نجوم حول الكوكب.. فرقة أم كلثوم في وجدان السميعة

20 سبتمبر 2024
الذين وراء الست
كان عازفو الست يفهمون عاداتها على المسرح ويقرؤون إشاراتها ورغباتها في الإعادة أو الانتقال، ويسدّون لحظات صمتها بالعزف ويسعفونها في أوقات الارتباك والنسيان

في حفلاتها المصورة، تكاد أم كلثوم تستحوذ على المشهد البصري بشكل كامل، ذلك أن حضورها الباذخ صوتًا وغناءً، وطربًا وانفعالًا، لا يُبقي من عين المشاهد ولا ذهنه ما يتوجه إلى غيرها من مكونات الصورة. ربما انتبه كثير من المشاهدين للموسيقار محمد القصبجي وهو جالس خلفها على عوده، لما له من تاريخ ومكانة وما يثيره من تعاطف بشيخوخته ووجهه النحيل ونظارته الداكنة التي يخبئ خلفها أحزانه، لكن بقية أعضاء الفرقة يبقون في الهامش غير المرئي من الصورة.

الأمر مختلف عند سمّيعة أم كلثوم الذين يعرفون معظم أعضاء الفرقة، ليس فضولًا إلى الصورة لذاتها – وإن كان لكثير من أعضاء الفرقة كاريزما كانت لتمنحهم الشهرة لو لم يكن المغني سيد الموقف في عرف السماع العربي – لكن لما فرضه الصوت لهم من حضور جعل تتبُّعهم في الصورة شغفًا حتميًا لا ينفلت من عقاله سمّيع حقيقي.

في التسجيلات الصوتية، تختلف توزيعات المتن والهامش، ويستطيع العازفون منازعة أم كلثوم على المتن بمقادير متفاوتة ولأسباب مختلفة، منها غياب صوت الست عند عزف المقدمات واللوازم الموسيقية، ومنها قوة أصوات بعض الآلات أثناء مصاحبة الغناء في بعض المواضع، ومنها ما درج عليه الطرب العربي من حب التصرفات والارتجالات التي مارسها هؤلاء العازفون بكثرة في جُمَل اللحن الموضوع بما لا يُخل بزمنها وببنيتها الأساسية، وفي الأوقات التي كانت ثومة تنحي اللحنَ فيها جانبًا لترتجل طويلًا في ما اصطلح السميعة على تسميته بـ"التفاريد" ليشاركها العازفون نجومية الارتجال، لدرجة أن تفسح لبعضهم الوقت ليؤدي تقاسيم منفردة وينال تصفيق الجماهير.

الآباء المؤسسون

خلال سنواتها الأولى في القاهرة، كانت أم كلثوم تغني على المسارح بصحبة بطانة من المشايخ، على رأسهم والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي وشقيقها خالد وبعض أقاربها الآخرين، الذين قدموا معها من قرية "طماي الزهايرة" بمحافظة الدقهلية عام 1923. وفي العام التالي، تعرّفت على الموسيقار الشاب محمد القصبجي ليبدأ رحلته معها ملحنًا سيصنع مجدها ويجدد بها شكل الغناء العربي، وعما قليلٍ عازفًا ملازمًا لها إلى السنوات الأخيرة من عمره، بعد أن خانه الحظ في عالم التلحين.

سجلت أم كلثوم بعض الأسطوانات بصحبة الموسيقى عام 1924، لكنها ظلت تغني على المسارح بصحبة بطانة المشايخ، إلى أن شهد العام 1926 تأليف أول تخت موسيقي لها.

يُعزى إلى محمد القصبجي الفضل في تكوين تخت أم كلثوم، ومثّل ضلعًا أساسيًا فيه بالعزف على العود، فيما عزف على القانون العازف الكبير محمد العقاد الذي كان في أخريات عمره الذي عمل فيه مع عبده الحامولي زمن الخديوي إسماعيل، وعلى الكمان عزف سامي الشوا عازفها البارز، نجل أنطوان الشوا أول من أدخل الكمان إلى التخت العربي.

هذا المثلث الأول لن يبقى منه إلا القصبجي، فسرعان ما سينسحب العقاد ليحل محله إبراهيم العريان. ومع بداية عقد الثلاثينيات يخلفه نجم القانون الأشهر محمد عبده صالح، الذي سيرافق الست أربعين عامًا، ينال في نصفها الثاني شرف قيادة فرقتها. كما انسحب سامي الشوا ليحل محله كريم حلمي الذي ظل لسنوات عازف الكمان الوحيد معها.

