في كتابه "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة"، الصادر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقدّم المفكر العربي عزمي بشارة قراءة نقدية لعملية طوفان الأقصى ونتائجها وتداعياتها على القضية الفلسطينية، إقليميًا وعالميًا، وأهداف "إسرائيل" من حربها الوحشية على قطاع غزة بعد العملية.
ويتوقف أيضًا عند التحديات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية جراء ما ترتكبه "إسرائيل" في غزة من أعمال وحشية وصلت إلى حد الإبادة الجماعية، كما يفرد حيزًا واسعًا لمناقشة السياسة والأخلاق والقانون الدولي في سياق الحرب على غزة، و"المكارثية الجديدة" في الغرب تجاه من ينتقد "إسرائيل" ويتضامن مع فلسطين، خاصةً في الأوساط الأكاديمية. وهذا المقال مراجعة للفصل الأول "عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة: تقييم في خضم الأحداث"، وهي أحداث لم تتغير عما كانت عليه أثناء كتابة هذا الفصل، على أن تكون هناك مراجعة للأجزاء الثلاثة المتبقية من الكتاب معًا.
يبدأ بشارة كتابه بعودة لا بد منها إلى انسحاب "إسرائيل" من قطاع غزة عام 2005 الذي سوّقت له بوصفه خاتمة احتلالها للقطاع، ما يعني أنه لم يعد هناك ما يبرِّر انطلاق أي عمل مسلح ضدها منه، وهو ما يبيِّن أنه لم يكن سوى حجة. فعدا عن أن الغاية من الانسحاب كانت التخلي عن خارطة الطريق التي طرحها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، والدولة الفلسطينية، والتخلص من "عبء ديموغرافي"، ومن الاحتكاك المباشر ببيئة مقاومة؛ يقول بشارة إن الانسحاب لم يكن نهاية الاحتلال لأن غزة ليست وطنًا قائمًا بذاته بل جزءًا من فلسطين وتحديدًا من الأراضي المحتلة عام 1967، ولأن إرهاب "إسرائيل" ضده استمر حتى بعد انسحابها منه.
ورغم انسحابها منه، ظلت "إسرائيل" قوة احتلال في قطاع غزة من خلال تحكمها في حركة سكانها وفي كل ما يدخل إليها ويخرج منها، وتحويلها إلى معسكر اعتقال تحتجر فيه أكثر من مليوني فلسطيني، ما يجعل منه أكبر معسكر اعتقال في العالم. ولذلك "لم يغمر الطوفان الأرض من العدم" حسب تعبير بشارة، ذلك أن القطاع عانى من حصار خانق مستمر منذ عام 2007، تمكنت "إسرائيل" بفعله من التحكم في اقتصاده وحياة سكانه بشكل شبه كامل كانت نتائجه وصول نسبة البطالة إلى ثلثي قوة العمل، عدا عن أن أهله لم يحصلوا على ما يستحقون من إغاثات ومساعدات إنسانية لأسباب غالبيتها سياسية، ما جعل منه مثالًا على "انحسار الفضاء الإنساني".
وهناك أيضًا، والحديث هنا عن خلفية عملية طوفان الأقصى، التهميش الذي تعرضت له القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، وتكثيف النشاط الاستيطاني، وتوسع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، وازدياد البؤر الاستيطانية، وارتفاع وتيرة عمليات اقتحام المسجد الأقصى، وكذلك حدة القمع في الضفة الغربية بين عامي 2022 – 2023، عدا عن جهود الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين دول عربية عدة وإسرائيل من دون حل عادل للقضية الفلسطينية.
تُقرأ عملية طوفان الأقصى استنادًا إلى هذه الخلفية التي يرى بشارة أنها شرط الفهم والتفسير وإن لم تكن سببًا لها، إذ إن قيادة "حماس" في غزة اتخذت قرارها بتنفيذها بناءً على هذه الخلفية، إضافةً إلى عدم تنفيذ دولة الاحتلال أي من التزاماتها المتعلقة بتخفيف الحصار على غزة بعد حروبها المختلفة ضدها. وبناءً على هذه الخلفية، يقول بشارة إنه يمكن تفسير قرار تنفيذ العملية بتلقين "إسرائيل" درسًا، كما يمكن إضافة التصدي لتهميش القضية الفلسطينية وإعادتها إلى مركز الاهتمام الإقليمي والدولي. ومع ذلك، يرى المفكر العربي أنه: "يصعب الحفاظ على عقلانية التحليل من دون افتراض أن أصحاب القرار لم يتوقعوا مثل هذا الرد الإسرائيلي، لأن افتراض معرفة حجم الرد يعني أن عملية "طوفان الأقصى" هي عملية استشهادية أو انتحارية للحركة، ولا أساس إطلاقًا لمثل هذه الفرضية" (ص 17).
