يحاول زيجمونت باومان في كتابه "Wasted Lives: Modernity and its outcasts" (الحيوات المهدورة: الحداثة ومنبوذوها)، فهم كيفية تعامل المؤسسات والدول والأفراد داخل منظومة الحداثة مع ملف الهجرة والمهاجرين. وعلى الرغم من أن باومان لا يضع المهاجرين في مركز التحليل، إلا أنه يحاول فهمهم ضمن المنظومة الأكبر: الحداثة.
وعند تعمقنا في الكتاب، نلاحظ فرادة طرح باومان من الناحية السوسيولوجية والفلسفية والسياساتية أيضًا. بمعنى أنه يعود دائمًا إلى نقاط الانطلاق الأولى ومنطق وأصل الفكرة على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول، لكنه لا يهمل المستوى العملي المتعلق بالفعل نفسه. وبعبارة أخرى، يمكننا القول إن الكاتب قدم طرحًا رصينًا على المستوى الإبستمولوجي لما يمكن أن تعنيه الهجرة في السياق الأوروبي والعالمي.
يتألف الكتاب من أربعة فصول؛ يناقش الفصل الأول ثنائية إمكانية بناء وهدم النظامين العالمي والمحلي، ويتعمق الفصل الثاني في سؤال أثر المهاجرين واللاجئين على الاقتصادات المحلية، ويتناول الثالث إمكانيات الدول في التعامل مع ملف المهاجرين، ومقاومة آثار العولمة. أما الفصل الرابع، والأخير، فيبحث فيه الكاتب في ما يسميه "ثقافة الهدر/الضياع" (Culture of Waste). وسنحاول فيما يلي التعمق في أفكار الكتاب من خلال تناولنا للمنطلقات النظرية، والحجج الرئيسية، وأهم الأفكار التي وردت في الفصول الأربعة، ثم نختم بمقولة توليفية لكامل الكتاب.
نقطة انطلاق الكتاب
ينطلق الكتاب من خلال بعض الأسئلة التي تطرح منذ عدة عقود، والمتعلقة بالحداثة وتأثيراتها على مجالات الاقتصاد والقانون والسياسة والثقافة، وتأتي الهجرة بين هذه المجالات بوصفها مسألة عابرة للتخصصات (interdisciplinary)، أي أنها تعمل على كل تلك المستويات الكبيرة (macro،)، بما يعني أنها تؤثر وتتأثر بالاقتصاد والقانون والسياسة والثقافة. ويحاول باومان التعمق في أسئلة ماهية الحداثة وهدفها ومشكلاتها، وما إذا كانت مشكلات فنية أو غير ذلك، ولماذا هي مشكلة في المقام الأول.
وطوال ذلك الطريق، يحاول ضمنيًا فهم كيف يرى المواطن الأصلي أو الداخلي مشكلة الحداثة، وكيف يشكل قصته عنها. ويوضح في مقدمة كتابه أن الحياة المعاصرة تنتج وتعيد إنتاج ثقافة تمتاز بأنها استهلاكية وسائلة وفردية، والأهم من كل ذلك أنها تنتج نفايات/مهدرات (waste) وتحاول التخلص منها في الوقت نفسه. وللتوضيح، فإن ما يقصده بالنفايات/المهدرات: علاقات بشرية ميتة وغير صالحة تحاول الإنتاج لكنها تستهلك دائمًا بدلًا من ذلك.
إضافةً إلى ما سبق، يزعم باومان بأن الداخلي (insider) سيرى بأن هدف الحداثة هو إنتاج المزيد من الأشياء الجديدة لتحل مكان الأشياء الأقل استخدامًا، أو الأقل فائدة، حتى ولو كانت تلك الأشياء الجديدة "نفايات". أما بالنسبة لوجهة نظر المسافر أو الغريب، كما يطلق عليه باومان، سيرى بأن هدف الحداثة يتمثل في إنتاج أشياء غير مجدية لفترة، ثم يتم إلقاؤها والتخلص منها على الفور لإفساح المجال للأشياء الجديدة.
الحجة الرئيسية للكتاب
يزعم زيجمونت باومان، بشكل رئيسي، بأن التاريخ الحديث لعب دورًا حاسمًا في إلقاء النفايات البشرية أو البشر المهدرين (human waste)، بأحجام متزايدة في العالم (ص 12). ويرى أن إنتاج النفايات البشرية أو البشر الضائعين (الزائدين عن الحاجة، والذين لم يسمح لهم بالبقاء)، هو نتيجة حتمية للتحديث وبناء النظام القانوني والتقدم الاقتصادي.