إعلان أول تخت لأم كلثوم سنة 1926
إعلان أول تخت لأم كلثوم سنة 1926 (ميغازين)

رحلة الآلات مع سيدة المطربات

يحتفظ العود والقانون بالدسم الأكبر من الهوية العربية لصوت الموسيقى، فلا تخطئ الأذن روح العروبة في جملة تتناوب فيها نقراتهما. كما كان لهما، وخاصةً العود، حضورهما البارز في التراث العربي وأخبار الأغاني والمغنين، لذلك لم يكن من الغريب أن يستحوذا على الأهمية الكبرى في الأعراف الموسيقية للحقبة التي ظهرت فيها أم كلثوم.

عزف محمد القصبجي على العود منذ تأسيس التخت الكلثومي عام 1926، عدا عن قيادته لهذا التخت نحو ثلاثة عقود، وظل منفردًا بمقعده أربعين عامًا حتى وفاته عام 1966. وحين مات، كانت آلات الكمان قد كثرت حتى غيّبت صوت العود وأزاحته عن صدارة المشهد، كما أن سنوات شيخوخة القصبجي جعلته هادئ العزف بعد أن كان صوت نقره أعلى من أصوات الآلات الأخرى في تسجيلات الثلاثينيات والأربعينيات، وربما للسببين معًا، لم تجد أم كلثوم ضرورة لتعيين عازف بديل لأكثر من ثلاث سنوات، وإن كان وجدان المستمعين فهمَ هذا الامتناع حدادًا على القصبجي أستاذها ورفيق رحلتها.

وفي نهاية عام 1969، عاد العود وراء أم كلثوم مع العازف المُجيد عبد الفتاح صبري، وربما كان الفضل في عودته للموسيقار محمد الموجي الذي وضع صولو (عزف منفرد) للعود في مقدمة أغنية "اسأل روحك" التي قُدمت في ذلك الموسم، وصحب صبري الست في سنواتها الأخيرة حتى اعتزالها الصحي عام 1973، ووفاتها بعد ذلك بعامين.

أما القانون فقد بدأ عليه العقاد عام 1926، وسرعان ما خلفه إبراهيم العريان، لكن العام 1932 كان فارقًا في رحلة القانون مع الست، إذ انفرد به محمد عبده صالح ليصبح نجم فرقتها الأشهر بعد القصبجي، ولأربعة عقود، لما حباه الله من موهبة جبارة، ولما تمتع به صوت القانون من قدرة على التغريد والتطريب.

وبوفاته في نهاية يونيو/حزيران عام 1970 اضطرت أم كلثوم إلى إحياء حفلاتها في لبنان أوائل الشهر اللاحق بلا قانون، ثم حل محله فهمي رشوان ليرافقها في السنوات الثلاث الأخيرة، لكن نجومية القانون في الفرقة انطفأت فعليًا بوفاة عبده صالح.

أما الكمان فقد عزف عليه سامي الشوا ثم ترك تخت أم كلثوم مبكرًا ليحل محله كريم حلمي، الذي انفرد بالكمان قرابة عقد، وإليه يُعزى صوت الكمان في أسطوانات أم كلثوم أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات.

ومع منتصف الثلاثينيات، انضم إلى الفرقة عازف الكمان الأشهر أحمد الحفناوي الذي سيتقدم إلى موقع العازف الأول بعد سنوات قليلة. وفي الأربعينيات، سينضم إليه عبد المنعم الحريري ومحمود القصبجي. ومع عقد الخمسينيات، سيزيد عدد عازفي الكمان ليتجاوز العشرين في الستينيات، كان من أشهرهم أنور منسي وعبد الغني غنيم وكمال الشويخ وعز الدين حسني ومحمد نصر الدين، ولنشاهد عازفي الكمان في تسجيلات التلفزيون صفين يشكلان أكثر من نصف الفرقة.

مع نهاية العشرينيات، انضم الناي إلى التخت الكلثومي عضوًا أساسيًا من خلال عازفه جرجس سعد، الذي كان في الأصل مرتّلًا كنسيًا، وبعد نحو عقد، آثر التفرغ للكنيسة فحل محله حسين فاضل، الذي حل سيحل محله في عام 1949 سيد سالم، الذي واصل مع أم كلثوم حتى النهاية.

