من الصعب الإحاطة، في هذه العجالة، بمختلف محطات التاريخ الموريتاني، لا لأنه لم يُكتب بعد، رغم ما هو متوفر من دراسات مونوغرافية، ولا بسبب محدودية مصادر دراسة مختلف حقبه، بل لأن ما يطرح من أسئلة في كل محطة من محطاته أكثر مما يُقدَّم من إجابات. ورغم ذلك سنحاول، في هذه المقالة التطرق للمتواضع عليه من أحداث، ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، متجنبين ما أمكن الاستطراد أو التفصيل دون إخلال أو تقتير.
أول ما تجدر الإشارة إليه، في البداية، أن هناك عدة محاولات سابقة لكتابة تاريخ شبه كامل لموريتانيا، ولعل أول من قام بذلك الأركيولوجية الفرنسية كلوديت فاناكير Claudette Vanacker في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وذلك ضمن مساهمتها في المؤلَّف الجماعي "التعرف على موريتانيا" (Introduction à la Mauritanie) الصادر عام 1979 عن "المعهد الوطني للبحث العلمي" بفرنسا، والمعنونة بـ"موريتانيا إلى القرن العشرين". وقد حاولت الكاتبة، في نحو عشرين صفحة، أن تتبع أبرز الأحداث التاريخية التي عرفتها موريتانيا من أقدم العصور.
وبعد نحو عقد من نشر هذه الدراسة، يبدو أن الحاجة بقيت ماسة في الأوساط الأكاديمية الغربية إلى مادة مختصرة ومختزلة للتاريخ الموريتاني، مما حدا بمدير المعهد الموريتاني للبحث العلمي، البروفيسور عبد الودود ولد الشيخ، في أواخر الثمانينيات، إلى إصدار كتيب صغير الحجم (حوالي 135 صفحة) بعنوان "عناصر التاريخ الموريتاني"، ركز فيه أساسًا على الحركة المرابطية، والمجتمع الصنهاجي خلال القرن الخامس عشر ميلادي، ثم ختمه بالحديث عن بني حسان.
وإذا كان هذان المؤلَّفان المبكّران موجهين للقارئ الفرنكوفوني، فإن هناك من استشعر مسؤوليته نحو القارئ العربي الموريتاني وضرورة تعريفه بالخطوط العريضة لتاريخ بلده، فأخرج الأستاذ المفتش إسلم ولد أحمد الهادي، في عام 1997، كتابه "موريتانيا عبر العصور: جمع وترتيب حلقات التاريخ الموريتاني"، وقد لاقى رواجًا كبيرًا في الأوساط التربوية فسّر مدى الحاجة إلى هذا النوع من المؤلفات الشمولية.
ومع ترسخ التقاليد الأكاديمية في موريتانيا بظهور أجيال جديدة من المؤرخين الوطنيين، بدأت الكتابة التاريخية تأخذ اتجاهًا أكثر تركيبًا ومنهجية مستفيدةً في ذلك من توفر مجموعة جديدة ومتنوعة من المصادر، مع الانفتاح على المناهج البحثية المستحدثة. وهنا خرجت لنا مساهمة أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط الدكتور حماه الله ولد السالم في كتابة تاريخ عام للبلد، بعنوان "تاريخ موريتانيا: العناصر الأساسية"، وقد مزج فيها المؤلف بين التاريخ السياسي (الممالك والدول) والاجتماعي (المجموعات الإثنية) والثقافي (المذاهب والطرق الصوفية) والعمراني (الحواضر والمدن)، بأسلوب جامعي رصين.
ثم تتالى بعد ذلك ظهور هذا النوع من التأليف الشمولي للتاريخ الموريتاني في العشرية الأخيرة، مثل كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بية "موريتانيا: جذور وجسور" (2016)، وعمل الأستاذ محمدن ولد باباه "مدخل إلى تاريخ موريتانيا: من دخول الإسلام – القرن الثاني الهجري – إلى اكتمال عملية الاستعمار سنة 1934" (2017). وآخرها، وهو الأشمل والأكبر، مؤلف الباحث الجامعي المقيم في أميركا الدكتور عباس أبراهام "آلاف السنين في الصحراء: تاريخ موريتانيا من البواكير حتى القرن العشرين" (2018). وما يميز هذا الكتاب عن سابقيه سعة اطلاع مؤلفه على الدراسات الأجنبية حول موريتانيا بمختلف اللغات، وعمق تحليله واستفاضة شرحه واستطراداته الكثيرة، حتى اقترب حجم الكتاب من 800 صفحة.
