تفاقم نظريات المؤامرة من شعور الإنسان بعدم الأمان منذ بدايات التاريخ، وصولًا إلى ظهور التكنولوجيا التي ساهمت في في انتشارها إلى حد كبير، خاصةً السينما والتلفزيون في عصرهما الذهبي. وليس غريبًا القول إن نظريات المؤامرة وجدت في "رهاب الشيوعية" فرصة لتكون جزءًا من الموضوعات الرئيسية للقصص المتخيّلة، حيث أظهرت هذه النظرية مرونة في مواكبة عملية التطور لتقدم سردًا متعدد الطبقات يمزج بين المتخيل والواقعي، مستفيدة من المتغيرات التي تطرأ على الساحة العالمية منذ خمسينيات القرن العشرين حتى اللحظة الراهنة.
في أصل نظرية المؤامرة
جاء في قاموس ميريام وبستر الجامعي أن نظرية المؤامرة هي: "نظرية تفسر حدثًا ما أو مجموعة من الظروف ناشئة عن خطة سرية يضعها متآمرون أقوياء"، وأنها: "سر ذا أهمية كبيرة تم إخفاؤه عن الجمهور". أما قاموس أكسفورد الإنكليزي الذي أضافها إلى مصطلحاته في عام 1997، فقد عرّفها بأنها: "النظرية التي تفسر وقوع حدث معين أو حدوث ظاهرة ما ناتج عن مؤامرة بين أطراف ذات مصلحة"، بينما عرّفها عالم النفس الأميركي روب براذرتون، بأنها "سؤال بحاجة إلى جواب"، فهي: "تفترض أنه ما من شيء على حاله الظاهر؛ وتصوِّر المتآمرين بأنهم ذوو كفاءة منقطعة النظير، ويحركهم كم هائل من الشرور".
ومن وجهة نظر براذرتون، فإن نظرية المؤامرة تقوم في الأساس: "على تصيّد الأشياء الغريبة، وهي غير قابلة للدحض في نهاية المطاف". وقد يبدو هذا التفسير منطقيًا إذا ما أردنا إسقاطه على فيلم "الحرب الأهلية" (Civil War) على أرض الواقع. والفيلم يحاكي نظرية المؤامرة التي روّج لها أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشأن تلاعب الديمقراطيين بنتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والتي انتهت باقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس الأميركي. يبني الفيلم قصته على هذه النظرية، لكن بصيغة معكوسة تنتهي بانتصار القوات الغربية – في إشارة إلى الجمهوريين – باقتحام البيت الأبيض، واغتيال الرئيس الأميركي المتخيل.
لا يوجد تاريخ واضح يثبت النشأة الأولى لنظرية المؤامرة سواء أكان في التاريخ القديم أو الحديث، لكن معظم المصادر، ومن ضمنها براذرتون، يعيدها إلى آلاف السنين البائدة. وعلى عكس الادعاء السائد بين أصحاب هذه النظرية بأن وكالة الاستخبارات الأميركية هي التي أوجدت المصطلح في ستينيات القرن الفائت، فإن ورقة بعنوان "فهم نظرية المؤامرة" صادرة عن البرلمان الأوروبي تعيد أول استخدام مكتوب للمصطلح إلى عام 1909.
هناك مجموعة متعددة من التفسيرات مرتبطة بظهور مصطلح نظرية المؤامرة بحسب أستاذ الفلسفة رجا بهلول، منها تفسيرات تحيل انتشارها إلى ظاهرة ما بعد الحداثة، لكنه يبقى محدودًا لعدم انتشار ما بعد الحداثة في الدول النامية والفقيرة. وتوجد أيضًا تفسيرات اجتماعية: "ذات صدقية أكبر تتعلق بالاغتراب وبالتهميش متعدد الجوانب تعانيه أعداد هائلة من الناس" سواء أكان اقتصاديًا أو ثقافيًا. وهناك أيضًا تفسيرات باثولوجية (علم الأمراض) تحيل: "التفكير التآمري إلى عوامل نفسية تتعلق بالشعور بالاضطهاد". وأخيرًا، يوجد تفسير لنظرية المؤامرة مرتبط بصناعة الترفيه الاجتماعي على مستوى السينما والتلفزيون، منها الاعتقاد الذي ساد خلال الحرب العالمية الثانية، في عام 1940، بأن برنامج الرسوم المتحركة الشهير "توم وجيري" (Tom and Jerry) كان دعاية للنازية.