فضلت أم كلثوم سالم على حسين فاضل لما تمتع به الأول من موهبة وقدرة كبيرة على الإبداع، وتركت له مساحة واسعة ليتصرف بإبداعه، فكان يعزف أحيانًا على الطبقة العالية بينما تعزف الفرقة على الطبقة المنخفضة، ما يجعل صوته مغردًا بوضوح. كما كان يرتجل الزخارف داخل الجمل بحُرية كاملة، فضلًا عن أنه كان يلقِّن أم كلثوم إذا نسيت بعض الكلمات.

انضم الرق إلى الفرقة عبر إبراهيم عفيفي الذي صاحب أم كلثوم لنحو ثلاثين عامًا حتى وفاته عام 1961، وكان صاحب فضل كبير في ضبط تفاريدها وارتجالاتها، كما كان بارعًا في الزخرفة بالإيقاع خلال الفواصل واللوازم. وبعد وفاته، حل محله حسن أنور ثم حسين معوض.

ثم جاء التشيللو بعد ذلك عبر محمود رمزي، ثم محمود الحفناوي وحسان كمال الذي كان بارعًا في العزف عليه بأصابعه ليحمل عبئًا كبيرًا في ضبط الإيقاع المنغم، ثم مجدي فؤاد بولس. وفي عام 1942، دخل الكونترباص مع عباس فؤاد الذي بقي معها إلى النهاية.

وفي الستينيات، ومع تحديثات عبد الوهاب في الأغنية الكلثومية، دخلت آلات جديدة وعازفون جدد: الغيتار مع عازف الكمان عبد الفتاح خيري ثم تادرس عزيز ثم عمر خورشيد، والأكورديون مع فاروق سلامة. وفي نهاية الستينيات الأورغ مع جمال سلامة، ثم هاني مهنا ومجدي الحسيني، فيما فشل الساكسفون في الاستمرار بعد لحنين عزف فيهما سمير سرور.

فرقة أم كلثوم في الثلاثينيات
فرقة أم كلثوم في الثلاثينيات، من اليمين: إبراهيم عفيفي، جرجس سعد، محمد القصبجي، عبده صالح، كريم حلمي، أحمد الحفناوي (ميغازين)

عِشرة مع الست.. ومع الألحان

يمكن اعتبار "العِشرة" فكرة رئيسة حكمَت العلاقات في فرقة أم كلثوم، فقد لازمها معظم أعضاء الفرقة سنوات طوال تُخرِجُ العلاقة عن إطارها الفني الوظيفي إلى إطار إنساني واجتماعي رحب ومتشابك، أول المستفيدين منه هو الفن ذاته.

صحبها محمد القصبجي ومحمد عبده صالح وكريم حلمي وأحمد الحفناوي قرابة أربعين عامًا، وبلغت صحبة آخرين ثلاثين عامًا كعبد المنعم الحريري ومحمود القصبجي وعباس فؤاد، ولازمها عازف الناي سيد سالم أربعة وعشرين عامًا، ولم تقل صحبة عازف ملازم لها عن عشر سنين باستثناء عازفي بعض الآلات الغربية التي طرأت على أغانيها في سنيها الأخيرة، وبعض عازفي الكمان الذي انضموا إلى الصفوف الخلفية.

هذه المدة الطويلة خلقت بين الست وعازفيها مستويات نادرة من التفاهم والتوافق جعلت المزيج الصوتي الذي ينتجونه معًا في أعلى حالاته الطربية، فكانوا يفهمون عاداتها على المسرح ويقرؤون إشاراتها ورغباتها في الإعادة أو الانتقال، ويسدّون لحظات صمتها بالعزف ويسعفونها في أوقات الارتباك والنسيان.

وترتفع دقة هذا التفاهم حين نذكر أن أم كلثوم كانت تأبى الاعتماد على النوتة، وتفضل أن تحضر الفرقة مع الملحن عشرات البروفات على اللحن الجديد حتى يحفظه العازفون عن ظهر قلب، مع اعتبار ما يمكن أن يطرأ على اللحن من تغيير أثناء فترة التحضير، فتسجيلات البروفات تظهر اختلافات كبيرة بين الألحان في صورتها الأولى وصورتها التي ظهرت على المسرح، ما أكد تمكن العِشرة بين اللحن وبين العازفين الذين شهدوا مولده ومراحل تطوره واكتماله.