ومن هنا ينطلق باومان إلى فرضيته الرئيسية بخصوص مشكلة الهجرة، إذ يجادل بأن الدول المتقدمة والحديثة والأكثر إنتاجًا، والمستضيفة للهجرات من الدول الأقل تقدمًا، ترى أن المهاجرين القادمين إليها نتيجة الزيادات السكانية في بلدانهم الأصلية، بمثابة بشر فائضين أو زائدين عن الحاجة. ولذلك يجب التخلص منهم بوصفهم خطرًا على الحداثة. وكلما زادت تدفقات الهجرة، زادت حاجة الدول لمكبات تدفع إليها البشر الفائضين عن الحاجة، أي طرق لتقليص عدد المهاجرين المقيمين على أراضي تلك الدول (ص 12).
وهنا قد يلوح في الأفق السؤال التالي: ما هي المعادلة المعقدة التي أدت إلى ظهور مشكلة الهجرة من وجهة نظر باومان؟ أو لماذا يهاجر الناس إلى الدول المتقدمة في السياق المعاصر من وجهة نظره؟
أولاً، يرى باومان أن الانتشار العالمي لنمط الحياة الحديث في بلدان عوضًا عن أخرى، أدى إلى رغبة بعض البشر ممن لم يجدوا وسائل ملائمة للبقاء، بالمعنى البيولوجي والاجتماعي والثقافي، في الهجرة من أجل البقاء.
ثانيًا، أدت الضغوطات السكانية وما أنتجه الاستعمار القديم من هشاشة بنيوية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع إلى تقليص الفرص في بعض البلدان، ما أدى إلى بحث الدول عن منافذ لحل تلك المشكلات تمثلت في "التخلص الآمن" من الفائض السكاني، أي استخدامهم للتهجير أو الهجرة كاستراتيجية لحل مشكلاتها الداخلية (ص 12 – 14).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكاتب يزعم بأن "المخاوف الأمنية" و"الغموض" و"عدم اليقين" وتخبط معادلة صراعات السلطة والصراع الهوياتي، كانت ولا تزال أهم ما تنتجه مشكلة المهاجرين وطالبي اللجوء. كما أشار إلى أن المخاوف الأمنية تخطت القلق الاقتصادي والاجتماعي حتى وصلت إلى الخوف الفردي من المهاجرين.
وبعبارة أخرى، بدأ السكان الأصليون والمحليون يتصورون المهاجرين بوصفهم خطرًا على سلامتهم الشخصية وليس فقط كمؤثرات سلبية على الاقتصاد والمجتمع. كما أدت تلك المشكلة التي حدثت بشكل سريع على مدى عقود من الزمن، بدايةً من منتصف القرن العشرين وحتى الآن، إلى تبني الدول لاستراتيجيات غير منظمة وغير منضبطة، خصوصًا في ما يخص عملية التحكم في تبعات العولمة التي هي أهم مصدّر للهجرة. وبهذا، وبالعودة إلى مشكل الحداثة المتعلق بـ"النفايات البشرية"، يجادل باومان بأن الصناعة الأمنية أصبحت سببًا رئيسيًآ لإنتاج النفايات/المهدرات البشرية، وعامل أساسي في التخلص منها (ص 14).
وبلغة أكثر سلاسة، يرى الفيلسوف البولندي أن العامل الأمني سبب ونتيجة لمشكلة الهجرة في الوقت نفسه، أي أن المهاجرين يعبرون الحدود بسبب تعرضهم لمشكلات أمنية تهدد وجودهم في بلدانهم الأصلية، كما أنهم يواجهون المشكلة نفسها عندما يغتربون في بلد آخر، وخصوصًا عندما لا يملكون القدرة على الإنتاج الكافي الذي هو الشرط الأهم للبقاء في إطار البلدان الحديثة.
ويحاول باومان، طيلة فصول الكتاب الأربعة، التعمق أكثر في فكرة النفايات أو الهدر والغموض والتناقض الذي تنتجه الحداثة، وكيفية تقاطع تلك السمات مع ملف الهجرة واللجوء، أي كيف يتأثر بها ويؤثر عليها.