هكذا انتقلنا في محاولات كتابة تاريخ شامل لموريتانيا من المقال الصغير أواخر السبعينيات، إلى المجلد الكبير بعد أربعة عقود من تحيين المعرفة وتنويع المناهج، حتى أصبح هناك نوع من التواضع بين المتخصصين على الخطوط العامة لهذا التاريخ، والتي يمكننا تقسيمها، تماشيًا مع التحقيب المدرسي المعروف للتاريخ، إلى المراحل الأربع التالية.
أولًا: موريتانيا القديمة
وتدخل في ذلك حضارات ما قبل التاريخ، والتي حاول الآثاريون تلمس ملامحها العامة، فوجدوا عدة أنماط رئيسية قدمت الصحراء من الشمال، وهي "الحضارة الآشولية" نسبةً إلى منطقة سانت آشول شمال فرنسا، وقد ظهرت هذه منذ أكثر من 400 ألف سنة، وتتميز باكتشاف الإنسان للنار، وتطويعه للطبيعة، ونحته عدة أدوات وآلات من الصخور. ومن أبرز مواطنها في موريتانيا منطقة آدرار (في الغرب)، وازويرات (في الشمال)، وولاتة (في الشرق).
ويُعتبر الإنسان الآشولي من أقدم ساكني الصحراء قبل أن تختفي آثاره في ظروف لا زالت مجهولة، ويفسح بذلك المجال للإنسان العاتري (نسبةً إلى بئر العاتر بمدينة تبسة الجزائرية)، الذي ظهر في المجال الموريتاني قبل 35000 سنة، وتميز ببراعته في تطوير الصناعة الحجرية، ونحت الرماح والفؤوس وبعض أدوات الصيد، مثل الأقواس والسهام، ثم تركوا المجال الصحراوي كسابقيهم، وربما يعود ذلك إلى تعاقب فترات الجدب والخصومة في هذه المنطقة.
ورغم قلة اللقى الأثرية الدالة على هذا الاستيطان البشري القديم لموريتانيا، إلا أن الباحثين استطاعوا في عام 2003 أن يحوصلوا لنا أبرز المواقع الأثرية في البلاد، ثم إخراج كتاب "القاموس الأثري الموريتاني" (Dictionnaire archéologique de la Mauritanie)، بإشراف الباحثين روبير فيرني Robert Vernet وبوبة ولد محمد نافع.
أما في العصر القديم (من اكتشاف الكتابة حوالي عام 3000 قبل الميلاد إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 ميلادي)، فقد تأثرت موريتانيا، بشكل متفاوت، بمختلف حضارات المتوسط، حيث مر القرطاجيون بسواحلها الأطلسية خلال المائة الخامسة قبل الميلاد، وتركوا ميناء تانيت شاهدًا على مرورهم. وحاول النوميديون في الجزائر والطنجيون في المغرب الوصول إليها تارةً برحلات استكشافية، وطورًا بحملات عسكرية، قبل أن يقرر التقسيم الروماني الجديد للمقاطعات ضمها إلى إقليم "موريتانيا الطنجية"، وبقي الوضع كذلك إلى أن بدأت المصادر العربية تتحدث عن صحراء الملثمين مطلع الفتح الإسلامي لها.
ثانيًا: موريتانيا الوسيطة
تمتد العصور الوسطى خلال الألف سنة ما بين سقوط روما واكتشاف العالم الجديد 1492، وهي الفترة نفسها التي عرفت ظهور وانتشار الإسلام في موريتانيا، وبداية أولى التشكيلات السياسية بصحرائها، فضلًا عن قيام الدولة المرابطية (الحدث الأبرز خلال هذه الحقبة)، وما تلاها من تبعية المجال الصحراوي لإحدى الممالك السودانية الكبرى، لتنتهي هذه الحقبة مع مقدم طلائع القبائل العربية إلى موريتانيا، والانتقال بها من العصر الصنهاجي إلى العهد الحساني.