ثم تدخل العِشرة مع اللحن مرحلة أخرى حين تؤديه الفرقة على المسرح عشرات المرات في عشرات الحفلات. فعلى سبيل المثال، غنت أم كلثوم "رق الحبيب" لمدة خمسة عشر عامًا بين 1941 و1956، وغنت "أهل الهوى" لثلاثة عشر عامًا بين 1946 و1959، وغنت "رباعيات الخيام" لأحد عشر عامًا بين 1950 و1961، ثم عادت فغنتها في المغرب عام 1968، وحتى ألحان الستينيات غنتها عشرات المرات في متوسط أربع أو خمس سنوات، ولم يُستثن من هذه العِشرة الطويلة إلا ألحان سنواتها الأخيرة في السبعينيات، حيث قل عدد حفلاتها وعدد وصلات الحفل الواحد، فلم يعد اللحن يُغنى إلا ثلاث أو أربع مرات.

هذه الممارسة الطويلة والمتكررة للحن من قبل العازفين جعلت الألحان محفوظة لهم كأسمائهم، وخلقت ارتباطًا عاطفيًا ومزاجيًا بينهم وبين اللحن أخرجهم من حدود الممارسة الآلية إلى الممارسة الجمالية. ومع غياب النوتة على المسرح، صار المرجع هو مزاج أم كلثوم حين تريد الإعادة أو حين تتجلى فتأتي من دقائق الطرب بما يُطرب العازف فيأتي بفرائده أيضًا، ومزاج العازف إذا شعر في اللحن بمساحة للإبداع والتفريد تجعله يقول شيئًا مختلفًا بما لا يُفسد الجملة وسير اللحن العام، وكانت أم كلثوم بطبيعة نشأتها المشيخية ترحب بهذه التصرفات وتعرف أنها من توابل الطرب الضرورية، كما كانت تُقدر قيمة عازفيها وتعرف أنهم أساتذة الفن و(أسطواته) فتطرب لهم وتستلهم منهم.

فرقة أم كلثوم في الستينيات
                    فرقة أم كلثوم في الستينيات تتلقى التعليمات النهائية من عبد الوهاب قبل فتح الستار لأداء لحن "أنت الحب" (ميغازين)

نجوم وراء الست.. ومعها

برزت نجومية العازفين في التصرفات والزخارف الصغيرة التي يؤدونها داخل الجُمل المكتوبة، وكانت هذه التصرفات أشد وضوحًا في تسجيلات حفلاتها القديمة في الثلاثينيات والأربعينيات بسبب قلة عدد الآلات وقدرة المستمع على تمييز أصواتها جميعًا. ومع الستينيات، زاد عدد الوتريات زيادة كبيرة جعلها تفرض صوتها الجمعي على الآلات الأخرى، لكن بقي كثير من التصرفات والزخارف واضحًا تدركه آذان السمّيعة.

وثمة ظاهرة أخرى مثلت واحدة من أهم مظاهر نجومية العازفين وأوضحها للجمهور، وهي التقاسيم المكتوبة، أي مواضع العزف الفردي التي يحددها الملحن لإحدى الآلات، وغالبًا كان القانون والكمان الأشد حظوة بهذه المقاطع، حيث كان انتباه الجمهور كله ينصرف إلى العازف الذي يُبدع في التقسيمة فلا تنتهي إلا بعاصفة من التصفيق وطلبات الإعادة. وكانت أم كلثوم تبتسم لهذه الطلبات وتطلب من العازف أن يُعيد، فيُعيد مضيفًا إلى الجملة حِلى وزخارف من ارتجاله تنتزع من الجمهور إعجابًا أكبر وتصفيقًا أكثر، وكان من أشهر صولوهات القانون ذلك الذي عزفه محمد عبده صالح في أغنية "دليلي احتار" 1955، كما يحضر صولو المقدمة في "أمل حياتي" 1965م واحدًا من أشهر صولوهات الكمان وأكثرها شعبية.

لكنّ نجومية العازفين تنبسط وتنتعش أكثر إذا خرجت أم كلثوم عن اللحن الموضوع إلى الارتجالات التي اصطُلح على تسميتها "التفاريد"، هنا يخرج العازفون أيضًا عن أي لحن محفوظ سلفًا، ليصاحبوها بارتجالاتهم، عبر جُمَل قصيرة تُغطي سكتاتها وتتعانق مع جُملها المرتجلة. هنا يظهر إبداع العازفين ويتفاوتون بحسب تجلياتهم وحالاتهم المزاجية في الليلة، فتسمع من العود جملة غير التي تسمعها من القانون غير تلك التي تسمعها من الكمان، يُعزفن معًا في زمن واحد، وفي توافق توزيعي غير مخطط.