نظرية المؤامرة عبر التاريخ
تخبرنا المراجع أن نظرية المؤامرة ليست وليدة عصرنا الراهن، وليست مرتبطة بمجتمع أو ثقافة معينة دون غيرها، فهي وجدت في جميع الثقافات والمجتمعات على مر العصور، ولا يمكن سرد نظريات المؤامرة من قبل الجهات الفاعلة الاجتماعية فقط، ولكن أيضًا من قبل الحكومات الأجنبية أو المحلية، والجماعات المتشدّدة، وحتى المؤسسات والشركات الاقتصادية. وتستخدم نظريات المؤامرة عادةً كأداة دعاية أو تضليل لحشد الآراء والمواقف بهدف خلق المنافسة بين الروايات التي تقوض الثقة في السلطات والمؤسسات الديمقراطية ووسائل الإعلام الرئيسية.
كما أنها نظرية قديمة قِدم التاريخ الإنساني، ظهرت منذ ما قبل حريق روما الكبير في عام 64 ميلادية المرتبط بالإمبراطور نيرون، والذي يشبه في سرديته حريق لندن الكبير الذي اجتاح المدينةَ طيلة أربع أيام في عام 1666، وارتبط بالملك تشارلز الثاني. وفي كلتا الحادثتين، اُعتمد على نظرية المؤامرة لتقديم "كبش فداء" لعامة الشعب تخلي مسؤولية الحاكميّن.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت نظريات جديدة مرتبطة بـ"رُهاب الشيوعية" الذي اجتاح الولايات المتحدة قبل العالم، وعلى إثره وجدت المكارثية مكانًا لها في الحياة الاجتماعية – السياسية الأميركية في خمسينيات القرن الماضي، بينما لا يزال هناك من يعتقد أن هبوط المركبة "أبولو 11" على سطح القمر في عام 1969 مصوّر في استديو أفلام.
ومن ضمن النظريات الرائجة بكثرة حتى يومنا الراهن، تبرز تصديق مجموعة من الأميركيين أن اغتيال الرئيس الأميركي جون أف. كيندي (1917 – 1963) كان بتدبير من وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، وأن الحادث الذي أودى بحياة الأميرة ديانا (1961 – 1997) كان مدبرًا بغرض اغتيالها. كما ترددت نظرية مثيرة للجدل مرتبطة بالفيلسوف الأميركي ديفيد آيك ظهرت في عام 1998 وتقول إن الزعماء السياسيين ورؤساء الدول، منهم الملكة إليزابيث الثانية، وجورج بوش الابن، هم مجموعة سحالي متحوّلة على هيئة بشر، وأنهم يقفون خلف منظمة سرية تحكم العالم. وأخيرًا لا بد من تذكر نظرية فيروس كورونا المتحوّر التي تؤيد فكرة تطوّيره في أحد المختبرات بهدف القضاء على نصف سكان كوكب الأرض.
نظرية المؤامرة في الأفلام والمسلسلات
أظهرت نظرية المؤامرة مرونة من ناحية التطور الذي شهدته في الأفلام والمسلسلات الأميركية، كما يوضح مؤلف كتاب "نظرية المؤامرة في السينما والتلفزيون والسياسة" (Conspiracy Theory in Film, Television, and Politics)، غوردون أرنولد. إذ إنها على الرغم من استمراريتها كموضوع ثقافي – سياسي، إلا إنها لم تكن فكرة ثابتة، لأن "تصويرها في الثقافة الشعبية والسياسة يتغير باستمرار، وكذلك يتغير معناها". لقد أدى هذا التطور برفقة المرونة إلى امتداد نظرية المؤامرة إلى "ما هو أبعد من هامش الحياة الأميركية"، بتحويلها إلى فكرة شعبية عالمية في الأفلام والمسلسلات، تصوّر قيام شخصيات غامضة بالتخطيط لهجمات سرية تعرض حياة العامة للخطر.