كيف يمكننا فهم طوفان الأقصى؟
أخذت مقاومة "حماس" بسبب إدارتها سلطة على أكثر من مليوني شخص، حسب المؤلف، شكل قوات نظامية بحيث أصبحت اشتباكاتها مع "إسرائيل" أكثر شبهًا بالحروب منها بعمليات المقاومة المسلحة. وما ميّز عملية طوفان الأقصى هو سمتها العسكرية التي تكاد تكون نظامية بمعنى اختلافها عن عمليات المقاومة المسلحة المنفردة، وأيضًا عن إطلاق الصواريخ من حين إلى آخر.
ويمكن عدُّ العملية، وفق تقييم بشارة، استمرارًا للاستراتيجية الدفاعية التي اتسمت بها المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان بعد تخلي الدول العربية عن الاستراتيجية الهجومية ضد "إسرائيل". فالعملية ردٌّ على اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي، والحصار المتواصل على قطاع غزة وعدم الوفاء بالوعود المختلفة لتخفيفه بعد كل حرب من الحروب الأربع، وسوء أوضاع الأسرى الفلسطينيين وظروف سجنهم منذ تأليف حكومة الائتلاف اليميني المتطرف وتعيين إيتمار بن غفير وزيرًا للأمن القومي.
مع ذلك، يقول صاحب كتاب "صفقة ترامب – نتنياهو" إن العملية كانت أيضًا ذات طابع هجومي وتحاكي أسلوب الجيوش النظامية، وإن "حماس" أظهرت في 7 تشرين الأول/أكتوبر أنه أصبح لديها قوة عسكرية نظامية ليست قادرة على شن حرب، لكنها قادرة على إطلاق عملية حربية بكل معنى الكلمة. وهذا تجاوز للمنطق الدفاعي الردعي باعتباره الوحيد الممكن كما تبيَّن من تاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني.
وهنا يرى أن حسابات من قرّر وخطط وأصدر الأمر بتنفيذ العملية، بعيدًا عن النقاش حول الحق الثابت في مقاومة الاحتلال، كانت حسابات خاطئة لأن استراتيجية الكفاح المسلح الممكنة في الظروف الراهنة هي الردع والدفاع مع هامش واسع لعمليات استنزاف غايتها منع تطبيع حالة الاحتلال وتحوّله إلى وضع عادي، خاصةً في ظل ميزان القوى بين "إسرائيل" وحركات المقاومة في غزة والضفة الغربية من جهة، والأوضاع الإقليمية من جهة أخرى، حيث تنقسم الدول العربية بين دول معنية بالقضاء على "حماس" أو إخراجها من المعادلة الإقليمية على الأقل، وأخرى لا تستطيع أن تشاركها المواجهة المباشرة مع "إسرائيل" أو غير راغبة في ذلك.
يشير المفكر العربي، في هذا السياق، إلى وجود سيناريوهين بشأن مسألة حسابات من خطط وأمر بتنفيذ عملية طوفان الأقصى؛ يستند الأول إلى تصريحات قيادة الحركة في الخارج، أي أن هدف العملية كان توجيه ضربة محدودة للقوات الإسرائيلية وأخذ رهائن لغرض صفقة تبادل. لكن مجرى العملية انحرف في بعض الحالات عما خُطط لها لسببين، الأول هو الانهيار السريع للدفاعات الإسرائيلية على حدود غزة، والثاني دخول جموع من الغزيين من سكان المنطقة الحدودية، وغوغاء لا سيطرة لـ"حماس" عليها، إلى المستوطنات. والخلاصة أن نتائج العملية تجاوزت التوقعات.