مهارة المصاحبة في الارتجال لا تتوافر لأي عازف، فهي تحتاج مرونة وسرعة بديهة ودرجة عالية من التفاهم مع المغني، لذلك كانت تقتصر هذه المصاحبة على العازفين الكبار في الفرقة، عازفي العود والقانون وعازف الكمان الأول، وربما شاركهم الناياتي، فضلًا عن الرقّاق إذا كان الارتجال موقّعًا، فيما يسكت الرقاق إذا كان الارتجال مرسلًا بلا إيقاع، أما بقية عازفي الوتريات فيسكتون أو يكتفون بعزف نغمة واحدة ممتدة كفرشة صوتية في الخلفية دون تأليف جُمل.

مثلت التفاريد الطويلة فرصة أكبر لتصدّر العازفين المشهد حين كانت أم كلثوم تسكت في منتصف التفريد لتمنح الصدارة لأحد عازفيها ليرتجل تقاسيم على آلته وينفرد بالنجومية لعدة دقائق تنتهي بانفجار الجمهور بالتصفيق، ولعل تفاريد كوبليه "حكيت لك عن سبب نوحي" في أغنية "يا ظالمني" المثال الأشهر، إذ شهدت في كثير من الحفلات تقاسيم منفردة للقانون ثم العود، أو القانون ثم الكمان، أو الآلات الثلاث، ولم يكن امتياز التقاسيم المرتجلة يخرج عنها.

أحد أبرز تجليات التفاهم بين ثومة وعازفيها حين كانت ترتجل جُملة نغمية وتعيدها فيلتقطها العازفون ويؤدونها، وبلغ هذا النوع ذروته في أغنية "أنا في انتظارك" في حفل آذار/مارس 1955، حين ارتجلت جملة موقّعة طويلة على كلمتيْ "ويّا الأفكار" ليلتقطها العازفون ويجعلوا منها فاصلًا موسيقيًا لم يكن له وجود في الأغنية قبل هذا الحفل، يعزفونه لاستئناف التفريد.

هذه الحرية في الارتجال والزخرفة مثلما عرضت لنا فسيفساء ثرية لطبيعة الطرب الكلثومي، كانت تتسبب أحيانًا في ارتباك واختلاط بين العازفين حين تختلف توقعاتهم بين إعادة المقطع أو الانتقال إلى الذي يليه، ولم تكن هذه الارتباكات أقل لذة، إذ أتاحت لنا سماع نغمات منفردة غير مخططة يتجلى فيها تفرد العازف بعيدًا عن المجموع، كما حملت العودةُ إلى السياق الصحيح طربًا آخر عبر استدراج ماكر يقوم به في الغالب عازف القانون القدير محمد عبده صالح لينظم الفرقة كلها في عقده مرة أخرى.

تجاذبات النجومية بين الآلات والعازفين

كان العود نجمًا بارزًا في العقود الأولى لفرقة أم كلثوم، وهي العقود التي تزعم فيها القصبجي حركة التلحين لها، ونجد له صولوهات وتقاسيم في ألحانه خصوصًا. أما ألحان غيره فتكاد تخلو من ذلك، ولا ندري أتحرّجَ الملحنون من إملاء التقاسيم على القصبجي وهو أستاذهم وأستاذ العود، أم غاروا من أن يبزغ نجمًا في ألحانهم كما هو نجم في ألحانه! خفتت نجومية العود في العقد الأخير من حياة القصبجي، قبل أن يعود مرة وحيدة في صولو بديع مع عازفه الأخير عبد الفتاح صبري عام 1970.

لكن سرعان ما فرض القانون هيبته لما له من صوت مغرد رنان، ولما لعازفه عبده صالح من البراعة، فكان أكثر الآلات حظًا من التقاسيم الموضوعة والمرتجلة حتى وفاة عبده صالح عام 1970، تليه الكمان التي فرضت حضورًا طاغيًا لتعدد عازفيها ووضوح صوتها، استمر هذا الحضور حتى النهاية وتضاعف في السنوات الأخيرة، حين آلت قيادة الفرقة إلى عازف الكمان الأول أحمد الحفناوي.

وحظي الناي بعدد من الصولوهات المنفردة خاصة في السنوات الأولى من حقبة سيد سالم، الذي تألق به في الصولوهات الموقعة في أعمال كبرى مثل "نهج البردة" و"ولد الهدى"، ومنحه مذاقًا خاصًا بزخارفه الإيقاعية داخل الجملة دون أن يُخل بإيقاعها الأساسي، وحتى في الأغنيات التي خلت من صولوهات للناي حافظ سيد سالم على حضور طاغٍ بحُريته في اختيار الطبقة وبالتفريد والتقسيم داخل الجملة، حتى لَيبدو صوته في حفلات الستينيات أوضح الأصوات بعد أم كلثوم.