يسجل لنظرية المؤامرة حضور كبير في الحياة اليومية، لكن هذا الحضور ليس سببه منظري نظرية المؤامرة الكلاسيكيين، أو الأشخاص الذين يؤمنون بها، إنما الأشخاص الذين لديهم اهتمام مؤقت بالنظرية، لأنهم هم الذين دفعوا الفكرة من الهامش إلى الحياة العامة، ما جعلها تصل لمستويات جديدة من القبول والاحترام، كما يقول أرنولد. ويظهِر هذا المستوى حضور نظرية المؤامرة في الثقافة السياسية بالترويج لقضية مهما كانت غير قابلة للتصديق، لكنها قد تكون مفيدة لمهاجمة الخصوم السياسيين، أو محاربة قوى فضائية، وهو ما جعلها تجتذب اهتمام كتاب/ات الروايات الخيالية والواقعية، وكذلك الأفلام والمسلسلات، وما إلى ذلك من إنتاجات صناعة الترفيه الأميركية قبل العالمية.
نظرية المؤامرة في الأفلام
فرضت القواعد التي حددتها إنتاجات "هوليوود" السينمائية عدم تصوير نظريات المؤامرة المتداولة في الثقافة الأميركية حتى نهاية أربعينيات القرن الفائت، حيث كانت تعتبر الأعمال السينمائية مجرد "ترفيه"، كما أنها لم تكن محمية بموجب التعديل الأول الذي يضمن حرية التعبير في الولايات المتحدة، مما جعل صُناع السينما يتجنبون الاشتغال على القضايا المثيرة للجدل.
لكن ذلك لم يصمد طويلًا نتيجة اتفاق النسبة الأكبر من الأميركيين في نهاية أربعينيات القرن العشرين على وجود مثل هذه النظريات على أرض الواقع، إضافةً إلى ظهور "إجماع واسع النطاق مناهض للشيوعية" بين مختلف فئات الشعب، السياسيين وغير السياسيين، الذين اقتنعوا بوجود مؤامرة سوفيتية لتدمير وتخريب الولايات المتحدة، ودعم هذه النظرية تحقيق لجنة الكابيتول هيل (لجنة الأمن الداخلي حاليًا) المعنية بالأنشطة غير الأميركية بالتخريب الشيوعي لـ"هوليوود".
وقد تمثّل العامل الأهم الذي ساعد "هوليوود" على تصوير نظريات المؤامرة في الأفلام بإصدار المحكمة العليا حكمًا في عام 1952 يمنح الأفلام الحماية بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي الذي يضمن حرية التعبير، وهو ما سمح لاستديوهات "هوليوود" إنتاج العديد من الأفلام التي تركّز على المؤامرة الشيوعية ضد الولايات المتحدة في فترة الخمسينيات.
ويُعتبر فيلم "فجأة" (Suddenly)، أحد أهم الأفلام التي صدرت ضمن هذا السياق، فهو يمزج بين عنصرين أساسيين كانت تعتمدها هذه النوعية من الأفلام؛ يركز الأول على الأميركيين العاديين الذين يدركون أن أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء عميل شيوعي، بينما يسرد الثاني قصص العملاء السريين الذي يحبطون المؤامرات الشيوعية التي تكون جزءًا من مؤامرة أكبر.
