"اعتقدت أن قدري هو أن أظلّ بدويًا. لكن الله قرر خلاف ذلك".
في عيد ميلاده الأربعين، يوم 4 نيسان/أبريل الفائت، وداخل قصر توماي؛ نظم الرئيس التشادي (كان حينها رئيسًا انتقاليًا)، الجنرال محمد إدريس ديبي، حفلًا لإطلاق كتابه الذي صدر بمناسبة بلوغه الـ40 عامًا وقضائه ثلاث سنوات كرئيس انتقالي للبلاد. ولم يكن الحفل كغيره من الحفلات التي يعرفها الكتّاب، إذ صدر الكتاب الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية لديبي قبل أقل من 40 يومًا على انتخابات رئاسية فاز بها.
في كلمته التي ألقاها أمام مجموعة من الكتّاب ورجال السياسة، قال ديبي: "سعيد بانضمامي إلى قائمة الكتّاب التشاديين. كتبت هذا الكتاب لكي يعرف التشاديين من هو محمد إدريس، ولكي أتحدث عن مراحل مهمة مرت بها بلادنا وكنت شاهدًا ومشاركًا، وأيضًا لوضع حد للقيل والقال حول أمور جرت في السنوات الأخيرة".
جاء الكتاب في 169 صفحة موزعة على 6 فصول حملت العناوين التالية: "من بدوي إلى جندي"، و"مسيرتي العسكرية"، و"سنواتي في رئاسة الإدارة العامة للخدمات الأمنية ومؤسسات الدولة DGSSIE"، و"تحديات الفترة الانتقالية"، و"ساعة الحساب"، و"رؤيتي لمستقبل تشاد".
طفولة في شمال كانم
ولد محمد إدريس في مدينة أنجمينا في 4 نيسان/أبريل 1984، وكان والده حينها جنديًا برتبة عالية في الحرس الرئاسي للرئيس التشادي آنذاك حسين حبري. وبسبب ذلك، ذهبت به والدته إلى قريتها في شمال كانم، حيث تركته مع جدته وأخواله حتى وصل سن السابعة وهو لا يعرف سوى لغته الأم، اللغة القرعانية/التباوية.
تحدث ديبي في الفصل الأول من الكتاب عن هذه الطفولة العادية لبدوي يعيش مع أخواله في قرية صغيرة ولم يقابل والده حتى الرابعة، ثم البقاء مع أخواله للعمل كراع للجمال يقضي سحابة نهاره بين القرية والبئر.
وقد وصف اللقاء الأول مع والده، والانطباع الذي تركه له هذا الجندي الطويل وإعجابه به، بقوله: "كانت مفاجأة هائلة بالنسبة لي؛ ذلك اللقاء الذي جمعني بأبي. وطوال الأيام السابقة من لقائنا، كانت جدتي قد هيّأت نفسي لهذه اللحظة. أخبرتني أثناء سفرنا أننا سنراه في ذلك اليوم. هي رحلة ظلت واحدة من أولى ذكريات الطفولة. بقيتُ أحسبُ الأيام التي سبقت هذا اللقاء مع ذلك الأب الذي لم أكن أعرف عنه شيئًا سوى أنه عسكري. أعتقد أننا لا نفرّق حقًا بين جندي أو جنرال ونحن في عمر أربع سنوات. كل ما يهمّني أنه أبي".
وأضاف ديبي: "في يوم اللقاء. كنّا برفقة أحد أبناء الأخوال. وحين رأيت أبي.. كم كان كبيرًا.. كم كان مثيرًا للإعجاب. لقد تحدثنا مع أبي بلهجة القرعان، إذ كان يتقن الحديث جيدًا بهذه اللهجة. ومن جانبي أيضًا كنتُ لا أتحدث إلا بلغة الأم، هي لهجتنا في القرية نحن البدو الصغار. لقد أعطاني أبي بعض الهدايا التي لا أتذكرها، بينما كان اللقاء به والتّعرف عليه أعظم هديةً حصلتُ عليها".
ويستمر في الحديث عن طفولته، فيشير إلى أنه قادر قريته في السابعة من عمره، العمر الذي يلتحق فيه الأطفال بالمدارس، ميممًا وجهه شطر العاصمة أنجمينا للدراسة والبقاء قرب والده الذي أصبح رئيسًا للجمهورية.