بالنسبة إلى روايات دخول الإسلام إلى الغرب الصحراوي، فقد وصلت إلينا عبر المصادر العربية عدة سرديات، منها من يقول بوصول الفاتح الكبير عقبة بن نافع (ت 64هـ/683م) إلى أطراف الصحراء، ومنهم من يتحدث عن غزوات الوالي الأموي موسى بن نصير (ت98هـ/716م)، أو أحد قادته المسمى المشتري بن الأسود، نحو العمق الصحراوي. ولكن الدور الأبرز في ذلك يبدو أنه كان لبعض حفدة عقبة بن نافع، خصوصًا عبد الرحمن بن حبيب. وعمومًا، هناك شبه اتفاق على أن أسلمة أهل الصحراء قد اكتملت مطلع القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي.
وبالتزامن مع التحرك البطيء للإسلام السلمي، توازيًا مع تطور المسالك الصحراوية، وتذليل صعوبات العبور، وازدياد حجم التبادل التجاري بين الصحراء وأطرافها الشمالية والجنوبية؛ بدأت المصادر تتحدث (منذ أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي) عن تشكيلات سياسية تحكم الصحراء، ترد تارةً باسم مملكة أنبية، وطورًا باسم مملكة أودغست.
وتحيل التسمية الأولى للحلف الصنهاجي الحاكم، والثانية لدار ملك ذلك الحلف. وقد مرت هذه المملكة بفترات متباينة من القوة والضعف، وذلك بحسب رجحان ميزان القوة بينها وبين منافسيها الجنوبيين. والأطروحة الأبرز حول سقوط هذه المملكة (منتصف القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي)، حتى الآن، أنه كان بفعل تحالف شمالي-جنوبي (متمثلًا في قبيلة زناتة ومملكة غانة)، هدف إلى السيطرة على الصحراء وتحييد ساكنتها عن أي أدوار سياسية أو اقتصادية.
عرفت الصحراء بعد سقوط مملكة أودغست فترة فراغ سلطوي اختُلف على مدته، واتفُق على أنه قد انتهى في الثلث الأول من القرن الخامس الهجري، وذلك بتأسيس "الحلف الصنهاجي الثاني" بقيادة ابن تيفاوت الملقب بـ"تارشنى"، وهو الذي تحول بعد ذلك إلى دولة كبرى سيطرت على مساحة شاسعة تمتد من نهر السنغال جنوبًا إلى نهر تاجة في البرتغال، ومن طنجة غربًا إلى تلمسان شرقًا، عرفت باسم الدولة المرابطية.
وقد مرت هذه الدولة بثلاثة أطوار رئيسية هي: الطور الصحراوي، ويبدأ من حجة زعيم الحلف الصنهاجي يحيى بن إبراهيم الجدالي عام 427هـ/1036م، وينتهي بالتوجه شمالًا لفتح بلاد المغرب عام 445هـ/1053م. والطور المغربي، وهو الذي عرف خروجهم من التأسيس نحو التوسع، فاكتسحوا بلاد المغرب مدينة تلو الأخرى، إلى أن دخلوا مدينة سبتة أقصى الشمال عام 478هـ/1085م. ثم الطور الأندلسي، ويبدأ من معركة الزلاقة عام 479هـ/1086م إلى نهاية حكمهم في حدود عام 540هـ/1145م، وبذلك تم توحيد بلاد الصحراء والمغرب والأندلس لأول مرة تحت سلطان واحد يحكم من قصره في مراكش.
ولكن هذه التجربة سرعان ما استنفدت أسباب قوتها لتتحول تركتها إلى فسيفساء من الدول كان الغرب الصحراوي منها من نصيب الممالك السودانية الناشئة، خصوصًا مملكة مالي (629-835هـ/1230-1430م)، ثم إمبراطورية السونغاي (835-999هـ/1430-1591م). وعُرفت موريتانيا خلال هذه الفترة باسم بلاد التكرور، وأعطت اسمها لكامل المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي غربًا إلى بحيرة تشاد وبلاد الهوسا شرقًا، واكتفت المجموعات الصنهاجية في الصحراء بأدوار الخفارة والدلالة وخدمة قوافل العابرين بين بلاد السودان وبلاد المغرب، إلى أن قَدِمَ بني حسان من عرب المعقل أواخر العصر الوسيط وبداية الحديث.
ثالثًا: موريتانيا الحديثة
دخلت موريتانيا العصر الحديث وأجزاء كثيرة منها تابعة لإمبراطورية السونغاي، التي سيطرت على كامل الغرب الإفريقي. غير أن ذلك لم يمنع من ظهور بعض السلط المحلية، خصوصًا في الشمال وفي الشمال الغربي، أطلق عليها بعض الباحثين تسمية "الإمارات اللمتونية" على اعتبار أنها تنحدر من بقايا المجتمع المرابطي.