تصف المؤرخة كاثارينا تالمان هذا النوع من أفلام المؤامرة بأنه عبارة عن: "روايات تصوّر مؤامرة صغيرة الحجم نسبيًا، ومحددة بوضوح، وتركز على محاربة مكائدة المؤامرة"، بمعنى أنها لا تركز على الجهود المبذولة لاكتشاف المؤامرة، إنما تركيزها الأهم على إحباط المؤامرة. ويعكس هذا النوع من أفلام المؤامرة مكانة النظرية التي يصفها مايكل باتر بـ"المعرفة الأرثوذكسية"، والتي انتشرت في فترة الخمسينيات، حيث كان الاعتقاد العام بالمؤامرة الشيوعية قد بلغ ذروته حينها.
يمثل فيلم "المرشح المنشوري" (The Manchurian Candidate)، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الأميركي ريتشارد كوندون، تحولًا في أفلام المؤامرة التي ظهرت في ستينيات القرن العشرين من خلال اشتغاله على إثارة مخاوف الناس من الشيوعية، إذ كان - كما ينقل باتر عن أحد المعلقين - بمثابة: "تعليق وتعبير عن الأفكار والأيديولوجيات الأميركية المشتركة في ذروة الحرب الباردة"، بمعنى أن المؤامرة الشيوعية حقيقية لم يتم إحباطها. وبشكل عام، مثّل الفيلم تحوّلًا في أفلام المؤامرة بكسره بعض تقاليد "هوليوود" الكلاسيكية، خاصةً من حيث مسألة دوافع بعض الشخصيات التي لم تكن واضحة نتيجة محافظتها على سرية أجندتها الحقيقية.
شكّلت المؤامرة الشيوعية نوعًا من الازدهار لأفلام المؤامرة، لكن هذا الازدهار انتهى بحلول نهاية السبعينيات لأن دور هذا النوع من الأفلام بإثارة المخاوف من الشيوعية قد انتهى، ولم تعد هناك حاجة إلى توظيف الأفلام لتأدية هذا الدور التثقيفي للجمهور الأميركي، إضافةً إلى أن "هوليوود" أصبحت تعتمد على النوع التقليدي والمباشر.
وبحسب باتر، فقد برزت خلال هذه الفترة أعمال المخرج آلان باكولا (1928 – 1998)، التي تقدّم نظرية المؤامرة بطريقة نموذجية، وهي على التوالي: "مشهد المنظر" (The Parallax View)، "كل رجال الرئيس" (All the President's Men)، و"مذكرة البجع" (The Pelican Brief). وتميزت هذه الأفلام بأنها ركّزت على عمليات التحقيق وتقديم الأدلة على وجود المؤامرة، عكس فترة الستينيات والسبعينيات التي ركّزت على إحباط المؤامرة.
سرد المؤامرة الكلاسيكي في أفلام التسعينيات
تحوّلت نظرية المؤامرة إلى سلعة يمكن استثمارها منذ السبعينيات، وتشير تالمان إلى أن النظرية: "أصبحت سلعة لا تختلف عن مواد البورنوغرافيا"، بسبب: "عدم شرعيتها ومنطقيتها، لكنها مربحة جدًا". ويرى مؤلف كتاب "نظريات المؤامرة: السرية والقوة في الثقافة الأميركية" (Conspiracy theories: secrecy and power in American culture)، مارك فنستر، أن أفلام المؤامرة شهدت تطورًا منذ التسعينيات عبر مزجها بين تقليدين: في التقليد الأول، يدرك البطل حدوث شيء ما يدفعه للبدء في التحقيق. وفي التقليد الثاني، يفهم ما يحدث بعد أن يضع إجابات اللغز في مكانها الصحيح، ما أدى إلى ظهور نوع جديد من الأفلام يعرف بـ"سرد المؤامرة الكلاسيكي".