أما الثاني، فيرى أنه يمكن رسمه إذا أُخذ خطاب القائد العام لـ"كتائب القسام"، محمد الضيف، بعد انطلاق العملية مباشرةً، بجدية ضمن التحليل. فالخطاب كان بمثابة إعلان شن عملية حربية على دولة الاحتلال، كما كانت أهدافه تتجاوز الأهداف المحدودة وفقًا للسيناريو الأول، ما يعني أنها لم تكن أهدافًا متواضعة لكونها تضمنت أمنيات أو توقعات بأن تُطلق العملية مواجهة شاملة ضد الاحتلال سواء على مستوى الشعب الفلسطيني أو الأمة بأكملها. وفي الحالتين، الأهداف المتواضعة وغير المتواضعة، كانت الحسابات خاطئة.
وهكذا، لم يتبقَ هناك سوى الإنجازات السياسية التي لم يُخطَّط لها وفق بشارة: إفشال تهميش القضية الفلسطينية، والتضامن الشعبي العالمي الواسع مع الشعب الفلسطيني في غزة نتيجة الفظائع التي ارتكبتها "إسرائيل". وجاء هذا التضامن في الوقت الذي ذهبت فيه الدول الحليفة لـ"إسرائيل"، في تضامنها معها واستنكارها لعملية طوفان الأقصى، إلى درجة دعم حربها على غزة بشكل غير مشروط، خاصةً الولايات المتحدة التي تبنّى رئيسها، جو بايدن، الرواية الإسرائيلية بدون أي إثبات أو دليل.
وهذا ما فعلته أيضًا المؤسسات الإعلامية الغربية التي لم تكتف بالاصطفاف خلف الرواية الإسرائيلية وتكرارها فقط، بل رفضت منذ البداية الاستماع إلى أي تفسير عقلاني لما جرى، وأصرت على أن يبدأ ضيوفها في المقابلات التلفزيونية بتصريح يدين العملية وحركة "حماس" التي ساهمت مع "إسرائيل" في شيطنتها.
لكن "إسرائيل" تجاوزت مسعى شيطنة "حماس" إلى شيطنة الغزيين أنفسهم بوصفهم الحاضنة الاجتماعية غير البريئة لأنهم لم يثوروا على حكم الحركة للقطاع بما يتيح الاقتصاص الاجتماعي منهم. و"إسرائيل" في النهاية نظام استيطاني استعماري يرد على أي عملية عنف يتعرض لها مستوطن أو أكثر بالانتقام من الجماعة التي ينتمي إليها، ويبحث عند تعرضه لهجوم يهدِّد وجوده عن الثأر القبلي لتجاوز حالة الخوف واستعادة اتزانه وهيبة الردع في الوقت ذاته.
الحرب الإسرائيلية على غزة ودوافعها
يرى عزمي بشارة أن رد الفعل الإسرائيلي الأولي على عملية طوفان الأقصى قد جمع بين الصدمة والاندهاش وإحياء المخاوف الوجودية بسبب ما أظهرته العملية من قدرات فلسطينية غير متوقعة، تطورت في ظل حصار مستمر منذ 17 عامًا، إضافةً إلى الغضب ومشاعر الإهانة نتيجة انقلاب الوضع الذي كان سائدًا قبلها، والذي تجلى في صورة الفلسطيني الذي يجرّ/يسحب جنديًا إسرائيليًا من الدبابة. ومنذ ذلك اليوم، تعيش "إسرائيل" عملية تعبئة وتجييش قبلية بدائية بأساليب تكنولوجية حديثة كما وصفها بشارة، الذي أوضح هنا أنه لم تُستخدم في هذه العملية الوقائع التي جرت فحسب، بل كل ما من شأنه مخاطبة الغرائز وتعميق المخاوف الوجودية، خاصةً الهولوكوست ومعاناة اليهود عبر التاريخ، عدا عن التعابير والأوصاف العنصرية التي لا تكتفي بشيطنة الطرف الآخر بل تدعو إلى إبادته.