وإن كنا لا نملك الكثير من المعلومات عنها بسبب غياب التوثيق خلال هذه "القرون المظلمة" من تاريخ الصحراء، إلا أن أربع تشكيلات كبرى قد وصلت إلينا بعض أخبارهم، وهي إمارات "ابْدُوكَلْ" في الشمال، والأنباط في الوسط، و"إِدَيْشِلِّي" في الشمال الغربي، و"إنَيْرزِيكْ" في الجنوب الغربي، وهي التي دخلت في صراع مع القبائل العربية الحسانية التي قطعت مسارًا طويلًا وشاقًا، قبل أن تبسط سيطرتها على الغرب الصحراوي.
وكانت مجموعة بني حسان قد دخلت بلاد المغرب منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي ضمن جحافل القبائل الهلالية التي اجتاحت هذه المنطقة. وبفعل هجراتهم البينية تارةً، وتهجيرهم القسري من قبل الموحدين والمرينيين تارةً أخرى، وجدوا أنفسهم – منذ القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي – على أطراف الصحراء في شكل ظواعن وتجار وأحيانًا مرافقين للقوافل لتأمينها، خصوصًا في الطريق الشرقي الرابط بين سجلماسة – تغازه – إيوالاتن – مالي.
ولأسباب متعددة يقصر المقام عن تفصيلها، منها السياسي والاقتصادي والبيئي، قررت هذه المجموعات التوغل أعمق داخل الصحراء. وبوتيرة بطيئة لكنها مطردة، وبواسطة التحالف والانصهار الاجتماعي ثم بالمناوشات العسكرية مع الإمارات اللمتونية، بسطوا سيطرتهم السياسية وغلبتهم الديمغرافية. وظهرت في الكتابات البرتغالية، منذ القرن الخامس عشر، أسماء أبرز هذه المجموعات مثل "لُودَايَة"، و"البرابيش"، و"ارْحَامْنَة"، و"أولاد اعْمُرْ".
وفي القرن الموالي، قدّم لنا الحسن الوزان خارطة توزع هذه القبائل على المجال الصحراوي، لتدخل موريتانيا بذلك في عهد الإمارات الحسانية التي كان من أشهرها "إمارة اترارزة" في الجنوب الغربي، و"إمارة لبراكنة" في الوسط، و"إمارة آدرار" في الشمال. وكان ذلك متزامنًا مع حدث آخر مؤثر جدًا في تاريخ موريتانيا، وهو الحضور الأوروبي على السواحل الأطلسية.
كان هذا الحضور مرتبطًا بحركة الكشوفات الجغرافية الكبرى التي عرفتها أوروبا مطلع القرن الخامس عشر، وفتحت لها طريقًا جديدًا نحو الهند شرقًا والعالم الجديد غربًا، واكتشفت الإمكانات التجارية التكاملية بين أوروبا وإفريقيا وأميركا، فظهر ما يعرف بالتجارة المثلثة. ولأجل ذلك، أنشأت البرتغال ميناءً تجاريًا في آدرار منتصف القرن الخامس عشر، ثم تلاهم الهولنديون والألمان. وقد وبلغ التنافس التجاري ذروته مع مقدم الفرنسيين والإنجليز منذ القرن السابع عشر، وكان من مظاهره ما يسمى بـ"حروب العلك".
وقد وصف الباحث عباس أبراهام التأثير المحلي لذلك بقوله: "إن الحاجة الغربية إلى مادة الصمغ تُرجمت إلى تحولات اجتماعية صحراوية". وبالفعل، فسّر بعض الباحثين الحرب الأهلية الصحراوية المعروفة محليًا بـ"حرب شرببة" كتجسيد لذلك. ورغم المقاربات الكثيرة التي تناولت "أزمة القرن السابع عشر" هذه، فإنها كانت أبرز حدث مؤثر في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الموريتاني خلال العصر الحديث.
