شهد الحديث عن الصحة النفسية تحولًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة. فبعدما كانت الأمراض النفسية محاطة بالوصم والصمت والخوف في الماضي، أصبحت تناقش الآن، وما يواجه الإنسان من تحديات نفسية، بشكل علني عبر مختلف المنصات. لكن هذا الأمر جلب معه تحدياته وتعقيداته الخاصة.
يسعى هذا المقال إلى استكشاف تطور نظرتنا نحو الصحة النفسية، ويتتبع التحول من الإنكار الكامل لهذه الأمراض إلى تقبلها وإضفاء الطابع الرومانسي عليها في بعض الأحيان. ويقوم بتحليل العلاقة المعقدة بين وسائل التواصل الاجتماعي والصحة النفسية، كما يتوقف عند الطريقة التي صوّرت بها الأمراض النفسية في السينما والتلفزيون.
مرضٌ محاطٌ بالخوف والوصم
للوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية تاريخ طويل ومظلم. فمن محاكمات السحرة في أوروبا إلى أهوال الإبادة الجماعية النازية خلال الحرب العالمية الثانية، عانى المرضى النفسيون من التعذيب والسجن والقتل الجماعي بسبب الجهل المجتمعي والتحيز والعنصرية.
وطال هذا الجهل ألمع العقول في عصرنا، إذ كتب أفلاطون في كتابه "القوانين": "إذا كان شخص ما مجنونًا، فلا ينبغي له أن يظهر علنًا في المدينة. وفي كل حالة، يجب على الأقارب أن يحرسوا [هؤلاء] الأشخاص في منازلهم".
وفي أوروبا المسيحية، أُبعد المرضى عن أعين الناس من خلال عزلهم في الأقبية، وهو طقسٌ استمر لعدة قرون، إذ كان الناس ينظرون إلى الأمراض النفسية آنذاك بوصفها نتاج أفعال غير أخلاقية، وعقابًا من الله على خطايا المريض، ما أدى إلى عواقب مدمرة مثل نسب البابا إنوسنت الثامن الكوارث الطبيعية إلى "الممسوسين"، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد الآلاف منهم خلال القرن الخامس عشر.
ومع ذلك، ربما يكون الفصل الأكثر فظاعة في صفحات تاريخ الأمراض النفسية هو الإبادة الجماعية النازية للمرضى النفسيين، حيث نظّم النازيون، تحت ستار "النظافة العرقية" وتحسين النسل، عمليات تعقيم وقتل جماعية لمئات الآلاف من الأفراد المصابين بأمراض نفسية بحجة استئصال هذه الأمراض من الأجيال القادمة، وإن كان ذلك من خلال الإبادة الجماعية والتعقيم القسري.
بداية الوعي بالأمراض النفسية
شهد منتصف القرن العشرين تحولًا جذريًا في كيفية إدراك الصحة النفسية والتعامل معها، نتيجة ازدهار مجالات علم النفس والطب النفسي، وساعدت شخصيات رائدة مثل سيغموند فرويد وإميل كريبيلين في تمهيد الطريق لفهم طبي أكثر للأمراض النفسية.
وتزامن هذا المنظور الجديد مع ظهور مدارس فكرية مختلفة في علم النفس قدمت عدسات متنوعة يمكن رؤية العقل والسلوك البشري من خلالها. كما تم إحراز تقدم كبير في تشخيص حالات الصحة النفسية، وقد قدّم الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية "DSM" في عام 1952، نظامًا موحدًا للتشخيص وتسهيل التواصل والبحث بين المتخصصين في الصحة النفسية.
وشهدت خيارات العلاج ثورة خلال القرن العشرين، إذ اكتسبت تقنياته بالكلام، مثل التحليل النفسي والعلاج السلوكي المعرفي "CBT"، مكانة بارزة. وركزت هذه الأساليب على مساعدة الأفراد على فهم أفكارهم وسلوكياتهم وتعديلها. بالإضافة إلى ذلك، ساعد اكتشاف وتطوير أدوية جديدة، مثل مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان المرضى، على تحسين نوعية حياتهم وإدارة الأعراض.