في أنجمينا سوف تتغير حياته وسيدرك معنى أن يكون ابنًا لرئيس البلاد (أصبح والده إدريس ديبي رئيسًا عام 1990). لكن ديبي الذي يُعرف أيضًا باسم "محمد كاكا" يصر على أنه بدوي ويفتخر بذلك، لأنه قضى سنواته السبع الأولى في قرية صغيرة يرعى 30 جملًا يعتبرها ثروة كبيرة ولا يعرف ماذا يوجد خارج قريته ولم يعرف ما هي المدرسة. وفي ليلة التوقيع على كتابه، أعلن أمام الجميع أنه فخور بلقبه" كاكا" التي تعني "جدة" في الدارجة التشادية، وهو اللقب الذي استعمله خصومه للسخرية من المكانة التي وصل إليها "ابن الجدة".
ديبي الذي يصف نفسه بـ"البدوي"، والذي لم يكن يجيد سوى لغة القرعان، صار يدرس في أرقى مدرسة في العاصمة، وهي ابتدائية "لا مونتانج" الفرنسية التي يلتحق بها أبناء الرؤساء والدبلوماسيين الأجانب. وفي العاصمة، يعيش الرئيس مع جدته لأبيه ويصبح مرة ثانية "محمد كاكا" أو "محمد ابن الجدة"، وهو لقب لم يفارقه حتى بعد وصوله إلى رئاسة تشاد.
الالتحاق بالجيش والصراع على قلب الوالد المارشال
في الفصول الثلاثة التي أتت بعد الفصل الأول، يتحدث الرئيس التشادي عن التحاقه بالجيش وفوزه بثقة والده ليصبح رئيسًا لأكبر فرقة عسكرية في البلاد، قبل أن تبتلعه صراعات القصر.
قبل ذلك، ذهب ديبي إلى فرنسا حيث درس العلوم العسكرية لسنتين، قبل أن يتعلّم على أسلحة معينة في كل من أوكرانيا وفرنسا ثم يعود ليلتحق بالقوات المسلحة، ويتسلق الرتب العسكرية وكأنها سلالم خشبية.
في شباط/فبراير من العام 2008 دخلت المعارضة التشادية إلى أنجمينا ووصلت حتى مشارف القصر الرئاسي. عند هذه اللحظة، كان محمد هو الذي لازم والده من بين جميع أبنائه، وتكرر هذا الأمر في معارك 2009 في شرق تشاد عقب انسحاب المعارضة إلى الحدود السودانية التي أتت منها.
ومع الوقت، نال الرئيس التشادي الحالي، والعسكري السابق، إعجاب الجنود ثم تمكّن، خلال عدة سنوات، من نيل إعجاب العديد من جنرالات الجيش. وفي كانون الثاني/يناير 2013، اختير في منصب نائب المسؤول العام للقوات التشادية المتجهة إلى جمهورية مالي لمحاربة "الإرهاب"، حيث قضى هناك أكثر من سنة كانت كافية ليعرّف الناس به.
وفور عودته من هذه المعارك، تم اختياره في أهم منصب عسكري في البلاد، حيث أصبح رئيسًا للإدارة العامة للخدمات الأمنية ومؤسسات الدولة "DGSSIE"، وهي صلب القوات التشادية لأنها الأكثر تسلحًا وقربًا من الرئيس ويمكن اعتبارها الحرس الرئاسي؛ وهي لحظة شكلت بداية الصراع على "القصر" مع اقترابه من السلطة.
في عام 2005، تزوج الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي من فتاة تدعى هندة عبد الرحيم أصيل التي جاءت تبحث عن وظيفة مهمة على اعتبار أن خالتها هي زوجة شقيق الرئيس، وقد طلبت الفتاة مقابلة الرئيس من أجل أن تقدم له ملفها، لكنه قرر التقدم لها، بل وجعلها: "زوجته وصارت المرأة الأولى وسيدة القصر".
وبحسب رواية الرئيس التشادي الحالي، فإنه مع وصول هندة عبد الرحيم التي أصبحت هندة ديبي، بدأت الصراعات داخل القصر زاعمًا أنها سعت إلى خلق المشاكل بين الأب وأبنائه وتقريب عائلتها من دوائر الحكم، ونجحت في ذلك إلى حد كبير. وقال في كتابه إن الرئيس التشادي حينها قال له: "أنت تعدّ انقلابًا ضدّي"، في إشارة إلى صراع بين الأب والابن.