فرض هذا النوع من الأفلام نمطًا جديدًا يعتمد على الذكاء والقوة المعرفية التي يتمتع بها البطل لاكتشاف خيوط المؤامرة، وتميزت بسرد سريع الوتيرة، وتصوير تسلسل الأحداث بمشاهد مختصرة وسريعة تشير إلى "الجوانب الجغرافية والجيوسياسية والمعرفية لحركة المؤامرة"، وإظهارها بأنها مؤامرة عالمية، وغالبًا ما كان يعاني البطل من "أزمة ذكورية" لعدم واقعية القصة التي يطرحها. يرى فنستر في هذا الجانب أن فيلم "جيه إف كيه" (JFK)، للمخرج أوليفر ستون، هو الأبرز ضمن هذا النوع، وقد أصبح مع مرور الوقت نموذجًا للأفلام الوثائقية غير الخيالية.
يبدو هذا النوع أيضًا مشابهًا لسلسلة أفلام "العميل جيسون بورن"، المقتبسة عن سلسلة روايات للكاتب روبرت لودلم (1927 – 2001)، الذي يتغلب في كل فيلم على المؤامرة التي يواجهها بإثبات وجودها وهزيمتها. ومع مرور الوقت، أصبحت نظرية المؤامرة في السينما الأميركية عابرة للحدود، وبرزت بشكل واضح في سلسلة أفلام "السرعة والغضب" (Fast and Furious). كما أنها انتقلت إلى عوالم متخيّلة غير موجودة على أرض الواقع، لكنها ركّزت على موضوع عدم الثقة بالحكومات المنتخبة، كما الحال مع سلسلة أفلام "ألعاب الجوع" (The Hunger Games).
نظرية المؤامرة في المسلسلات
لا تختلف قصص نظريات المؤامرة في المسلسلات عن نظيرتها في الأفلام، حيثُ نشأت جنبًا إلى جنب مع قصص الأفلام مدفوعة برُهاب الشيوعية الذي اجتاح الولايات المتحدة في الخمسينيات، وتخلل هذه الفترة ظهور العديد من المسلسلات التي تدور حبكتها حول ملاحقة العملاء الشيوعيين الذين يحاولون اختراق مؤسسات القانون الأميركية. ويرى باتر أن هذا النوع من الأعمال حدد: "لوحة اجتماعية دائمة التوسّع تجعل الشيوعية تبدو أكثر انتشارًا وخبثًا".
لكن هذا النمط لم يصمد طويلًا مع ظهور مسلسل "الرجل من يو. إن. سي. إل. إيه" (The Man from U.N.C.L.E) الذي يدور حول منظمة عالمية يتحد فيها عملاء من الغرب الأميركي والشرق الشيوعي للقضاء على منظمة تريد السيطرة على العالم، وتعرف باسم "T. H. R. U. S. H"، وهو ما مثل تحوّلًا في سرد نظرية المؤامرة في المسلسلات.
ومع ذلك، توقفت المسلسلات التي تحاكي نظريات المؤامرة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، ثم عادت للظهور بقوة مع مسلسل "الملفات الغامضة" (The X-Files)، الذي: "نقل تصوير نظرية المؤامرة على الشاشة إلى مستوى جديد"، بظهور أعداء فضائيين أو يملكون قوى خارقة للطبيعة مرتبطة بالحكومات والنخب السياسية العالمية، وكانت كل حلقة تروي قصة مختلفة عن الأخرى، على الرغم من أن جميع المؤامرات مترابطة فيما بينها.
وشهد مطلع الألفية الجديدة تحولًا جديدًا في سرد المسلسلات لنظرية المؤامرة، ويعتبر المسلسل الشهير "ضياع" (Lost) من أبرز هذه العروض، فهو لم يكن يفترض فقط أن كل شيء مترابط، بل قدم أيضًا فرضية تقوم على أنه "يوجد دائمًا شيء أكثر يجب معرفته"، كما يشير فنستر، حيث يكتشف الأشخاص المزيد من الخيوط مما يجعل المؤامرة أكثر تعقيدًا. وهو ما تكرر أيضًا، لناحية طريقة سرد المؤامرة، في مسلسل "24" الذي يعتمد بشكل كبير على نظريات مختلفة، وتحدث التحولات في قصته مرة واحدة في الحلقة على أقل تقدير لتحريك الحبكة نحو اتجاه جديد.
نظرية المؤامرة في المسلسلات المعاصرة
تطوّرت نوعية سرد نظرية المؤامرة في المسلسلات المعاصرة مع ظهور أعمال من طراز "بيت الأوراق" (House of Cards) الذي يركّز على كواليس التحالفات السياسية ومكائد المؤامرات في البيت الأبيض، لدرجة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتبره نسخة حقيقية عن الحياة الواقعية، وطلب من المسؤولين الروس مشاهدته لفهم ومعرفة طرق صنع القرار في السياسة الأميركية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس الصيني شي جينغ بين، الذي وصفه بأنه من أفضل المسلسلات. وضمن هذا النوع، صدر أيضًا مسلسل "فضيحة" (Scandal) الذي يدور في قالب مختلف، لكنه مرتبط أيضًا بدهاليز صنع القرار في البيت الأبيض. وبعد انتشار الجائحة العالمية ظهر نوع جديد من سرديات المؤامرة يمكن القول إن أهمها مسلسل "يوتوبيا" (utopia).
يرى باتر أن هذا النمط من الأعمال الذي يأخذ شكل السلسلة الطويلة، أي أكثر من جزء، يتوافق: "بشكل جيد مع منطق نظرية المؤامرة"، حيث يوجد بشكل دائم دليل جديد مرتبط بدليل آخر، كما يمكن لـ"تغيير الحبكة بعد موسمين أو ثلاثة مواسم" أن يجعل الجمهور يكتشف أن ما كان يعتقد أنه صحيح لم يعد صحيحًا، وتبدأ القصة بالتحرك في اتجاه مختلف تمامًا.
ويشير باتريك جونز وغريتشن سودرلاند، في ورقة بحثية مشتركة، إلى أن الخيط الذي يوحد بين شخصيتي فرانسيس أندروود في "بيت الأوراق"، وأوليفيا بوب في "فضيحة"، ليس فقط المساحة التي يشغلونها في الخطاب السياسي، إنما: "حقيقة أنهم جميعًا يصلون إلى السلطة من خلال ممارسة براعتهم في السلوك التآمري".
تعكس الشخصيتان نمطًا تكون المؤامرة فيه أداة تربط العلاقة بين الأشخاص وعملية صنع القرار السياسي، ويختلف هذا النوع من السرد التآمري عن سرد المؤامرة في أعمال الحرب الباردة، إذ يحصرها بمجموعة صغيرة من الشخصيات السياسية المتآمرة تبدو أكثر قربًا من "مسرح القرنين الـ17 والـ18"، الذي غالبًا ما يصوّر الجهات الاجتماعية الفاعلة والشخصيات السياسية على أنها "مخادعة". كما يظهر المسلسلان كيفية إدارة مكائد المؤامرات بتحفظ وعناية شديدين من قبل السياسيين، فالشخصيات في هذه المسلسلات تستخدم: "المؤامرة والفضيحة كأدوات للعلاقات العامة".
وقدم المسلسلان كذلك نهجًا جديدًا لسرد نظريات المؤامرة في المسلسلات بتجنبهما: "الاعتبارات المعرفية التي كانت مركزية للغاية في مؤامرات القرن العشرين"، وتحويلها بدلًا من ذلك إلى مؤامرات: "وجودية جوهرها الأساسي السياسة". كما يظهر نمط بديل لمكائد المؤامرة الكلاسيكي يدخل ضمن: "استراتيجيات وتكتيكات العلاقات العامة المهنية"، والتي تسمح: "بنمو عالم تآمري يتشكل ويعيد تشكيل نفسه خلف الأبواب المغلقة". على مستوى العلاقة مع الجمهور، فإن الفضيحة/المؤامرة التي يتم تسريبها إلى الجمهور تصل من خلال عالم السياسي المنغلق إلى الجمهور غير المسيس و/أو المحدد.