وفي منتصف القرن العشرين أيضًا ظهرت حركة تُدعى "The Deinstitutionalization Movement"، والمقصود بها حركة إلغاء المؤسساتية التي دعت إلى نقل المرضى من المؤسسات الكبيرة إلى البيئات المجتمعية. وركز هذا التحول على إعادة التأهيل والدمج الاجتماعي وتمكين الأفراد المصابين بالأمراض النفسية. وقد شكّلت هذه الحركة خطوة حاسمة نحو حماية حقوق المرضى المدنية وضمان المعاملة الإنسانية، خاصةً بعد الكشف عن مدى الأذى النفسي والجسدي الذي تعرض له المرضى بدعوى علاجهم.
ومع ذلك، لم يكن التقدم خاليًا من التحديات، إذ أثار استخدام الأدوية القوية مخاوف بشأن الإفراط في تناولها وما قد يصاحبها من آثار جانبية. لكن على الرغم من هذه القضايا، شهد القرن العشرين تحولًا كبيرًا نحو نهج أكثر تعاطفًا قائمًا على الأدلة في مجال الصحة النفسية.
وسائل التواصل الاجتماعي والصحة النفسية
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي قوة لا يمكن إنكارها في حياتنا امتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من صور العطلات والإنجازات ومقاطع الفيديو المضحكة. وعندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تقدم صورة معقدة قد تساعدنا على تطوير فهمنا للأمراض النفسية، لكنها قد تساهم في تشويهه أيضًا، وتمثل سلاحًا ذا حدين يمكن أن يُنير فهمنا ويمكن أن يشوهه بنفس الفاعلية.
من الناحية الإيجابية، تطورت منصات وسائل التواصل الاجتماعي لتصبح أدوات لا تقدر بثمن لتعزيز شبكات الدعم، ونشر الموارد التعليمية، وتقديم العزاء لمن يتصارعون مع صحتهم النفسية. كما توفر المجتمعات عبر الإنترنت ملاذًا حيث يمكن للأفراد مشاركة قصصهم بحرية، وتقديم كلمات التشجيع، وإيجاد التضامن والدعم مع أقرانهم ذوي التفكير المماثل، مما يعزز شعورهم بالانتماء. بالإضافة إلى ذلك، عملت هذه المنصات كقنوات لمنظمات الصحة النفسية والمهنيين لنشر المعلومات القائمة على الأدلة وخطوط المساعدة الأساسية.
ومع ذلك، فإن هذه الميزات هي ذاتها التي يمكن أن تقودنا نحو الهاوية. ففي حين توفر مجتمعات الإنترنت شريان حياة حيوي للمحتاجين، فإن ديناميكيات هوية المجموعة داخل هذه المساحات يمكن أن تمارس تأثيرًا قويًا على الأفراد، إذ قد تؤدي الرغبة في الانتماء والحصول على المصادقة من أقرانهم إلى دفع الأفراد عن غير قصد، وفي بعض الأحيان، إلى تضخيم والمبالغة في جوانب معينة من صراعاتهم النفسية، وتحويلها من مجرد تحديات إلى جوانب أساسية من هويتهم، ما قد يؤدي إلى نتائج غير صحية، مثل رفض العلاج.
عدا عن ذلك، ووسط ثروة المعلومات المتاحة على وسائل التواصل الاجتماعي، هناك تيار كبير من المعلومات المضللة رافق انتشار ثقافة التشخيص الذاتي، إذ تكثر المصادر غير الموثوقة عبر الإنترنت، وتقدم تفسيرات مبسطة للحالات النفسية المعقدة تساهم في إساءة فهم وتفسير الأفراد لتجاربهم، بناءً على عدد قليل من المقالات أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ما يؤدي إلى تشخيص ذاتي غير دقيق وتأخير المساعدة المهنية المناسبة.
لذلك يمكن أن يكون التنقل بين المعلومات الواسعة والمتضاربة المتاحة عبر الإنترنت، دون تدريب سريري، أمرًا مربكًا لدرجة جعل الأفراد عرضة للتحيز التأكيدي. فحتى المهنيين المُدربين قد يتعرضون له، ما يقودهم إلى تفضيل المعلومات التي تتوافق مع أفكارهم المسبقة، أو ما يريدون سماعه.