وسط هذه الصراعات عادت المعارضة إلى الواجهة بقوة، وكذلك المعارك العسكرية، خاصة منذ بدايات 2020. وكعادته، يلتحق محمد كاكا بوالده الذي سيموت في نيسان/أبريل 2021 في شمال كانم حيث ولد هو. وذكر محمد أنه عندما رأت السيدة الأولى جثة زوجها، اقترحت عليه: "أن يدّعي أن والده قتل في انقلاب ولم يمت في المعركة"، الأمر الذي فسر باعتباره: "توتر النساء، ومؤامرة تحبكها لتخلق صراعًا بين أبناء إدريس".
وبعد توليه رئاسة تشاد لفترة انتقالية، تمكن محمد ديبي من "تخويف بعض أخوته"، وجلب بعضهم الآخر للعمل تحت ولايته، بينما دفع بالسيدة الأولى السابقة إلى خارج القصر حتى اضطرت إلى مغادرة البلاد نحو فرنسا، ولحق بها شقيقها الذي كان ينافس محمد كاكا أمام والده.
كما كتب الرئيس التشادي أيضًا عن أولئك "الذين تخلوا عني" على حد تعبيره، وهم وزير الخارجية السابق شريف محمد زين الذين ووصفه بـ"المغرور"، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي الذي اتهمه "بتشويه سمعة المجلس العسكري من أجل طموحاته الشخصية"، أمّا أبكر منّاني المستشار في الشؤون الخارجية، فقد وصفه بـ"الراغب في السلطة".
وما سبق هو رواية من وجهة نظر الرئيس التشادي الحالي حول أحداث كثيرة وقعت في الأعوام الماضية بدأت بوفاة إدريس ديبي وصولًا إلى اختياره رئيسًا للفترة الانتقالية. وقد قال إنه اختير من قبل "الرفاق"، وكتب فقرة تحت عنوان "لم أكن مستعدًا لأصبح رئيسًا" جاء فيها: "مات أبي. الجنود اتفقوا على أن أكون رئيسًا للمجلس العسكري. لم أرغب في المنصب لكني قبلته لأن البلاد كانت في خطر، وتواجه حربًا أهلية. غادرت القصر مع قريبي وصديقي منذ أيام الطفولة، إدريس يوسف بوي الذي شاركني كل الحروب والمعارك. اتجهت إلى مكتبي رغم محاولات الحرس الرئاسي منعي مغادرة الرئاسة. أصبحت وحيدًا في مكتبي، اسْتخرتُ لأتأكد ما إذا كُتب لي هذا المنصب. الاستخارة أتتْ لي بالراحة، حصلتُ على راحة بال، نمت قليلًا، بينما نام يوسف بيني وبين الباب. صباحًا وصل الحرّاس بسيارات الرئاسة وأخذوني إلى القصر. بعد ساعة تم إعلان وفاة مارشال تشاد. وهكذا أصبحت الرئيس".
السودان.. حياد أم انحياز؟
عقب اندلاع الحرب في السودان في نيسان/أبريل 2023، اتهم الجيش السوداني الحكومة التشادية بالوقوف في صفّ قوات الدعم السريع والسماح للإمارات ببناء مطار عسكري في مدنية أم جرس لدعم قوات حميدتي.
وتحدّث محمد ديبي عن هذه الأزمة قائلًا إنه مصدوم من هذه الاتهامات، مذكّرًا السودانيين بأن بلادهم استضافت في عام 1966 أول ثورة تشادية، في إشارة إلى "الجبهة الوطنية للتحرير" (فرولينا). ومنذ ذلك الوقت، لم: "توقف السودان إيواء المتمردين وإرسالهم للحرب في أنجمينا".
وقال "لم تستضف تشاد ولا ثورة سودانية واحدة رغم وجود بضع حركات". مضيفًا أنه: "من منظوري، السودان يجني الآن ثمار أفعاله السابقة. من سلّح الجنجويد؟ ومن يتحمل المسؤولية عن فقدان أرواح أكثر من ثلاثمائة ألف سوداني في دارفور؟ هذه الميليشيات تأسست تحت إدارة عمر البشير، بدور رئيسي لعبه عبد الفتاح البرهان. وبالمثل، قوات الدعم السريع، من كان وراء تأسيسها؟ البرهان نفسه هو من أقنع البشير بضرورة تشكيلها كبديل للجنجويد، في قرار رُسم بقانون وُقع عليه بيد البشير نفسه. وهكذا، الصراع القائم الآن بين قوات الدعم السريع والبرهان ليس إلا نتاج خياراتهما. سياستنا القائمة على استضافة الجنود السودانيين الهاربين من الصراع، حيث استقبلنا أكثر من ألفي فرد وأعدناهم بالطائرة، تعكس بوضوح موقفنا الحيادي".