ورغم اعتقاد غالبية الإسرائيليين بأن تحقيق "النصر المطلق" (المقولة التي يكررها نتنياهو منذ بداية الحرب وإلى الآن) غير ممكن، إلا أنهم يعارضون في الوقت نفسه وقف الحرب حتى لو كان مقابل مكاسب سياسية تتجاوز إطلاق سراح المحتجزين. فالأمر حسب المؤلف لا يرتبط لديهم بتحقيق النصر أو أي مكاسب سياسية، وإنما بدوافع أقل عقلانية تتمثل في الثأر والانتقام من الفلسطينيين. ولا يمكن، وفق بشارة، تفسير تدمير "إسرائيل" لقطاع غزة، وفرضها سياسة عقوبات جماعية على سكانه، بعيدًا عن هذه الدوافع. كما أن لهذه العقوبات أهداف سياسية تجعلها "نوعًا من الإرهاب"، أهمها دفع أهالي قطاع غزة إلى استنتاج أنه ليست هناك أي جدوى من المقاومة في المستقبل، عدا عن عواقبها، واتخاذ موقف من حركات المقاومة، أي استنتاج ما تريد "إسرائيل" نفسها استنتاجه.
ومع ذلك، يرى صاحب "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة" أنه من المبكر الحكم على ما إذا كانت نتائج عملية طوفان الأقصى ستشكّل رادعًا يمنع القيام بمثلها في المستقبل، ذلك أن الأمر يتوقف على مصير قطاع غزة بعد الحرب، حيث يقول: "صحيح أن أي مقاومة فلسطينية في المستقبل سوف ترغب في تجنب حرب إسرائيلية، ولكن هل يمكن أن يتنبأ أحد بسلوك من عاشوا هذه الحرب وشهدوا فيها ما شهدوا من ويلات، وفقدوا فيها ما فقدوا من طفولتهم وشبابهم وأحبائهم؟" (ص 44).
إذن، بالإضافة إلى الأهداف المعلنة من الحرب، هناك أهداف أخرى غير معلنة تتمثل في تقويض مقومات الحياة في قطاع غزة وجعله غير صالح للحياة البشرية، وإلحاق أكبر قدر من الأضرار الجسدية والمعنوية بأكبر عدد من سكانه ودفعهم إلى الهجرة، إذ لن يجد الغزيون بعد نهاية الحرب مدارس لأبنائهم، ومستشفيات للعلاج، وعملًا يدر دخلًا، وسقف بيت يؤويهم.
اليوم التالي للحرب وحل الدولتين
أفشلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عملية تهميش القضية الفلسطينية لدرجة اعتراف عدة دول غربية بدولة فلسطين، لكن بشارة يرى أن هذا الاعتراف يُفرَّغ من معناه إذا لم يشمل حدود الدولة، أي خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة. ويبيِّن ضمن هذا السياق أن حديث الولايات المتحدة عن حل الدولتين عبارة عن كلام دون أي رصيد طالما أنها ترهنه بموافقة "إسرائيل" عليه في المفاوضات مع الفلسطينيين. وهذه الموافقة غير ممكنة من دون قائمة تنازلات ضخمة تتمثّل في تنازل الطرف الفلسطيني عن القدس، والتسليم بوجود الكتل الاستيطانية، وإلغاء حق العودة، والقبول بنزع سلاح دولته، والتنازل عن السيادة عن الأجواء، والنتيجة أن "إسرائيل" لم توافق، فعليًا، إلا على تحويل اسم "السلطة" الفلسطينية إلى "دولة" مقابل كل هذه التنازلات.
وأكد بشارة أن "إسرائيل" والولايات المتحدة تتجنبان الخوض في حل عادل للقضية الفلسطينية حتى بعد كل ما حلّ بقطاع غزة. وبدلًا من ذلك، تبحثان عن سُبل لإدارة القطاع من خلال إنشاء سلطة تحت إشرافٍ أمني إسرائيلي. فالمهمة الأولى بالنسبة إلى "إسرائيل"، بعد انتهاء الحرب، هي إيجاد بديل لـ"حماس" يمكنه فرض الأمن في غزة بالتعاون مع دول عربية معينة، لكن شرط ألا يكون هذا البديل هو السلطة الفلسطينية في رام الله.