ولن يكون هذا بالضرورة تحيزًا "إيجابيًا". وكما يعلم أي شخص مطلع على ظاهرة "دكتور جوجل"، فإن الأشخاص الذين يقومون بالتشخيص الذاتي غالبًا ما ينجذبون نحو السيناريو الأسوأ، ذلك أن التحيز السلبي متأصل في الدماغ البشري. وتتعقّد عملية التشخيص الذاتي بانجذاب الأفراد بشكل غريزي لأسوأ السيناريوهات عند تفسير أعراضهم، فالاكتئاب، على وجه الخصوص، كثيرًا ما يعمل على تضخيم هذا التحيز السلبي، الأمر الذي يرفع من احتمالية التوصل إلى تشخيصات ذاتية ضارة وغير مؤكدة.
إضفاء الطابع الرومانسي على الأمراض النفسية
لقد حظيت ظاهرة إضفاء طابع رومانسي على المرض النفسي، خاصةً على منصات التواصل الاجتماعي مثل "تمبلر" و"فيسبوك"، باهتمام كبير في السنوات الأخيرة. وتتضمن هذه الظاهرة تصوير حالات مثل اضطرابات القلق والاكتئاب وإيذاء النفس في ضوء ساحر أو ممتع، وغالبًا ما يتم تجاهل الحقائق القاسية والتعقيدات التي ينطوي عليها الأمر.
ومن أكثر الجوانب المثيرة للقلق في هذا الاتجاه هو تطبيع وتمجيد الأعراض والسلوكيات المرتبطة بالأمراض النفسية، إذ يتم تصوير الشخصيات أو الأفراد الذين يعانون من هذه المشكلات على أنهم "عباقرة" و"غامضون" أو "أرواح معذبة"، ما يضيف عمقًا وجاذبية لشخصياتهم. ومع ذلك، فإن هذا التصوير يخلق نماذج غير واقعية ومثالية للأمراض النفسية، مما يدفع بعض الأفراد إلى اعتباره أمرًا مرغوبًا.
كما أن إضفاء الطابع الرومانسي على هذه الأمراض قد يؤدي إلى إدامة الصور النمطية الضارة والمفاهيم الخاطئة، ويمكن أن يجعلها تبدو وكأنها "وسام شرف" أو طريق للإبداع، ما يؤدي في إلى توقف الأفراد عن طلب العلاج أو الدعم المناسب، ومن ثم تأخر التشخيص وتفاقم الحالة مع مرور الوقت.
وإلى جانب ذلك، قد يخلق هذا الأمر توقعات غير واقعية بشأن التعافي والشفاء، فقد يشير ذلك إلى أن المعاناة من الأمراض النفسية هو أمر نبيل أو بطولي إلى حد ما، وأن التغلب على هذه التحديات هو ببساطة مسألة العثور على الشخص المناسب، أو حدوث شيء ما يغير الحياة القائمة، لكن في الواقع يتطلب التعافي الحقيقي علاجًا متخصصًا ودعمًا مستمرًا وجهدًا شخصيًا كبيرًا.
بالانتقال من عالم وسائل التواصل الاجتماعي إلى شكل أكثر انغماسًا في الثقافة، يبرز مسلسل "13 Reasons Why" كمثال صارخ على كيفية إضفاء الطابع الرومانسي على الاكتئاب والانتحار، وقد أثار المسلسل جدلًا كبيرًا بعد عرضه مع ارتفاع معدلات الانتحار والأفكار الانتحارية بين المراهقين.
صوّر المسلسل الانتحار كوسيلة لجذب الانتباه والسعي لتحقيق العدالة، ما أدى إلى إدامة رواية خطيرة تشير إلى أن إنهاء حياة المرء هو شكل صالح من أشكال الانتقام ضد المعتدين، وهذا نهج محفوف بالمخاطر لأنه يقلل من تعقيدات المرض النفسي ويقوض الجهود المبذولة لتعزيز الوعي بالصحة النفسية ومنع الانتحار.
إن الاكتئاب والقلق ومشاكل الصحة النفسية الأخرى التي تؤدي إلى الانتحار ليست براقة أو نبيلة أو جميلة، كما يُوصف الحزن الآن، بل هي مظاهر مأساوية للمعاناة العميقة واليأس.