فرنسا بحاجتنا
من المعروف أن فرنسا هي أقرب حلفاء الرئيس التشادي الجديد، إلا أن الثورات التي تشهدها الدول الإفريقية ضد الوجود الفرنسي في القارة وارتفاع أصوات "البان أفريكان" وسيطرتهم على مقاليد الحكم في بعض الدول جعلت الرئيس التشادي يكتب بطريقة تدل على أنه لا يعتمد كثيرًا على فرنسا.
ونفى ديبي مشاركة القوات الفرنسية في معركة أنجمينا في شباط/فبراير 2008، بل ذهب للقول إن الفرنسيين تواصلوا مع "المتمردين من أجل إعداد مجلس عسكري انتقالي". ثم أكد أهمية العلاقة مع فرنسا معبرًا عن حاجتها إلى تشاد وتأكيد حاجة بلاده إلى المستثمرين الفرنسيين. وكتب عن هذه العلاقة المعقدة: "نرى أن الافتراض بأن وجود القوات الفرنسية يهدف إلى حماية نظام معين هو أمر سخيف. فالمصالح المتبادلة بين فرنسا وتشاد تشكل أساس علاقاتنا. وقد أكدت مغادرة القوات الفرنسية لعدة دول أفريقية في الشهور الأخيرة موقفنا: فرنسا بحاجة إلينا. نحن بحاجة إلى المستثمرين الفرنسيين ومن جميع أنحاء العالم لاستكشاف فرص الاستثمار في تشاد. بلدنا يحتوي على ثروات ولكنه يفتقر إلى رؤوس أموال لاستغلالها وتسويقها".
الخاتمة
استقبل التشاديون الكتاب بنوع من السخرية، ولم يصدقوا على الأغلب بأن الرئيس التشادي هو الذي كتبه، واعتبره كثيرون غير مفيد، ومحصلته "شخص ينشر أسرار من عملوا معه".
ويعتقد البعض بأن الكتاب محاولة لـ"تصفية حسابات وخصومات احتفظ بها الرئيس الشاب لفترة طويلة"، مع الإشارة إلى أن الكتاب جاء ضمن الدعاية لانتخابات 6 أيار/مايو الفائت التي حسمها لصالحه. ولا يبتعد هذا التقدير كثيرًا عن مضمون الكتاب الذي خُصص الفصل الأخير منه لرؤية ديبي، إذ جاء بعنوان "رؤيتي لمستقبل تشاد"، وتحدث فيه عن "الأمن، والحرية، والعدل، والمساواة، وبرنامجه في الزراعة، وخططته لتحسين التعليم والصحة، ووعود انتخابية عديدة".
صدر الكتاب قبل الانتخابات الرئاسية التي فاز بها محمد إدريس ليقود البلاد لمدة خمس سنوات مقبلة في ظل أوضاع أمنية مقلقة، فالمرحلة الانتقالية عرفت الكثير من الانفلات الأمني وقمع المظاهرات، خاصةً أحداث 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023 التي مات فيها أكثر من 100 متظاهر بحسب أرقام حكومية، مع تحديات أخرى داخل القصر.
وذلك عدا عن تداعيات مقتل المعارض ورئيس الحزب الاشتراكي يحيى ديلو واتهام الرئيس التشادي بقتل المعارض الذي ينتمي إلى قبيلته، وصولًا إلى اعتقال عمه صالي ديبي، مع وجود مجموعات متمردة على الحدود مع ليبيا ممثلةً بجبهة التغيير والوفاق في تشاد، وأيضًا القلق من "المتمرد" السابق محمد نور عبد الكريم الذي سبق أن دخل أنجمينا بقواته في نيسان/أبريل 2006، مع تواجده حاليًا في السودان، وذلك بسبب خلافات مع الحكومة الانتقالية، ومن المتوقع أن يحصل على دعم من الجيش السوداني الذي يعتبر الحكومة التشادية حكومة معادية.