يستنتج بشارة مما سبق أن مشاريع اليوم التالي الإسرائيلية والأميركية المجهولة لا تتضمن حلًا عادلًا لقضية فلسطين، بل حلولًا إبداعية لكيفية إدارة قطاع غزة بحيث لا يشكّل تهديدًا لأمن "إسرائيل" في المستقبل. وما تريده دولة الاحتلال هو سلطة تتعاون معها في إدارة القطاع، بمعنى اتفاق جديد بعقلية اتفاق أوسلو القديمة ذاتها: ضمان أمن "إسرائيل"، ومنح الفلسطينيين سلطة قادرة على ضمانه، وتأجيل الحل الدائم. وهذا يعني استمرار صفقة ترامب ونتنياهو: "التي سُميِّت صفقة القرن، لناحية الجمع بين الحلول الاقتصادية للقضية الفلسطينية "بتحسين الظروف المعيشية للسكان" وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل. وهذا يعني تعويض الناس عن الحقوق الوطنية والعدالة برفع الحصار، وإعادة البناء، والتوظيف في أجهزة أمنية، وإنعاش الاقتصاد، وكل هذا لإنجاح سلطة موالية لإسرائيل من دون معالجة شرور الاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية" (ص 67).
ويؤكد بشارة أنه لا يمكن التصدي لهذه المشاريع الإسرائيلية – الأميركية من دون إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تشمل جميع قوى الشعب الفلسطيني، وتكون بذلك الشريك الوحيد الممكن في وقت تبحث فيه دول العالم عن شريك فلسطيني يشدِّد بشارة على أنه لا يجب أن يقبل بأقل من التوجه مباشرةً نحو الحل العادل بالحد الأدنى الذي تتوافق عليه قواه الفاعلة الرئيسية. والمسألة متوقفة، كما يرى المفكر العربي، على قدرة الفلسطينيين على إزاحة صراعاتهم وخلافاتهم جانبًا في هذه اللحظة التاريخية التي يمكنهم فيها استثمار معاناة قطاع غزة وتضحياته ومقاومته البطولية، والتضامن العالمي الواسع مع القطاع، إضافةً إلى تبديد وهم أنه يمكن تهميش القضية الفلسطينية؛ لفرض حل عادل.
دون إصلاح منظمة التحرير بناء على أُسس ديمقراطية، وقيام وحدة فلسطينية، فإن البديل سيكون هو أنواع مختلفة من التسويات المؤقتة غير العادلة التي يقول إنها ستحصد سياسيًا قدرة "إسرائيل" على التدمير بدلًا من حصد قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة والصمود. عدا عن أنها ستنطلق من اعتبار أن طوفان الأقصى جريمة كبرى من منظور "إسرائيل" والغرب، وكارثة كبرى على الشعب الفلسطيني من منظور الشركاء العرب والفلسطينيين، وأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بكل قسوتها ووحشيتها، كانت ردًا عليها.
وهذه الحرب، وما خلّفته من دمار هائل غير مسبوق، لا يفسّرها الانتقام واستعادة هيبة الردع الإسرائيلية فقط، بل هناك أيضًا "تهدئة روع" المجتمع الإسرائيلي، وجعل غزة عبرة تردع أي قوة مسلحة في فلسطين ومحيطها عن تكرار ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وذلك إلى جانب تأليب المجتمع الفلسطيني على حركات المقاومة، بل فكرة المقاومة نفسها، من خلال تحميلها المسؤولية عما تعرض له قطاع غزة منذ حصاره قبل 17 عامًا.
وعن هذه المسألة، تحميل المقاومة مسؤولية حرب الإبادة، يقول مؤلف "الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار" إن تحول لوم المقاومة من حالة إحباط وسخط معنوي إلى أفكار مؤثرة سياسيًا، يعتمد على مدى نجاح "إسرائيل" وبعض الدول العربية في فرض تصوراتها لليوم التالي: "فإذا نجحت إسرائيل في ذلك، فإنه سيكون ثمة حملة لفرض تحميل المقاومة المسؤولية عما جرى منذ ذلك اليوم وقاد إلى "اليوم التالي" وترتيباته الجديدة. أما إذا فشلت، فسوف تتحول عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى "فصل من فصول النضال الفلسطيني، بما يتضمنه من بطولات وانتكاسات وإنجازات وإخفاقات" (ص 82).