وكان لزخارف عازف الإيقاع إبراهيم عفيفي حضور لا يقل عن ناي سالم، لكن العقد الكلثومي الأخير شهد نجومًا جديدة كالغيتار الذي صار له صولو واحد على الأقل في كل أغنية من ألحان عبد الوهاب وبليغ حمدي، والأورغ الذي كان صوت السبعينيات الأعلى صراخًا، أو صياحًا.

لم يكن التلفزيون الفرصة الأولى لظهور فرقة الست أمام المشاهدين، إذ ظهروا معها في أغنيتين من فيلم "نشيد الأمل" عام 1937، لكن عام 1961 حمل لهم فرصة الظهور المتكرر عبر التلفزيون، وعلى شاشاته كان محمد القصبجي ومحمد عبده صالح الأعلى حظًا في الظهور لمجاورتهما للست، وربما دخل معهما الكادرعازف الكمان الأول أحمد الحفناوي وعازف الناي سيد سالم، الذي صار جار الست عن شمالها في سنوات غياب العود، هذا عند التصوير من المواجهة.

وبسبب آثار مرض الغدة الدرقية على عينيها كانت أم كلثوم تفضل التصوير من يمينها، فتصبح الحظوة هنا للجالسين عن يسارها، القصبجي على عوده، وسيد سالم على نايه وعازفو التشيلو محمود الحفناوي وحسان كمال ومجدي فؤاد، فيما لا يظهر بقية العازفين إلا إذا وسع المخرج الكادر أو قصد إليهم قصدًا.

وتبقى الشاشة ظالمة حين تعرض الغناء والموسيقى، لأنها فنون تعشقها الأذن قبل العين دائمًا، وتحن إلى تسجيلاتها الصوتية، التي تظل نبعها الخالص الذي لا تشوبه الشوائب، وفيها يكتمل تألق العازفين، نجومًا مضيئة وراء الكوكب الأعظم.

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

2

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

3

تغيير الأبجدية العثمانية.. يوم حسم أتاتورك نقاشًا سبق ولادته

تضع هذه المقالة مسألة استبدال مصطفى كمال أتاتورك الأبجدية العثمانية بالحروف اللاتينية في سياقها التاريخي بعيدًا عن موضوع التقدّم والتأخر وصراع الهوية

4

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

5

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

اقرأ/ي أيضًا
حلمي التوني

حلمي التوني: طموح أن تصبح مطربًا تشكيليًا!

قدّم حلمي التوني لوحات تنبض بعناصر التراث الشعبي ومفرداته، وكان صاحب أثر ملموس في عالم صناعة الكتب والنشر عبر ما قدّمه من أغلفة متميّزة لعل أشهرها أغلفة روايات نجيب محفوظ

محب جميل

ليفا بالستينا
ليفا بالستينا

"ليفا بالستينا".. الموسيقى العالمية وإعادة غناء فلسطين عبر الأجيال

تحكي الأغاني العالمية التضامنية مع فلسطين قصصًا مقنعة وواقعية بحتة من حياة الفلسطينيين، وتسلط الضوء على قضايا مثل الفصل العنصري والتمييز وانتهاكات حقوق الإنسان والإبادة

مهيب الرفاعي

العنف في السينما

قبضة بروس لي وأسلحة رامبو.. كيف تغير تصوير العنف في الأفلام؟

ساهم رامبو في تشكيل فهم المجتمع لتأثير الحروب على الجنود، بينما قدّم بروس لي في أفلامه رسائل تتعلق بالكرامة ومواجهة الظلم

غطفان غنوم

أفلام ومسلسلات نظرية المؤامرة

سردية المؤامرة في صناعة الترفيه الأميركي

كان رهاب الشيوعية الذي اجتاح الولايات المتحدة في خمسينيات القرن العشرين من أهم العوامل المؤثرة في ظهور قصص نظريات المؤامرة في المسلسلات والأفلام

وائل قيس

الفلامنكو والأندلس

الفلامنكو.. أصوات من بقايا الأندلس

صار الأذان الإسلامي جذرًا لفرع من فروع الفلامنكو واسمه صوليا، وهي كلمة مشتقة من كلمة صلاة في العربية، وكلمة الله التي نقولها طربًا وسلطنةً هي نفسها أصل كلمة أوليه الغجرية

يماني خلوف