بدأت هذه الحرب بظهور شخص طموح في الجنوب الغربي الموريتاني حمل أفكارًا ثورية على مستوى الحكامة والإصلاح السياسي والديني، يدعى أَؤْبَكْ بن أَبْهَمْ التشمشي، واشتهر بلقب "ناصر الدين". وقد استطاع، بخطابته وكاريزميته، أن يجمع حوله بعض الأتباع، بل وأن يبسط سلطة روحية وسياسية على أجزاء من اترارزة ومنطقة فوتا تورو المجاورة. وطيلة العقد الثامن من القرن السابع عشر، خاضت حركته عدة معارك ضد تحالف مكون من الإمارات البيضانية وملوك فوتا والأوروبيين، مثل "موقعة أنتيجي" عام 1673، و"موقعة تَرْتَلَّاسْ" 1674، وقد انتصرت فيهما الحركة، وإن كانت قد خسرت زعيمها في الثانية. ثم أتت "معركة اتْنِيفِظَاظْ" 1677 على ما بقي من ذماء لها، وعانى أتباعها من شروط المنتصر لإنهاء الحرب، ومحاولة عدم تكرار التجربة الناصرية، وقد وضعت أوزار هذه الحرب اللبنة الأولى في بنية موريتانيا المعاصرة.
رابعًا: موريتانيا المعاصرة
كان من أهم محطات التاريخ الموريتاني، خلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين، الصراع الشرس بين الإمارات الحسانية واللمتونية (وخاصةً بين إمارتي اترارزة وتكانت) للسيطرة على المجال، وتأثر المناطق الجنوبية بحركات الإصلاح التي نشأت في الجوار السوداني، إضافةً إلى ظاهرة الاستعمار الفرنسي وما استتبعته من مقاومة أو مساومة، قبل أن تبدأ أولى الخطوات السياسية لتشكيل الدولة الوطنية الحالية.
لقد كانت نهاية التجربة الناصرية في المجال "البيضاني" بداية لنماذج مماثلة في المجال السوداني، أقدمها دولة الأئمة في فوتاتورو التي أسسها سلمان بال (المتوفى سنة 1776)، وكانت لها امتدادات روحية ووقائع ميدانية ضد الإمارات البيضانية. أما أبرزها فهي الدولة العمرية التي أقامها الحاج عمر تال الفوتي (المتوفى عام 1864)، وسيطرت على مجالات شاسعة من منطقة الضفة. غير أن فشل هذه التجارب كان مؤذنًا ببداية وضع اليد الاستعمارية مباشرة على كامل المنطقة.
وتعود جذور الاستعمار الفرنسي لموريتانيا إلى منتصف القرن التاسع عشر بفضل جهود فيديرب (Faidherbe) مدير المستعمرات الفرنسية بالسنغال، وذلك من خلال إرساله المستكشفين للتعرف على البشر والشجر والحجر والمدر. وبعد أن توفرت لديه المعلومات الدقيقة عن البلاد، تقدّم الإداري الاستعماري كزافيي كبولاني (Xavier Coppolani) بمشروع "موريتانيا الغربية"، وتمت الموافقة عليه من طرف وزارة المستعمرات الفرنسية أواخر كانون الأول/ديسمبر من عام 1899، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ المحلي راوحت بين المقاومة والمساومة.
وبغض النظر عن الجدل الفقهي حول الموقف من المستعمر، فقد انتظمت مقاومة عسكرية على عدة جبهات بقيادة محلية تارة، وفي شكل تحالف تارةً أخرى، خاضت بعض المعارك في تكانت وآدرار والحوضين ولعصابة، لكنها لم تكن حاسمة ميدانيًا مع الفرق اللوجيستي الكبير بين الأطراف، مما حدا بالبعض إلى تغيير استراتيجية المواجهة نحو المقاطعة الثقافية والهجرة أحيانًا. ونظرًا للتغيّرات العميقة في فرنسا، خصوصًا بعد خروجها منهكة من الحرب العالمية الثانية، بدأ التفكير في منح المستعمرات في إفريقيا استقلالها. وتتويجًا لمسار سياسي طويل يضيق المقام عن تفصيله أعلن يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1960 عن استقلال البلاد، وميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية برئاسة المحامي المختار ولد داداه.
ولا زال التاريخ العام لموريتانيا بحاجة إلى استخراج رفاة المعلومة من ركام المخطوطات المدفونة في المكتبات الوطنية والأهلية، والمرسومة على جدران الصخور الصحراوية، والماثلة في بقايا الواقع الأثرية القائمة، والمظنونة في الأماكن التاريخية المهملة.