الحداثة والهجرة: بين النظام والفوضى
يتناول باومان في الفصل الأول فكرتي "النظام" و"الفوضى" بوصفهما عناصر رئيسية ولازمة الوجود في الحياة المعاصرة. ففي حين أنه يرى بأن النظام: "تلك الحالة التي يكون فيها كل شيء في مكانه الصحيح ليؤدي وظيفته بشكل جيد"، فإن الفوضى هي: "التغيير الدائم للنظام، والحالة التي لا يوجد فيها شيء ما في مكانه الصحيح، كما أنه لا يؤدي وظيفته المناسبة" (ص 35). وبهذا، فإن الكاتب يوضح بأن الفاصل بين النظام والفوضى هو: "تسكين الأشياء والأفراد في المكان المناسب للقيام بالوظيفة المناسبة".
ويزعم باومان بأن الدولة القومية الحديثة هي المتحكم في إنتاج وإعادة إنتاج النظام من أجل التخلص من النفايات البشرية (البشر غير المفيدين من وجهة نظر الدولة). ولكن ذلك لا يتحقق أبدًا من وجهة نظره، إذ تتأرجح المجتمعات المحلية دائمًا بين النظام والفوضى، والقانون والخروج عنه، والدمج والاستبعاد، والإنتاج المفيد والإنتاج غير المفيد الأشبه بالنفايات. ويجادل بأن الدولة القومية الحديثة في أوروبا لم تستطع، خلال عقود من الزمن، التمييز بين المهاجر أو اللاجئ الذي يتناسب مع شكل النظام والآخر الذي يؤدي إلى الفوضى. ويوضح بدوره بأن بعض المهاجرين لا يتناسبون مع شكل نظام الدولة ولا يمكن دمجهم فيه، عدا عن أنهم لا يملكون القدرة على القيام بالوظائف التي تتناسب مع النظام. ما يعني أنهم، من وجهة نظر دولانية، "مهدرات بشرية" أي ضياع للنظام ومصدر للفوضى (ص 34).
ويوضح الكاتب رأيه بخصوص مسألة مدى إمكانية اتفاق المهاجر وابن البلد على نظام واحد، إذ يقول: "لا يمكن أن يتفق الجميع على نظام واحد، فما يمكن أن يتفق عليه خمسة، لا يمكن أن يتفق عليه السادس". ومن هنا يظهر سؤال قديم/جديد لم يجد له أحد جوابًا حتى الآن: هل المهاجرين واللاجئين الذين يهاجرون إلى الشمال العالمي مصدر للنظام أو ضياع له؟
ضرورة أن يأتي الكثيرون منهم، أم أنهم مضيعة للتقدم الاقتصادي؟
يحاول باومان في هذا الفصل التعمق في سؤال مدى فائدة الزيادة السكانية المهاجرة في البلدان المستقبلة للمهاجرين من عدمها. كما أنه يتساءل عما إذا كان للمهاجرين القادمين إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية القدرة على تعزيز التقدم الاقتصادي في تلك البلدان. وهنا يناقش الكاتب نظرية روبرت مالتوس عن السكان، التي مفادها أن الزيادة السكانية تعد بمثابة مصدر أزمة اقتصادية للدول، لأن الزيادة السكانية لا تتناسب مع حجم الموارد (ص 39 – 40). وانطلاقًا من تلك المقولة النظرية، يمكننا القول إن الأزمة السكانية تشكل سببًا للهجرة من البلدان المرسلة، ونتيجة لها في البلدان المستقبلة.
ويرى باومان بأن الزيادة السكانية يمكن فهمها بوصفها معضلة (dilemma)، فهي تمثل قوة بشرية صناعية وعسكرية واقتصادية. لكنها تمثل، في الوقت نفسه، خطرًا يتمثل في أن زيادة عدد اللاجئين في البلدان الأوروبية، مثلًا، يمكن أن يعني الحاجة إلى موارد أكثر من أجل تسكين وإطعام هؤلاء المهاجرين، كما أن زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين سيؤدي إلى مزيد من القلق الشعبي. وبالتالي، فإن مفهوم "الزيادة السكانية" يعبر عن "تناقض" واضح عناصره: القوة والقلق (ص 39 – 46). ويجادل باومان بأنه، ومن منظور أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، فإن المهاجرين واللاجئين وخصوصًا العمال منهم، يشكلون فرصة لاقتصادات الدول لأنهم، أولًا، يوفرون عمالة رخيصة. وثانيًا، يقومون بالمهام الخطرة والقذرة، ما يعني أن وجود المهاجرين واللاجئين في العقود الأخيرة من المفترض ألا يمثل خطرًا بقدر ما هو فائدة، خاصةً أن تلك الدول ترى بأنه على شخص ما القيام بالأمور القذرة، أي العامل القادم من جنوب أميركا أو شرق أوروبا أو أفريقيا (ص 59 – 63).
ولكن هذا يضعنا أمام نوعيات أخرى من التناقض. أولًا، محاولة إحداث توازن بين السيطرة على الحدود أمام المهاجرين واللاجئين من ناحية، ومحاولة الوصول إلى عمالة رخيصة من ناحية أخرى. وثانيًا، العمل على قبول كل العمالة والقوة البشرية المعروضة من أجل التقدم الاقتصادي وإنتاج المزيد من جانب، والحاجة إلى إرضاء المشاعر المعادية للمهاجرين من جانب آخر. وهنا يظهر سؤال: كيف يمكن أن تنفتح الدول على الإنتاج وتنغلق على الناس، أي كيف ترغب في إنتاج كميات هائلة من البضائع بسعر رخيص، لكنها في الوقت نفسه تدعم حملات إغلاق الحدود والخطاب العنصري ضد المهاجر أو اللاجئ (ص 63 – 64).
المهاجر موضوعًا للصراع ما بين الدولة والنظام الدولي
ينتقل باومان بعد ذلك إلى بحث موقع (positionality) المهاجرين واللاجئين معًا في كل من النظام الدولي والدولة القومية الحديثة، من خلال فحص كيفية عمل النظام الدولي والدولة وتصور كل منهما للمهاجرين واللاجئين. ويجادل بأنه ثمة صراع بين الداخلي الدولاني والخارجي العالمي على إمكانيات التحكم والسيطرة على المهاجر واللاجئ. ومن منظور الدولة، فإن اللاجئين والمهاجرين هم بمثابة مهدرات/نفايات العولمة (waste of globalization)، أي أن النظام العالمي استخدم بعض الدول كمكبات أو ملاجئ ووجهات للاجئين والمهاجرين.
ويشبّه باومان الدولة بالأخ الأكبر الذي يحاول مراقبة حركة المهاجرين حول العالم وعلى الحدود الوطنية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية على وجه التحديد، من أجل التحكم في وظائفهم/ن الظاهرة المتمثلة في عبور الحدود ودورهم في الاقتصاد المحلي، والكامنة التي تتجسد في الجريمة داخل أحياء المهاجرين وعمليات تهريب المواد غير الشرعية (ص 67 – 73).
ويتلخص زعم الفيلسوف البولندي في هذا الفصل بخصوص فعالية الدولة والنظام العالمي أو المعولم بأنه ليس بمقدور أي منهما العمل على الحد من حركة المهاجرين واللاجئين والسيطرة عليهم، وهذا لعدة أسباب: أولًا، لأن القوانين التي تفرضها المنظمات العالمية ليست ملزمة، وإنما خاضعة لموازين القوى العالمية. وثانيًا، لأن للمهاجرين واللاجئين وسائل وأساليب كامنة لا تمتلك للدول قدرة على مراقبتها. وبهذا، تظهر مشكلة "عدم اليقين"، أي الانفتاح على جميع الخيارات في ما يتعلق بمسألة التعامل مع ملف المهاجرين واللاجئين التي، من وجهة نظر الكاتب، هي من المنتجات الأساسية للعولمة (ص 67 – 69).
وبالإضافة إلى ذلك، يحاجج باومان بأنه وبمجرد دخول اللاجئ أو المهاجر إلى إحدى الدول الأوروبية، فإنه يصبح هدفًا واضحًا، لأن تلك الدول تتصورهم بوصفهم "ضياعًا لانتصار الحداثة"، وكمصدر لانتشار ضوضاء الحرب وروائح المنازل المدمرة والمدن المحروقة. وبالتالي، تعمل النخب المحلية على نشر المخاوف والقلق من الأجانب الذين كانوا بعيدين، لكنهم أصبحوا الآن قريبين إلى أبعد الحدود (ص 68 – 73).
