من جهة أخرى، فالقاعدة الجديدة تريد نزع الصفة عن محور إيران وتحويل مبدأ وحدة الساحات إلى مجرد تضامن تحت عسكري.

وتبقى الأسئلة التي ترسم المعادلة القادمة مطروحة على الأرض وللوقت: هل ستقول إيران شيئًا آخر في الأيام القادمة يكسر التوازن المستجَد الذي يُراد فرضه؟ هل ستثبّت معادلة أنها سترد على كل ضربة إسرائيلية بالمثل؟ أم أن إسرائيل ستستغل الدعم الغربي لتصعيد جديد على غرار ما حدث في تموز/يوليو 2024؟

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

جنود من الدروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي

كيف نفهم خدمة الدروز والبدو في الجيش الإسرائيلي؟

انخرط الدروز والبدو الفلسطينيين في جيش دولة الاحتلال بسبب سياساتها الاستعمارية القائمة على تقسيم المجتمع الفلسطيني، واستغلال حاجة الأقليات/الجماعات الصغيرة للأمان والبقاء

هبة حمارشة

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني