يُنسب ظهور أدب نهاية العالم، أو ما يُعرف بـ"ما بعد نهاية العالم"، إلى الكاتبة البريطانية ماري شيلي (1797 – 1851) التي صدرت روايتها "الرجل الأخير" (The Last Man) في عام 1826. لكن هذا النوع الأدبي لم يُكتب له الاعتراف الرسمي إلا مع ازدياد المخاوف من اندلاع الحرب النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خمسينات القرن الماضي.
وعلى الرغم من عدم وجود وثيقة تحدد وصول هذا النوع من الأعمال الأدبية إلى الدراما التلفزيونية، فإن المراجع تصنف مسلسل "Survivors" (الناجون)، الذي يتألف من جزئين، وعُرض على قناة "بي بي سي ون" (BBC1) ما بين عامي 1975 – 1977، على أنه أول مسلسل تدور أحداثه في ما بعد نهاية العالم.
في مفهوم ما بعد نهاية العالم
تعكس روايات ما بعد نهاية العالم واحدة من أكثر المخاوف البشرية التي يغذيها عقلنا الباطن. وغالبًا ما تسمح لنا هذه الروايات باستكشاف الجوانب المظلمة لمشاعرنا التي تخشى المجهول، وتبدأ بتخيّل مجموعة من السيناريوهات المشؤومة لنهاية العالم. ويمكننا، على سبيل المثال لا الحصر، ملاحظة انتشار هاشتاغ (وسم) الحرب العالمية الثالثة بعد نشوب حربٍ ما، كما تردد هذا المصطلح بكثرة بعد انتشار جائحة كورونا في مختلف أنحاء العالم مطلع 2020.
تنقسم التصورات حول نهاية العالم إلى نوعين: ديني، وغير ديني. دينيًا، ترتبط نهاية العالم بحلول يوم القيامة الذي تجري خلاله مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكفار. وعلى الرغم من اختلاف مسببات يوم القيامة بين الروايات الدينية، إلا أنها تبقى ثابتة من ناحية الثواب والعقاب.
أما في الجانب غير الديني، فترتبط فكرة نهاية العالم بسياسات السباق النووي، والتطور التكنولوجي، والأزمة المناخية العالمية، وأُضيف إليها مؤخرًا السباق نحو احتلال الفضاء. وهي جميعها موضوعات رسّخت بقوة مخاوف البشرية من اقتراب نهاية العالم وفق تعريف الدكتورة المتخصصة في السينما والاتصالات والإعلام، جيني ستومر، الذي يتفق مع معظم التعريفات الأخرى حول نهاية العالم.
يتوقّع سلافوي جيجك اقتراب نهاية النظام العالمي خلال السنوات القادمة، ما ينذر بنهاية العالم/الزمن التي يصفها بـ"نقطة الصفر"، ويربطها باستجابة البشرية للمعركة الاقتصادية في وقتنا الراهن، ويرى أنها تتوافق مع مراحل الحزن الخمسة: "الإنكار (الأيديولوجي)، الغضب (الاحتجاجات الشعبية)، المساومة، الاكتئاب، التقبل (العزلة أو الانسحاب)". ويحدد جيجك ما يصفهم بـ"الفرسان الأربعة" كأسباب لنهاية العالم، وهم: الأزمة البيئية العالمية، والتكنولوجيا الوراثية، والتفاوت الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي.
يُظهر تعريف ستومر ومحاكاة جيجك لنهاية العالم جانبًا من نوعية القصص التي تسردها الأعمال الدرامية في وقتنا الراهن، وهي تشهد نموًا غير مسبوق في ظل السوق التنافسية التي خلقتها خدمات الفيديو حسب الطلب.
وتتخيل هذه الأعمال، غالبًا، نشوء نظام جديد يشبه في تسلسل السلطة الهرمي فساد النظام القديم. كما أنها ترسم للناجين مسارًا شبيهًا بالقبيلة في شكلها البدائي حين كانت تتعايش وتتفاعل وتحاول الحفاظ على هويتها الإنسانية ضمن مجموعات صغيرة، وذلك في ضمن سياق أخلاقي يحكمه القانون أكثر من الدين في فكرة مشابهة لفكرة اختفاء الدين و/أو التديّن الشعبي.
وغالبًا ما كانت القصص المعروفة عن مرحلة ما بعد نهاية العالم مرتبطة بالقصص القديمة التي تعود إلى التصوّرات الدينية قبل آلاف السنين. ومع تطور الفكر البشري، وجِدت في الحداثة بيئة ثقافية حاضنة وجمهورًا متقبلًا لها، حيث أظهرت الأبحاث المتخصصة في هذا المجال أنه فُرض على البشر الأوائل محاربة التغيرات المناخية، والقوى الطبيعية غير المألوفة، وكذلك التهديدات القادمة من البشر الآخرين. لكن مع اختفاء تلك المعارك التي كان يخوضها أسلافنا الأوائل من عالمنا المعاصر، احتفظ البشر وطوروا سرد القصص المتخيّلة القائمة على صراع الحياة أو الموت.
يوضح مؤلف كتاب "نهاية العالم التالية: فن وعلم البقاء"، كريس بيغلي، أن روايات ما بعد نهاية العالم كانت موجودة دائمًا، فقد: "كانت شائعة في المطبوعات والأفلام منذ القرن الـ19 على الأقل".
لكن التهديدات في هذه الروايات تتغير مع مرور الوقت لتعكس المخاوف المعاصرة، إذ: "يبدو الآن أنها أكثر شعبية من أي وقت مضى، وقد يعكس ذلك قلقًا أكبر ناجمًا عن تغيّر المناخ، أو التحولات السياسية نحو الاستبداد، أو الضغوط الاقتصادية، أو أي من المخاوف الأخرى". وبالنسبة لبيغلي، فإن هذه الروايات: "ليست حديثة، ولكن من المؤكد أن كمية الروايات المخيفة زادت بشكل كبير في العقدين الماضيين".
ويرى الباحثون أن استهلاك محتوى ما بعد نهاية العالم ساعد الجمهور على تجربة ما يمكن أن يشعروا به حينها كما لو أنهم يستعدون للأسوأ. وقد مكّنهم ذلك من الحصول على أفكار حول ما يمكنهم القيام به في حال حدوث انهيار مجتمعي واسع النطاق أو كارثة عالمية، إذ يرى عالم السلوك والباحث في أفلام الرعب، كولتان سكريفنر، أن هذه القصص الخيالية تسمح لنا: "بمحاكاة ما سيكون عليه العيش في عالم كهذا، والاستعداد ذهنيًا للمخاطر التي قد نواجهها. وقد فعلنا ذلك منذ أن امتلكنا القدرة على التخيّل واستكشاف عوالم خطيرة عقليًا". فقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجراها سكريفنر خلال فترة جائحة كورونا في عام 2020، أن: "العديد من الأشخاص لم يشاهدوا وقتها فقط المزيد من الأفلام التي تتناول موضوع الوباء (فيروس كورونا)، ولكن أيضًا المزيد من أفلام الرعب".
نهاية العالم وما بعده في الدراما
تقدم أعمال ما بعد نهاية العالم، وهي غالبًا ما تكون مقتبسة عن الأعمال الأدبية أو القصص المصوّرة أو ألعاب الفيديو، تصوّرًا متنوعًا تتداخل فيه الديستوبيا مع الخيال العلمي والمغامرة والحركة والقوى الخارقة للطبيعة، وتفترض في أحيان أخرى وجود مخلوقات غريبة ووحوش وأحداث مرعبة.
ومن المعروف عنها أنها مكتوبة بطريقة مميزة لخدمة وظائف نفسية محددة. وتكمن مشكلة هذا النوع من الأعمال في أن أغلبها من إنتاج الولايات المتحدة، وأنها تصوّر لنا حياة ما بعد نهاية العالم في الولايات المتحدة فقط، ما يجعلنا نقرأ تخيّلات الآخرين عنهم (هم)، وليس عن الآخر (نحن).
فن وحضارة وإنجاب.. عالم جديد بحاجة إلى عالم جديد آخر!
يقتبس مسلسل "Station Eleven" (المحطة الـ11) فكرته من رواية الكاتبة إيميلي سانت جون مانديل التي تحمل العنوان نفسه. واللافت أن الرواية التي تحكي قصة قضاء عدوى فيروسية على معظم البشر في عام 2020 كُتبت في عام 2014، قبل نحو 6 سنوات من تفشي فيروس كورونا عام 2020. ولكن على العكس مما حدث في رواية مانديل المتخيلة، نجت البشرية من الفيروس الحقيقي الذي أودى بحياة أكثر من 7 ملايين شخص.
يروي المسلسل (تأليف سارة ماكارون وباتريك سومرفي، وإخراج جيرومي بودسوا وهيرو موراي/ 2021) قصة انتشار عدوى فيروسية تقضي، في غضون أيام قليلة، على 99.9 بالمئة من سكان العالم في 2020. لكن أحداثه تدور بعد 20 عامًا من انتشار الفيروس في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة الأميركية، وفي عالم جديد يُفرض فيه على الناجين من الجائحة التعايش مع ذكريات الماضي بعد اختفاء جميع أنواع التكنولوجيا الحديثة.
يتتّبع المسلسل، عبر خطين زمنين مترابطين، مسار الشخصيات الرئيسية في رحلة صراعها من أجل البقاء على قيد الحياة بعد فقدان سلطة القانون وغياب المؤسسات السياسية.
يعود بنا الخط الزمني الأول إلى ما قبل انتشار الجائحة لسرد قصص الشخصيات الرئيسية في الماضي، بينما يروي الخط الزمني الثاني محاولة هذه الشخصيات النجاة من مجموعات متطرفة تريد القضاء على جميع الأشخاص الناجين من الفيروس. ويؤدي هذا التسلسل في تبادل المشاهد لرواية القصة إلى مزامنة مختلطة تربط بين حياة الشخصيات وذاكرتهم، وتضعهم أمام مشاعر نفسية متضاربة بين الحقيقة والخيال.
لكن الأمر لا ينتهي هنا، إذ يفرض العالم الجديد على الناجين أيضًا إعادة تشكيل أنفسهم ضمن مجموعات صغيرة لكل منها قانونها ومجتمعها الخاص الذي تريد الحفاظ عليه بغض النظر عن الثمن. ومن بين هذه هناك مجموعة فنية متنقلة تجد في الفن دافعًا للبقاء على قيد الحياة، وتحافظ على نفسها باللجوء إلى المسرح والموسيقى والتمثيل، كما لو أنها تحاول إعادة التفكير في الفن في ما بعد نهاية العالم.
في المقابل، تُلزم مجموعة أخرى نفسها بقواعد الحجر الصحي في مطار سيتحول، بعد زمن، إلى "متحف الحضارة". ولهذه المجموعة قائد وقوانين اتفقوا عليها لتنظيم حياتهم وعدم تجاوزها حتى وإن اضطروا إلى الموافقة على تفجير طائرة تحمل 400 شخص. مجرد تفصيل صغير يكشف الجوانب المظلمة للنفس البشرية.
تبرز في الحكاية أيضًا مجموعة أخرى تحكمها نساء يحاولن الحفاظ على استمرار البشرية من خلال الإنجاب ومساعدة الآخرين، وهي مجموعة مختلفة كليًا عن المجموعات الأخرى لأن همها الرئيسي يتمحور حول دفع الآخرين إلى ممارسة الجنس من أجل الإنجاب خوفًا من انقراض البشرية. وهي لذلك تقف على النقيض تمامًا من مجموعة أخرى يقودها أطفال صغار، وتقوم فلسفتها على أنه يجب قتل جميع الأشخاص الناجين من الفيروس لأنهم السبب في نهاية العالم القديم، وعلى الأطفال والمراهقين الذين ولدوا بعد الفيروس التأسيس لعالم متكافئ بقوانين جديدة.
يقدم المسلسل تصوّرات مختلفة لفلسفة البقاء على قيد الحياة في ظروف غير طبيعية أو ما بعد نهاية العالم، ويكشف جوانب مظلمة من النفس البشرية لا تظهر، ربما، إلا إذا اختفت القواعد والسلوكيات التي تنظم حياة البشر.
هل ثمة حياة فوق سطح الأرض؟
تتشابه قصة الموسم الأول من مسلسل "Silo" (الصومعة)، المقتبس من ثلاثية الكاتب الأميركي هيو هاوي، مع رواية "1984" للكاتب البريطاني جورج أورويل. لكنها، مع ذلك، تختلف عنها لناحية أن أحداثها تدور ما بعد نهاية العالم. أو هذا، على الأقل، ما تعتقده شخصياته ومن يحكمها.
يقدّم المسلسل (تأليف جراهام يوست وإخراج مورتين تيلدوم، 2023) حكاية مختلفة تدور أحداثها حول مجموعة من الأكاذيب والأفكار المضللة التي تحكم حياة 10 آلاف شخص، يعيشون داخل صومعة مؤلفة من 144 طابقًا يعتقدون أنها تحميهم من العالم الخارجي الملوث بالهواء السام. وفي هذا المكان الخراساني الصلب المبني على عالم متعدد الطبقات، يُمنع البحث عن الحقيقة أو "الأثر" الذي يقود أي شخص إلى دليل يؤكد وجود الحياة فوق سطح الأرض. ومن يتجرأ ويخرق قرار المنع هذا يكون مصيره الموت إما عن طريق القتل أو بإخراجه إلى التنظيف، أي الموت أيضًا.
يحكم هذا المكان الديستوبي العمدة بيرنارد هولاند، الذي يمثّل نموذجًا لا يختلف لناحية طريقة إدارته لشؤون العامة عن الأنظمة الدكتاتورية في عالمنا المعاصر. وتمامًا مثل جميع الثورات، لا تتطلب عملية إحداث تغيير كبير داخل الصومعة سوى شخص واحد فقط.
وهذا الشخص المهندسة جولييت نيكولز التي اكتشفت، بعد توليها منصب المأمور، عدة حقائق تدل على أنه لا هدف من الترويج لفكرة تلوث الهواء فوق سطح فوق الأرض إلا السيطرة على هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون داخل الصومعة "مثل البخار المتراكم" الذي قد ينطلق في أي لحظة، لكن الخوف يجعلهم ينتظرون إشارة أو دليل على أن الذين خرجوا للتنظيف لا يزالون على قيد الحياة.
تدور الفكرة الأساسية للمسلسل حول النضال الفردي و/أو المشترك نحو الحرية ومحاربة سردية الاستبداد بمختلف الأشكال. فالخيوط في هذه الملحمة الدرامية مؤسسة على مجموعة من القواعد الاجتماعية، منها على سبيل، لا الحصر، تحديد النسل، والفصل بين المهن والمهارات على أساس طبقي، وحتمًا التفكير النقدي ممنوع بشدة. كل شيء جاهز للتغيير، لكنه ينتظر ثورة تحررهم من سيطرة الأخ الأكبر، فالمسلسل يقدم تصوّرًا للغريزة أو/و الطبيعة البشرية بأنها غير قابلة للتغير في ما بعد نهاية العالم، لأن القوانين والتقاليد والأعراف التي تحكم "الصومعة" هي شبيهة بعالمنا المعاصر.
يجعلنا المسلسل نعيد التفكير بتصوراتنا الشخصية لما بعد نهاية العالم، إذ إنه في هذا المكان: "يقف الزجاج والفولاذ القديم على مسافة بعيدة حيث كان الناس – كما يُعتقد – يعيشون فوق سطح الأرض". في حال المقارنة السريعة، نرى من الناحية الإيجابية أن "الصومعة" تمثل انتصارًا للإنسان، إنها مجتمع مستقل بذاته، نسبة البطالة صفر، وللجميع حق التعليم والطبابة وما إلى ذلك من باقي متطلبات الحياة اليومية.
أما من الناحية السلبية، فإنه نظام سياسي مصمم على حصر التكاثر بين أزواج تحددهم سلطة الأمر بالواقع، تغيب عنه وسائل الإعلام والحريات العامة، حتى تصميم "الصومعة" نفسها قائم على الحد من التنقل والتواصل بين الطوابق الأخرى، فالتنقل يكون سيرًا على الأقدام عبر درج حلزوني ضيق. هكذا يعيش العاملون في قسم الميكانيك في أسفل الصومعة، بينما يعيش العمدة والأطباء والمسؤولين عن رقابة المجتمع في الطوابق الأولى.
وبينما تقوم روايات ما بعد نهاية العالم على وضع تصورات للطريقة التي يمكن أن تتطور فيها المجتمعات بعد انهيارها، يقدّم "الصومعة" تصورًا للأساليب التي يمكن أن يلجأ إليها الإنسان لمنع المجتمع من التطور، فالأمر: "أشبه بواحدة من تلك النبوءات التي تحقق ذاتها، حيث تدفع الأعصاب شخصًا ما إلى الانتفاض في النهاية، ثم يهاجم مندفعًا أو يقول شيئًا يندم عليه، ثم يصبح في السجن"، بانتظار الخروج للتنظيف.
التدهور الكبير.. الأمل في مواجهة نظرية المؤامرة
يتناول مسلسل "Sweet Tooth"، المقتبس من سلسلة قصص مصوّرة للكاتب جيف لومير تحمل العنوان نفسه، على موضوعات شغلت حيزًا من حياتنا اليومية خلال فترة انتشار فيروس كورونا. وينطلق المسلسل في قصته من موضوعات أهمية الأسرة والأصدقاء والتعاون في حياتنا الاجتماعية، والطريقة التي يمكننا من خلالها مكافحة نظريات المؤامرة المنتشرة بين المجموعات اليمينية.
وتتشابه قصة تفشي الفيروس في المسلسل مع التقارير التي تقول إن فيروس كورونا تسرّب من مختبر أبحاث طبي كان يُجري تجاربًا لإنتاج عقار مضاد للفيروس، على الرغم من عدم وجود وثائق تؤكد صحة هذه النظرية مقارنةً بالمسلسل الذي يُحدِّد سبب انتشار الفيروس في مجموعة أبحاث تعمل على جعل الإنسان أكثر مقاومةً للأمراض بهدف إطالة سنوات حياته.
تدور أحداث المسلسل (تأليف وإخراج جيم مايكل، 2021) بعد 10 سنوات من انتشار فيروس شديد العدوى يصيب الأشخاص البالغين الذين سرعان ما بدأت ترتفع أعداد وفياتهم لعدم وجود لقاح مضاد، ما دفع الناجين منه إلى إطلاق اسم "التدهور العظيم" على الفترة التي انتشر فيها، إذ أدى إلى تفكك المجتمع بشكله المعاصر.
في المقابل، بدأت المستشفيات بتسجيل حالات ولادة لأطفال غير طبيعيين، إذ إن جميع الأطفال الذين ولدوا بعد "التدهور العظيم" عُرفوا باسم "الأطفال المهجنين" بسبب طفرة في الجينات جعلتهم يولدون على شكل نصف إنسان ونصف حيوان، حيث كانوا يملكون إما قرني غزال، أو أجنحة، أو ذيل سنجاب. بل إن بعض الأطفال ولدوا على شكل حيوانات كاملة، مثل الفيل أو التمساح.
ومن بين هؤلاء الأطفال هناك "غاس"، طفل معدل جينيًا يحاول البحث عن والدته الطبيبة الباحثة التي قامت بتطويره جينيًا. وخلال هذه الرحلة الطويلة، يلتقي بالأصدقاء والأعداء معًا، ومن بينهم الجنرال أبوت الذي يقود مجموعة يمينية تؤمن بنظرية المؤامرة وتعرف باسم "الرجال الأواخر"، وهي واحدة من بين أربع مجموعات يمينية تسيطر على موارد الأرض القاحلة، وتعتقد أن الأطفال المهجنين هم سبب انتشار الفيروس، ويجب القضاء عليهم.
يقدم المسلسل نظرة فاحصة على الدوافع النفسية التي تحرك كل شخصية من الشخصيات الرئيسية في المسلسل، خاصةً غاس الذي يلتقي بشخص يصبح صديقه المفضّل ويطلق عليه لقب "الرجل الكبير"، وهو لاعب كرة قدم أميركية مشهور، قبل "التدهور الكبير"، يبحث حاليًا عن زوجته وابنته.
وهناك أيضًا إيمي التي حوّلت حديقة حيوان إلى ملجأ للأطفال المهجنين الذين فقدوا عائلاتهم لحمايتهم من "الرجال الأواخر". ولدينا قصة الدكتور أدتيا الذي يسعى إلى اكتشاف لقاح مضاد للفيروس لعلاج زوجته راني. وكذلك بير التي تقود مجموعة يُطلق عليها "الحيوانات البشرية" للدفاع عن الأطفال المهجنين، وتبحث خلال رحلتها عن شقيقتها المهجنة ويندي.
تبني سلسلة الفانتازيا المليئة بالإثارة والحيوية وروح المغامرة نفسها على مجموعة من المتناقضات التي تحكم البشرية ما بعد نهاية العالم، حيث يكون الجميع أمام خيارين؛ يركز الأول على أهمية الأسرة والأصدقاء في حياتنا الاجتماعية، والحفاظ على الأمل، وتقبّل الآخر.
أما الثاني، فإنه محكوم بالاستسلام لليأس والهزيمة وقبول الأفكار اليمينية المتطرفة القائمة على دوافع سياسية بهدف احتكار العلاج للسيطرة على العالم.
نبوءة مشؤومة لمستقبل فوضوي
تقوم فكرة مسلسل "Twisted Metal" (مغامرة صعبة)، المقتبسة من سلسلة ألعاب فيديو، تحمل الاسم نفسه، طورتها شركة "سوني" في عام 1995؛ على خطأ مرتبط بالتكنولوجيا الحديثة يُعيد التذكير، بطريقة غير مباشرة، بتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حول مخاوفه من "الذكاء الاصطناعي التوليدي" الذي وصفه بأنه: "خطر وجودي يهدد البشرية يضاهي خطورة الحرب النووية"، وهي نبوءة مشؤومة لمستقبل فوضوي وقاتم ينتظرنا.
تدور أحداث المسلسل (تأليف عدة كتّاب وإخراج كيتاو ساكوراي، 2023) بعد نحو 20 عامًا من مطلع العقد الأول من القرن الـ21 عندما تعرضت أجهزة الكمبيوتر إلى هجوم فيروسي أدى إلى تعطيل أنظمة الاتصالات بشكل نهائي، وتسبب بدمار الولايات المتحدة بعد إطلاق مجموعة كبيرة من الصواريخ الذكية، واختفاء جميع وسائل الحياة التي نعرفها في عالمنا المعاصر.
أصبحت المدن بعد هذه الحادثة/الكارثة محصنة بالإسمنت لحماية السكان من العالم الخارجي. فعلى العكس من الحياة داخلها، حيث يعيش الناس بسلام ووفق قوانين خاصة؛ تتسم الحياة خارجها بالرعب والخروج عن القانون، حيث نشاهد جثثًا مقطعة الأوصال، وسيارات محترقة، إضافةً إلى أشخاص مصابين باختلال عقلي.
تتنوع دوافع شخصيات المسلسل التي تعيش في هذه الأراضي القاحلة. فـ"جون دو"، مثلًا، يعيش صراعًا داخليًا بين الخير والشر، إضافةً إلى صراع آخر حول تقبّله للنظام العالمي الجديد وعدم رضاه عنه في الوقت نفسه، عدا عن طموحه لتحسين حياته والعيش بأمان داخل مدينة سان فرانسيسكو الجديدة عندما تتاح له الفرصة.
تتقاطع رحلة بحثه عن الأمان مع كوايت التي يلتقي بها عن طريق الصدفة، وهي فتاة تسعى إلى الانتقام من عميل يُدعى "ستون"، وهو شخص مضطرب يريد فرض القانون في الأراضي القاحلة، ويعيش بدوره صراعًا داخليًا وجد نفسه بفعله ممزقًا بين الماضي، حين كان شرطيًا عاديًا، وبين العالم الجديد الذي جعله مسؤولًا، بقرار ذاتي، عن فرض القانون وتطبيقه. وللعميل ستون قانونه الخاص لمعاقبة الخارجين عن القانون: إما الموت، أو ترك ندبة تُذكِّر المعاقَبين بأخطائهم.
لكن ستون ليس الشخصية الوحيدة المضطربة بالمسلسل، إذ هناك شخصية أكثر اضطرابًا منه، وهي شخصية "السن الحلو" التي تشبه إلى حد كبير شخصية الجوكر في سلسلة أفلام "Batman". ولكنه، على عكس الجوكر الأصلي، لا يواجه في النظام العالمي الجديد أي عواقب قانونية يمكنها إيقافه.
و"السن الحلو" مهرج ضخم البنية، عنيف وساخر ومضطرب ومهووس بارتكاب جرائم قتل سادية بهدف المتعة، ودوافعه لارتكاب هذه الجرائم معقّدة وغير مفهومة تجعله نادرًا ما يأخذ الأمور على محمل الجد.
هذا المزيج من الشخصيات، إضافةً إلى عمدة سان فرانسيسكو الجديدة، رافن، الطامحة إلى تنظيم سباق الموت - سباق شبيه بسلسلة أفلام "Death Race" - يضع المشاهد أمام العديد من الأسئلة التي تحاول فهم طبيعة الحياة في عالم تحكمه قوانين ذاتية الغاية منها تحقيق مكاسب شخصية.
على سبيل الخاتمة
تحمل أعمال ما بعد نهاية العالم، غالبًا، توقعات مشؤومة لمستقبل البشرية، إذ تقدّم تصورات مختلفة ومتخيّلة لشكل نهاية الحضارة بصورتها المعاصرة، والعالم الذي سيعيش فيه من تمكن من النجاة، والذي سيكون خاليًا من التكنولوجيا المعاصرة والذكاء الاصطناعي، ويشهد عودة البشر إلى الحياة البدائية الأولى التي، رغم ذلك، لن تكون أفضل من عالمنا المعاصر الذي يشهد انهيارًا ممهورًا بختم النظام العالمي القائم على عدم المساواة.