في هذه الحالة، تكون النتيجة أن الجمهور يصبح في كل مسلسل: "استعارة يستخدمها من هم في السلطة لاستحضار واقع غير سياسي، بعيد عن مكائد السلطة الحقيقية". كما يبرز أيضًا دور العاطفة التي تدفع وتغذي المؤامرة على المستويين الاجتماعي والسياسي معًا، وهي تظهر بشكل واضح في علاقات: "الغيرة أو الغضب أو الولاء أو الحب".
يمكننا على ضوء ذلك ملاحظة أن كلا المسلسلين يصوران الولايات المتحدة باعتبارها "دولة استبدادية" يمارس فيها: "جزء صغير من الناس السلطة دون مساهمة من المواطنين، الذين هم غير مرئيين وعاجزين إلى حد كبير". كما نلحظ في المسلسلين كيفية اختفاء الجمهور في هذه العوالم السياسية التآمرية، فطريقة صوغ القرارات السياسية التي تصل إلى الجمهور تبدو "مجرد خدعة"، تخفي خلفها "حقيقة تآمرية" يشارك الفاعلون السياسيون فيها، بينما يعملون سرًا في عالم سياسي غير ديمقراطي.
تعمل سرديات المؤامرة، سواء أكانت في الأفلام أو المسلسلات، بأثر رجعي في حال تزامن عرضها مع حدث واقعي، حيثُ تنوّعت الموضوعات التي تصوّرها نظريات المؤامرة بما يشمل الأزمة المناخية، وسياسات الهجرة، والتكنولوجيا الحديثة، والهندسة الوراثية، وما إلى ذلك من موضوعات أخرى، وهو ما ينطبق على مسلسل "يوتوبيا"، الذي تدور قصته حول ترويج السلطات الأميركية لانتشار فيروس قاتل، لكن ما يحدث في الحقيقة أن النخب السياسية تقوم بقتل الناس بطرق غامضة لتنسب وفاتهم للفيروس الكاذب، ثم تقوم لاحقًا بالإعلان عن وجود لقاح مضاد للفيروس بمساعدة النخب السياسية، المنظمات غير الحكومية، والحكومات العالمية، لتكون المفاجأة أن اللقاح يسبب العقم، والهدف منه تخفيض عدد سكان الأرض إلى 500 مليون شخص فقط.
قوبل قرار عرض المسلسل على خدمة "برايم فيديو" بموجة انتقادات واسعة، حيثُ ظهر في الفترة التي كان يروج فيها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للعديد من نظريات المؤامرة المرتبطة باللقاحات المضادة لفيروس كورونا. ويؤكد باتر أن المسلسلات المشابهة لـ"يوتوبيا" دائمًا ما: "تجذب الأشخاص الذين يشاهدونها بشكل مثير للسخرية"، ويضيف: "لا أعتقد أن هذا يخبر (الجمهور) أي شيء عن الكيفية التي يعمل بها العالم حقًا"، لكنها بالطبع: "تجذب أيضًا الأشخاص الذين ما زالوا يعتقدون أن المؤامرات موجودة طوال الوقت، وأنهم ربما يكونون في الواقع على وشك تحقيق شيء ما".
على سبيل الخاتمة
أثبتت سردية نظرية المؤامرة في الأفلام والمسلسلات أنه يمكنها جذب الجمهور لتحقيق معدلات مشاهدة مرتفعة، وأظهرت أنها قابلة للتكيّف مع المتغيّرات الدولية بتحويلها القضايا الإشكالية إلى مواد ترفيه متعددة الطبقات، وكذلك قدرتها على التحول من سرد قصص هامشية إلى مسلسلات تحوّلت مع مرور الوقت إلى ظاهرة ثقافية عالمية، كما الحال مع سلسلة أفلام "ألعاب الجوع"، و"السرعة والغضب"، ومسلسل "بيت الأوراق"، على سبيل المثال لا الحصر.