ميشائيل كولماير، رواية "سفينة الفلاسفة" 2024.
ميشائيل كولماير (1949) كاتب نمساوي، له أكثر من خمسين عملًا نثريًا، أربع مسرحيات، ثلاثة أعمال سيناريو، عشرة مؤلفات موسيقية وثلاث مجموعات شعرية. من بين جميع أعماله ترجمت رواية "جهات الغرب" الصادرة في عام 2007، وبالعربية عام 2011 عن "مشروع كلمة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في شبكة منسوجة بإحكام من الحقائق والخيالات، من المزاح والمماحكات اللغوية، تظهر بانوراما ثورة تعرضت مُثُلها العليا للخيانة من قبل استراتيجييها الاستبداديين. يرى الثوار أنفسهم محاطين بالأعداء والمتآمرين الذين يتوقعونهم أيضًا في صفوفهم، وسرعان ما "لا يعرف أحد ما إن كان يتعامل مع عدو للدولة أو مخبر".
إثر الحرب العالمية الأولى، وبعد نجاح الثورة البلشفية في روسيا واستتباب الأمر للسلطة الجديدة في دولة العمال والفلاحين، بدأت الحرب الأهلية بين المناصرين للثورة وأعدائها. وعانت الدولة الفتية من جنون الرهاب من المؤامرة المستمرة، وتخلصت بذلك من الأعداء الواقعيين والمحتملين أيضًا بالتصفيات والإعدامات، وبالنفي والإسكات.
وفي "عمل إنساني"، بتعبير تروتسكي، سُمح لعدة مئات بمغادرة البلاد بناءً على أوامر لينين الذي منحهم بذلك حياة المنفيين بدل أن يقتلهم لأنهم سيصبحون أعداءً عاجلًا أم آجلًا ينبغي إعدامهم. وعلى ظهر إحدى هذه السفن، تبدأ آخر روايات الكاتب النمساوي ميشائيل كولماير "سفينة الفلاسفة".
مئوية الاستبداد
يبدو أن شغف ميشائيل كولماير بالتاريخ يعيده مرة أخرى لمعالجة تاريخ القرن العشرين من خلال رواية، ولكنه هذه المرة يقتصر على تاريخ روسيا. بمناسبة عيد ميلادها المئة، تدعو السيدة أنوك بيرلمان ياكوب، العجوز التي تعاني من ضعف السمع والبصر، وتعشق البيرة والدخان، الكاتب إلى منزلها في حي دوبلينغ النبيل في فيينا ليُدوِّن سيرة حياتها روائيًا، ولو في جزءٍ صغير منها: "لقد استعلمت عنك. أنت سمعتك ككاتب جيدة، ولكنها أيضًا سافلة إلى حد ما. أعلم أنك تختلق الأشياء ثم تدعي أنها صحيحة. لقد قيل لي إن الجميع يعرف هذا، لكنك رغم ذلك تنجح المرة تلو الأخرى في خداع القراء والمستمعين. ولهذا لا يصدقك الكثيرون عندما تكتب الحقيقة، ويصدقونك عندما تغش.. وما لا يعرفه أحد (عني)، هذا تحديدًا ما عليكم أن تكتبوه، الكاتب الذي لا يصدق أحد ما يكتبه.. يجب أن يقال. وإذا لم يصدقه أحد فذلك هو الأفضل. لكن يجب أن يروى".
يفكر، خلال حفل عيد الميلاد الذي يحضره كثير من علية القوم، بأن يرفض طلبها نظرًا للإهمال الذي يشعر به وعدم فهم سر دعوته هو إلى ذلك الحفل، لكن ناديًا ما يناديه لتلبية الطلب وإشباع الفضول: "اتصلت بزوجتي، وشرحت لها الأمر، فقالت عليّ أن أؤجل المشروع وألا أعد العجوز بأي شي، ثم عليّ العودة للبيت لأفكر في الموضوع. ولكنه في صباح اليوم التالي يجد نفسه يقرع جرس العجوز وفي جيبه علبة دخان مارلبورو والهاتف الخلوي كجهاز تسجيل".
نقرأ أن للسيدة سيرتان منشورتان وسيرة ثالثة قيد الإعداد، فلماذا ترغب في سيرة أخرى مستعينةً بكاتب مشهور؟ السير السابقة جميعها سير علمية بحتة عن حياتها ونجاحاتها، عن تنقلها في العالم بين روسيا وألمانيا وأمريكا والنمسا. لكنها هنا تود أن تروي أشياء حميمية لا يعرفها كتّاب السير الخشبيين، فتسرد عليه حكايات محبطة وحزينة من ناحية، مضحكة للغاية وفاضحة من حياتها، على مدار عدة أيام، من ناحية أخرى.
يسجل الراوي هذه الحكايات بهاتفه المحمول، ويشير إلى ما يكتبه لاحقًا على أنه "تقرير". وهذا عدا عن الحوارات التي تجري بينهما، والأسئلة التي يطرحها الكاتب وكذلك الأبحاث الدقيقة التي يجريها ليتوثق من الوقائع التاريخية: "ما أريد أن أخبركم به حدث في عام 1922. كان عمري 14 عامًا وطلع لي صدر. وخشيت أمي من أنه قد يكبر أكثر من المرغوب. وذلك لأنه ظهر في عمر باكر جدًا. وهذا ليس حدثًا عرضيًا. فالسيدات في ذلك الوقت، حين أصبحت أخيرًا واحدة منهن، كن يفضلن الصدر الصغير أو ألا يكون لديهن صدر بتاتًا. حظي التعيس. وعدا ذلك كنت طفلة. بل طفلة أكثر طفولية من بنات عمري، من اللواتي لم يكن لهن صدر. ثم إنه كان يزعجني خلال ممارسة الجمباز، وأنا كنت لاعبة جمباز جيدة وأحب ممارسته." هذه هي اللحظات والتفاصيل الصغيرة لفتاة واكبت الثورة الروسية، وعادةً ما لا يلتفت كتّاب السير إلى هذه الجزئيات في سير العلماء الكبار.
السيدة آنوك من مواليد سانت بطرسبورغ، شهدت نجاحًا منقطع النظير في أميركا وتقضي شيخوختها في النمسا. سنجد أن السيدة أنوك طُردت في الرابعة عشرة من عمرها مع والديها - والدها أستاذ الهندسة المعمارية، ووالدتها عالمة طيور، وكلاهما بلشفي - ضمن 12 فردًا من روسيا السوفييتية على ظهر "سفينة الفلاسفة" الفاخرة، التي تتسع لألفي راكب، وظلت لمدة خمسة أيام دون أن يعرف أحد ما الذي قد يحدث لهم على الشواطئ الفنلندية، حيث يطرح الجميع أسئلة متشابهة، مثل أن يُعدموا رميًا بالرصاص كما حدث مع كثيرين غيرهم.
خلال هذا الانتظار القاتل طوال خمسة أيام في قمرات الدرجة الثالثة – رغم أن السفينة فارغة عمليًا من الركاب - يسود جو من الشلل الفكري بين الركاب دون أن يحدث أي شيء من حولهم، إلى أن يُحمَل إليها آخر الركاب وأهم شخصيات الرواية التاريخية: "من كان يصدق أن تلك السفينة الفاخرة التي لا تضاهى ستقلع لأجل هذه الحفنة؟ حتى في ذلك الحين، كنت أظن أن ذلك التوقف عن التفكير يضيق علينا، نحن الذين حشرنا في قمرات الدرجة الثالثة، أكثر من أي شيء آخر يحدث حولنا، ماذا يعني كل هذا؟ هل يعني أي شيء على الإطلاق؟ لكن لم يجرؤ أحد على طرح تلك الأسئلة وذلك خشية أن يعرف أحدهم الجواب".
بعد مئة عام، تعيد آنوك السؤال ذاته لتصل أخيرًا إلى جواب دون أن تعاني الخوف هذه المرة خلال الحديث مع من سيؤلف سيرتها روائيًا. ولهذا تنتقل الأحداث في الزمن، الأمر الذي فعله كولماير في رواية سابقة غطت مساحة القرن العشرين ومجرياته بعنوان "جهات الغرب"، من خلال سيرة رجل يتنقل في أرجاء العالم، وهو الذي يدقق التاريخ ليرويه في قصص خيالية بغاية تقريبه من الأذهان روائيًا.
ولكنه في هذه المرة يسرد سيرة امرأة عانت إرهاب الدولة في طفولتها ومراهقتها خلال عشرينيات القرن العشرين. صحيح أن شخصيات الرواية موثقة تاريخيًا، أو أن هناك إشارات تاريخية إليها على الأقل، إلا أن كولماير يجعلها شخصيات غير واقعية بخلط الزمن الروائي الخيالي بالزمن التاريخي الواقعي، ومزج الشخصيات بحد ذاتها، بحيث تفقد خصائصها الواقعية البحتة لتكتسب صفة الشخصية الروائية.
تتفاقم أحداث الرواية أكثر بوجود ذلك الشخص مجهول الهوية على ظهر السفينة، والذي يبدو أنه ذو مكانة رفيعة، لأنه الوحيد الذي لم ينزل في الدرجة الثالثة. هذا الرجل العاجز نتيجة عدة سكتات دماغية، يجلس وحيدًا، منبوذًا، (ومنفيًا؟)، في كرسيه على ظهر السفينة في الشمس ملتحفًا بعدة أغطية. تكتشف فيه السيدة أنوك لينين وتزوره كل ليلة، حيث تعقد لقاءات بين لينين وستالين الذي سيرميه أخيرًا في البحر ليتخلص منه ومن "نقاط ضعفه الإنساني" كي تأخذ ثورته مسارها الذي يراه لها ستالين ذاته، وذلك بالتخلص من الملايين من "الأعداء والمشبوهين"، ويجدد كولماير بذلك قدراته التي لا تضاهى في سرد التاريخ المتخيل.
يأتي التلميذ المطيع سابقًا ليتعامل مع معلمه معاملة العدو اللدود ويدله على أخطائه الذريعة في التعامل مع أعداء الثورة أو حتى مع أنصارها. وفي سرد مروع، نقرأ عن اللقاء بين ستالين ولينين على ظهر السفينة، الذي تشهده ابنة الرابعة عشرة، حيث يلقّن ستالين لينين درسًا في السيطرة على الجماهير وهو يلمّح له إلى فشله الذريع في ذلك: "يمكنك أن تصدر أمرًا بتسيير المسيرات الشعبية، يمكنك أن تصدر أمرًا بإطلاق النار على الجماهير، لكن لا يمكنك أن تأمر بإيجاد مبرر لما تعزم على القيام به. الملايين تريد الحصول على طعام كاف، تريد التحرر من نير الحرية؛ لا تريد أن يعذبها ضميرها".
ضربة المعلم
يتكون جزء كبير من الرواية من أقاصيص المهندسة المعمارية، التي يستنسخها مؤلف التقرير بين علامتي اقتباس. وكما تأتي الأحاديث عادةً، تتوقف في مرحلة ما، لتنتقل الخطوط وتتشتت الأحداث على لسان العجوز. درجة التشويق عالية للغاية، ولكنه للأسف يتوقف جزئيًا بسبب بيرلمان ياكوب التي تروي بطريقة مترامية الأطراف. ومن المفترض أن القصد من ذلك هو التأكيد على شفهية تقريرها وأيضًا لمجرد تمثيل عمرها بشكل أصيل. ولو ظل الراوي ينقل هذه المقتبسات بشكلها التقريري والتوثيقي لجاءت الرواية مملة، لكن كولماير بحنكته الحكائية يتجنب اللغة التقريرية ويمنح الشخصية الرئيسية لغة سردية أقرب إلى الشفهية.