ثقافة الضياع: الهجرة والضياع الحتمي في عالم غامض
يتعمق باومان في الفصل الرابع والأخير في المصطلح الذي أطلق عليه "ثقافة الضياع/الهدر" (culture of waste) وعلاقته بالمهاجرين واللاجئين. ويوضح بأن ثقافة الهدر/الضياع تعني الموت الحتمي للأشياء والأفراد وقصر الزمن، ما يعطي لكل يوم معنى. كما أن الهدر/الضياع مرتبط بشكل رئيسي بمفهوم "اللانهاية"، أي عدم ثبات الأشياء في نقطة ما، وعدم وجود نهاية لأي شيء، وعدم القدرة على توقع أي شيء يحدث في هذا العالم بما فيها مسألة المهاجرين واللاجئين.
ومن هنا يزعم باومان بأن الأشياء المفيدة التي تقوم بها الدول اليوم، والتي ترى بأنه لا غنى عنها، هي حتمًا نفايات الغد. فمثلًا، تعامل دولة ما مع ملف اللاجئين اليوم سيختلف غدًا، لأنه بحسبه لا يوجد التزام يدوم طويلًا بما لا يتيح الفرصة للعودة إلى نقطة البداية، حتى إن اللاجئ أو المهاجر المنتج الموجود اليوم لن يتواجد غدًا، أي سيتم الاستغناء عنه، وهذا لأنه بحسب الكاتب فإنه يولد كل شيء مع شرط إرفاقه بعلامة الموت الحتمي (ص 98 – 102).
ويرى الكاتب أنه ثمة تناقض في هذا العالم اللامتناهي، والذي يتمثل في أنه بالرغم من عدم إمكانية الدول على تحديد تصورات واستراتيجيات واضحة للتعامل مع ملف الهجرة واللجوء والخوف الدائم من الغرباء، بسبب اختفاء مبدأ الثبات والوضوح واليقين، لأن وجود المهاجر أو اللاجئ نفسه هو أحد علامات "عدم اليقين" و"التناقض المستمر"؛ إلا أنه ثمة صلابة محاولات ضبط دائمة لتنظيم هذا الملف داخليًا أو محليًا وعالميًا ومحاولات للاستفادة من الغرباء قدر الإمكان (ص 99 – 117).
وفي نهاية الكتاب، يوضح باومان كيف تحاول الأجهزة والمؤسسات المحلية لدول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية توزيع المهام داخليًا من أجل التعامل مع ملف اللاجئين والمهاجرين في السياق المعاصر، إذ يقول إن للدولة أجهزة بيروقراطية تنظم هذا الملف على مستويات مختلفة، ويسمى الجهاز الأول بـ"الأخ الكبير القديم"، وهو الجهاز البيروقراطي الذي يعمل على فحص وثائق المهاجرين واللاجئين بشكل روتيني عند الوصول أو عند المغادرة. كما أن من وظائفه الوجود داخل الأحياء الحضرية والمخيمات والسجون لمراقبة المهاجرين والتحكم في سلوكياتهم بما يتناسب مع متطلبات الدولة الحديثة: الإنتاج والحد من الجريمة.
أما الجهاز الثاني، فهو "الأخ الأكبر الجديد" الذي يعمل على التحقق بدقة من كافة الوثائق التي من المفترض أن يمتلكها كل مهاجر أو لاجئ، كما أنه المسؤول عن تنفيذ كافة الإجراءات المتعلقة بتنفيذ قوانين جديدة للحد من المخالفات وتعزيز التنظيم داخل المدن المختلفة. ولا يعمل كل من "الأخ الكبير الجديد" و"الأخ الكبير القديم" بمعزل عن بعضهما البعض، بل إن المهام المشتركة الموكلة لهما تتمثل في التحكم في عمليات: "إدماج أو استيعاب inclusion/assimilation وإقصاء أو استبعاد exclusion المهاجرين".
ختامًا، يثير زيجمونت باومان تساؤلًا حول ما إذا كانت معادلة "الإدماج والإقصاء" هي الطريقة الوحيدة التي يجب أن تتعامل بها الدول، متمثلة بشكل أساس في أجهزتها الأمنية والمدنية، مع ملف المهاجرين واللاجئين؟ (ص 132 – 135).