الأمراض النفسية في السينما والدراما
أدت الجهود المبذولة لإضفاء طابع إنساني على الاضطرابات النفسية المختلفة في الأفلام والبرامج التلفزيونية، والابتعاد عن وصم المرض النفسي في المجتمع؛ إلى نتيجة غير مقصودة تتمثل في جعلها صفات مُحببة، أو تُعامِلها بشكل خاطئ ويظهر ذلك في تركيز السينما على ظاهرة الفنان المُعذب، وتصوير الحل الأمثل للأمراض النفسية في الحب.
الفهم الخاطئ للعلاقة بين المرض النفسي والإبداع، والذي غالبًا ما يتشابك مع فكرة "الفنان المعذب"، هو أسطورة انتشرت منذ وقت طويل ولا تزال مستمرة. ويشير هذا الاعتقاد إلى أن الأفراد الذين يعانون من أمراض نفسية هم أكثر عرضة لامتلاك عبقرية إبداعية أو موهبة فنية، وهي فكرة منتشرة بشكل كبير في السينما العالمية، وخاصةً أفلام السيرة الذاتية التي تركز على الفنانين المعذبين فقط مثل "Frida"، و"At Eternity's Gate"، و"Pollock".
لذا، من الضروري دحض الأسطورة القائلة بأن المرض النفسي شرط أساسي للإبداع، فهذا الأمر ضال ومضلل، إذ تسبب الأمراض النفسية معاناة هائلة وضعفًا في الأداء اليومي، ولا ينبغي تمجيدها أو التقليل من شأنها كوسيلة لتعزيز التعبير الفني.
كما أن إرجاع الإبداع إلى المرض النفسي يتجاهل العديد من العوامل التي تساهم في الموهبة الفنية والابتكار، فالإبداع ظاهرة معقدة تتأثر بمزيج من الميول الوراثية والعوامل البيئية والخبرات الحياتية والمهارات المكتسبة.
المشكلة الثانية تكمن في تكريس فكرة أن الحب يمكن أن يعالج الأمراض النفسية، وهي فكرة رومانسية تديمها وسائل الإعلام، كما رأينا في أفلام مثل "All the Bright Places"، إذ تُشفى فيوليت من اضطراب ما بعد الصدمة بعد لقائها بفينش، وكذلك الأمر مع فيلم "The Garden State" الذي يُهمل بطلها أدوية الاكتئاب بعدما التقى حبيبته!
ومع ذلك، في حين أن الحب يمكن أن يلعب بلا شك دورًا مهمًا في صحة الشخص، إلا أنه ليس بديلاً عن العلاج المهني أو الدواء. كما أن فكرة أن الحب وحده قادر على "علاج" الأمراض النفسية فكرة ضارة ومضللة، لأنها تبالغ في تبسيط تعقيدات هذه الحالات، وتقوض أهمية أساليب العلاج القائمة على الأدلة. كما أنه قد يضع ضغطًا لا مبرر له على الشركاء الرومانسيين لـ"إصلاح" صراعات أحبائهم، ما يؤدي إلى الإحباط والشعور بالذنب وتوتر العلاقة في نهاية المطاف.
يمكن القول إن التصوير الأمثل لهذا الأمر في السينما كان في فيلم "Silver Linings Playbook"، إذ يتنقل البطلان (يجسدهما برادلي كوبر وجينيفر لورانس) في تحديات الصحة النفسية الخاصة بهما، ويجدان العزاء والتفاهم في علاقتهما ببعضها البعض. وبينما يعترف الفيلم بدور الحب والدعم في حياة الشخصيات، فإنه يؤكد أيضًا على أهمية العلاج والحصول على المساعدة المهنية في التعامل مع الأمراض النفسية.
الخلاصة إذن أن الصحة النفسية ليست "هاشتاج" أو "تريند"، بل هي طيف نمرُّ جميعًا تحت مظلته، ويحمل ثقل تجاربنا ونقاط ضعفنا. ومن خلال تفكيك الوصمة وتبنّي المعرفة الحقيقية، يمكننا أن نخلق عالمًا لا تكون فيه مشكلات الصحة النفسية مصدرًا للعار أو لعبة على الإنترنت، لكن يتم التعامل معها بجدية التعامل مع مشكلات الصحة الجسدية، لا أكثر ولا أقل.