الكاتب يجعل نفسه شخصية روائية، الأمر الذي فعله أيضًا في روايته المذكورة أعلاه "جهات الغرب" دون أن يذكر اسمه. تبقى الرواية متماسكة ومثيرة طوال زمنها، علاوة على ذلك الشعور بالخواء والعجز الذي يعانيه الركاب لمعرفة سبب نفيهم. وكعادة كولماير، تنعكس في روايته هذه خطوط سردية متنوعة تضيف الإثارة والتشويق على الحدث الأساس وتتضافر في حبكة متماسكة ومتناغمة كقطعة موسيقية تتنوع أصواتها، مثلًا حين يتعرض مرة إلى دور الشعر في الأنظمة الاستبدادية: "بالعشرات يعدم الشعراء الشباب، وهم في معظمهم من البلاشفة المتحمسين، تشتبه الشرطة السرية في أن في قصائدهم الطليعية رسائل مشفرة ضد الثورة".
رغم أن كولماير مكثر في الكتابة، لكن كل عمل جديد له يتمتع بصوت خاص وتشويق عال، لأنه كما أشار في لقاء معه، عندما سئل كيف تمكن من أن يكون مؤلفًا كثير الإنتاج وناجحًا في الوقت نفسه، إلى شخصياته قائلًا إن الأفكار لا تخرج منه بل إن الشخصيات هي التي "تأتي أو لا تأتي. وعندما تأتي تجلب معها قصصها وترويها لي، وأنا أدونها".
دورة التاريخ المتكررة
نجد أن تاريخ الثورات، التاريخ الواقعي أو المتخيل كما يدونه كولماير، يعيد نفسه ولو بأشكال مختلفة. فبعد أن قامت الثورة باسم العمال والفلاحين لتحقيق الحلم في المساواة والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي كان والدا أنوك أيضًا يؤمنان به ويستعدان للتنازل عن امتيازاتهم بصفتهم من "المثقفين" الذين سيدفعون بدورهم ضريبة الثورة في وطنهم لبناء مستقبل أفضل؛ سنجد أن تلك الثورة تنقلب على ذاتها وستصفها الشخصية الرئيسية بصفة أخرى: "لقد كانت حربًا أهلية. والحرب الأهلية هي أيضًا دائمًا حرب الفقراء وغير المتعلمين، حرب الأغبياء والأشرار، ضد الانتليجنسيا. والانتليجنسيا هم من لا يتعرق، لا ينتنون ويقومون بعملهم جالسين".
لا تتوقف إشارات الرواية إلى الماضي، بل تشير أيضًا إلى الأيديولوجيات المعاصرة، ونظريات المؤامرة التي تتكاثر خلال الأزمات، ويتم إثرها ترحيل أو نفي الجزء غير المرغوب فيه من أهل المكان، أو يرحلون هم طواعية كي ينقذوا حياتهم وحياة أطفالهم ويبنون لهم مستقبلًا أفضل.
ولكن هؤلاء المنفيين والمهاجرين لا يجدون الاستقرار الذي حلموا به، حيث إن الأوطان الجديدة لا تمنحهم دائما الثقة بالمكان، بل يحدث أن يشعر المقتلعون من وطنهم بالاغتراب ويعانون مرارات كثيرة حتى يثبتوا أقدامهم. فما بالك إذا لم يرحب بهم أهل البلد الجديد واعتبرهم عالة على نظامه الاجتماعي والاقتصادي؟ بل يجعلونهم في بعض الأحيان كبش فداء: "نأتي إلى بلد لا نفهم لغته، نصادف أناسًا لا يريدوننا بينهم، لا يثقون بنا، يحملوننا ذنب كل ما هو غير جيد في حياتهم".